لبنان
23 كانون الثاني 2025, 06:00

الرّاعي افتتح السّنة القضائيّة وإليكم كلمتة للمناسبة!

تيلي لوميار/ نورسات
إستقبل البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في الصّرح البطريركيّ في بكركي، المطارنة المشرفين على المحاكم الرّوحيّة المارونيّة والقضاة والعاملين فيها، لمناسبة افتتاح السّنة القضائيّة وللتّهنئة بالأعياد المجيدة.

في البداية، عرض المونسنيور وهيب الخواجة برنامج العمل في المحاكم الرّوحيّة، منوّهًا بـ"الجهود الّتي يبذلها جميع العاملين في المحاكم لإحقاق العدالة"، طالبًا بركة البطريرك الرّاعي مع بدء السّنة القضائيّة.

ثمّ كانت كلمة للبطريرك الرّاعي بعنوان "المحكمة: خدمة العدالة والمحبّة في الحقيقة"، قال فيها بعد التّرحيب بالحضور:  

"يُسعدني أن أرحّب بكم، وأبادركم التّهاني والتّمنّيات بالأعياد الميلاديّة، الميلاد ورأس السّنة والدّنح، متمنّيًا أن تكون لكم مواسم خير وبركات ونِعَم، وأشكر حضرة الخوراسقف وهيب الخواجه على الكلمة اللّطيفة والغنيّة بمعانيها الّتي تلاها باسمكم.

1. رسالة المحكمة الكنسيّة

وصف قداسة البابا فرنسيس رسالة المحكمة الكنسيّة بأنّها "خدمة العدالة والمحبّة في الحقيقة" (خطابه لطلّاب الرّوتا الرّوحانيّة في 23 تشرين الثّاني 2024).

هذه الثّلاث عدالة ومحبّة وحقيقة وحدة لا تتجزّأ. فبإهمال إحداها تفقد الأخريات أصالتها. في الواقع لنا القدوة في يسوع المسيح الّذي هو الحقيقة والعدالة والرّحمة. المحبّة في الحقيقة قوّة خارقة تدفع بالأشخاص إلى الالتزام بشجاعة وسخاء في حقل العدالة والسّلام. إنّها قوّة تنبع من الله الّذي هو المحبّة الأبديّة والحقيقة المطلقة. فالمسيح شاهد بحياته على الأرض، وبخاصّة بموته وقيامته، للمحبّة في الحقيقة الّتي هي القوّة الأساسيّة للإنماء الحقيقيّ لكلّ شخص وللبشريّة جمعاء.

بالنّسبة إلى المحاكم، يجب تعميق العلاقات بين العدالة والمحبّة والحقيقة. البعض يعارض بين العدالة والمحبّة، كأنّ الواحدة تقصي الأخرى. والبعض يعتبر أنّ المحبّة الرّاعويّة قد تسهّل أيّ خطوة تجاه إعلان بطلان الرّباط الزّوجيّ من أجل مساعدة الأشخاص الموجودين في وضع زوجيّ غير شرعيّ. والحقيقة نفسها قد يُنظر إليها من منظار أداة، فتكون مناسبة في كلّ حالة إلى المقتضيات المختلفة. إنّ توزيع العدالة في محاكمنا هو جوهريًّا عمل عدالة، الّتي هي فضيلة قوامها الإرادة الدّائمة والثّابتة لإعطاء الله والقريب ما هو واجب لهما. الحقّ القانونيّ يُقدّر بأقل من قيمته، وكأنّه مجرّد أداة تقنيّة في خدمة أيّ مصلحة شخصيّة حتّى غير مبنيّة على الحقيقة. المطلوب اعتبار الحقّ القانونيّ في علاقته الجوهريّة بالعدالة، علمًا أنّ في الكنيسة للعمل القضائيّ "غاية خلاص النّفوس"، وأنّ الأصول والأحكام مرتبطة أساسًا بالعدالة، وهي في خدمتها.

فيا أيّها القضاة والموظّفون القضائيّون، ويا أيّها المحامون، أنتم مدعوّون لخدمة العدالة والمحبّة والحقيقة، ولتحقيقها في عملكم اليوميّ. فتجب بالتّالي محبّة الثّلاث معًا العدالة والمحبّة والحقيقة.

2. المحبّة والعدالة

لا عدالة بدون محبّة، ولا محبّة بدون عدالة. محبّة بدون عدالة ليست بمحبّة. العدالة فضيلة أساسيّة مهمّة تعطي كلّ واحد حقّه. في كلّ جماعة وفي الكنيسة لا يكفي احترام الحقوق، بل بدافع من المحبّة توهب الذّات، وتعاش خدمة المحبّة. "فالعدالة لا تُفهم إلّا في ضوء المحبّة" (الرّسالة العامّة للبابا فرنسيس: أحبّنا Dilexit nos، 197). في الحقل القضائيّ يجب معاملة النّاس بعدالة وخاصّة بمحبّة. فلا تنسوا أبدًا أنّ من يقصدكم طالبًا ممارسة خدمتكم الكنسيّة، يجب أن يرى وجه أمّنا الكنيسة المقدّسة الّتي تحبّ بحنان كلّ أبنائها.

وهكذا نتجنّب عدالة باردة ومجرّد توزيعيّة، وبدون رحمة. فالمطلوب حيويّة المحبّة الّتي يزرعها الله في قلوبنا. وإلّا كنّا أمام شبه فضيلة غير قادرة على بناء الحياة معًا.

العدالة إذن لا تكفي وحدها، إن لم ينفسح المجال لفضيلة أخرى هي المحبّة لتكيّف الحياة البشريّة على اختلاف وجوهها. من هنا القول المألوف "منتهى العدالة منتهى الظّلم". هذا القول لا يقلّل من قدر العدالة، لكنّه يشدّد على ضرورة الغوص في قوى روحيّة أعمق من تلك الّتي يقوم عليها نظام العدالة (البابا يوحنّا بولس الثّاني؛ في الرّحمة الإلهيّة عدد 12).

لا يمكن افتراض محبّة من دون عدالة. فالمحبّة تتخطّى العدالة، لأنّ من يحبّ يعطي، يقدّم ممّا له للآخر. ولكن ليس ذلك من دون العدالة الّتي تقتضي إعطاء الآخر ما هو له. لا أستطيع إعطاء الآخر ممّا هو لي، من دون إعطائه أوّلًا ممّا يعود إليه بحكم العدالة. من يحبّ الآخرين هو عادل تجاههم (البابا بندكتوس السّادس عشر: المحبّة في الحقيقة،22). جوهر العدالة أنّها فضيلة محبّة الغير، وتحرّكنا باتّجاه خير الآخر بحيث نعرف واقعيًّا أين هي حقوقه وواجباته. فباسم المحبّة لا يمكن إهمال ما هو واجب عدالة. والرّحمة لا تمحو العدالة، بل على العكس تدفع إلى عيشها (البابا فرنسيس: خطابه إلى تلامذة الرّوتا). إنّ العدالة غير منفصلة عن المحبّة، بل هي من صميمها. وعلى القاضي الكنسيّ أن يعتبر أنّ مقتضى العدالة الأوّل هو احترام الأشخاص، وعليه بعد العدالة أن يسعى إلى الإنصاف، ومن بعده إلى المحبّة (البابا يوحنّا بولس الثّاني: خطابه للرّوتا في 17 شباط 1979). وعليه تحديد الزّواج إذا كان حقيقيًّا، فهو مرتبط بالحقيقة اّلتي تبحث بالتزام وتواضع ومحبّة (البابا يوحنّا بولس الثّاني: خطابه في 4 شباط 1980).

3. المحبّة في الحقيقة

نقرأ في رسالة البابا بندكتوس السّادس عشر: "المحبّة في الحقيقة": كلّ شيء ينبع من محبّة الله، بها كلّ شيء يتكوّن، وكلّ شيء يصبو إليها. المحبّة هي العطيّة العظمى الّتي منّ بها الله على البشر. ومن الضّرورة أن تتوافق المحبّة مع الحقيقة، ولذلك دعا بولس الرّسول إلى "الاعتصام بالحقّ في المحبّة" (أفسس 4: 15).

والرّسالة البابويّة تدعو إلى "المحبّة في الحقيقة"، بحيث يجب البحث عن الحقيقة واكتشافها والتّعبير عنها في خدمة المحبّة. ولكنّ المحبّة بدورها، يجب أن تُفهم وتُمارس على ضوء الحقيقة. نخدم بذلك ليس فقط المحبّة، بل نسهم أيضًا في مصداقيّة الحقيقة بإيضاح قدرتها على التّصديق والإقناع في واقع الحياة الاجتماعيّة الملموس" (الفقرة 2).

وتستنتج هذه الرّسالة أنّه "لا يمكن للمحبّة أن تسطع وتُعاش بأصالة إلّا في الحقيقة". فالحقيقة نور يُضفي على المحبّة معناها وقيمتها. هذا النّور هو في آن نور العقل والإيمان، الّذي به يبلغ الفهم إلى ممارسة المحبّة الطّبيعيّة والفائقة الطّبيعة. وبنور الحقيقة يدرك الفهم معنى العطيّة والقبول والشّركة.

ونتعلّم من رسالة البابا بندكتوس السّادس عشر "المحبّة في الحقيقة" أنّ "المحبّة حبّ يُقبل من الله ويُعطى؛ وإنّها نعمة ينبوعها الحبّ النّابع من الآب للإبن في الرّوح القدس؛ وإنّها حبّ ينزل من الابن علينا". هذا الحبّ الإلهيّ هو حبّ خالق منحنا الوجود، وحبٌّ فادٍ أعاد خلقنا في صورة الله، وحبُّ أظهره المسيح وحقّقه، وحبٌّ أُفيض في قلوبنا بالرّوح القدس الّذي أعطانا إيّاه المسيح من عند الآب. إنّ البشر، موضوع حبّ الله، يُجعلون فعلةً للمحبّة، ويُدعون إلى أن يصبحوا هم أنفسهم أدوات النّعمة، كي يفيضوا محبّة الله وينسجوا روابطها" (الفقرة 5).

للقاضي الكنسيّ دور خطير ولاسيّما في الدّعاوى الصّعبة، كقضايا عدم القدرة النّفسية لعقد زواج صحيح. إنّها خدمة الحقيقة والمحبّة في الكنيسة:

إنّها خدمة الحقيقة الّتي تخلّص أصالة الزّواج في قلب ثقافات وتصرّفات تظلمه.

وإنّها خدمة المحبّة تجاه الجماعة الكنسيّة الّتي تخلّصها من الشّكوك في رؤية إعلان بطلان الزّيجات بشكل أوتوماتيكيّ في أيّة حال من تعثّر الحياة الزّوجيّة أو من بعض نقص نفسانيّ.

وإنّها خدمة المحبّة أيضًا تجاه الزّوجين اللّذين، حبًّا بالحقيقة، يجب عدم إعلان بطلان زواجهما. هذه مساعدة لهم بعدم غشّهم بشأن الأسباب الحقيقيّة لعدم نجاح زواجهم، وإلّا وقعوا في ذات الأسباب في حال عقدوا زواجًا ثانيًا.

وإنّها خدمة المحبّة تجاه مؤسّسات أخرى ومنظّمات راعويّة في الكنيسة، بحيث عندما ترفض محاكمنا أن تكون وسيلة سهلة لحلّ الزّيجات المتعثّرة، يمنع كسل تنشئة الشّباب على الزّواج كشرط لعقد هذا السّرّ (البابا يوحنّا بولس الثّاني: الخطاب في 3 شباط 1987).

4. الخاتمة:

"المسيحيّة هي حضارة المحبّة الحقيقيّة" في الشّؤون الزّمنيّة: الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، كما في الحياة الزّوجيّة والعائليّة. إنّها إعلان حقيقة حبّ المسيح في المجتمع. نحن بحاجة إلى نشر هذه الحضارة، وتجسيدها في الأفعال والمواقف والمبادرات. يعلّم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أنّ "من يتّبع المسيح، الإنسان الكامل [في المحبّة والحقيقة]، يصبح هو نفسه أكثر إنسانًا".