لبنان
20 كانون الأول 2019, 10:30

الرّاعي: إنَّ فضيلتَي التَّجرُّد والتَّواضع هما الطَّاقة المحرِّكة للكاهن في حياته الرُّوحيَّة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي أمس الخميس صلاة تساعيَّة الميلاد في الإكليريكيَّة البطريركيَّة المارونيَّة – غزير، وألقى عظة بعنوان "وَوُلِدَ مِنْهَا حَقِيرًا مُتَّضِعًا مُهَانًا" (نشيد تساعيَّة الميلاد) جاء فيها:

"من وحي الميلاد نتأمَّل بفضيلةٍ كهنوتيَّةٍ هي الفقر بالرُّوح أيّ التَّجرُّد. هذه الفضيلة نتعلَّمها من حياة ربِّنا يسوع المسيح، ومن وحي المغارة. وتكلَّمَ عنها المكرَّم البطريرك الياس الحويّك في رسالته العامَّة "إلى الكاهن" في 18 شباط 1909، نعود إليها بمناسبة مئويَّة لبنان الكبير.
عندما نقف خاشعين أمام مغارة الميلاد، نشعر بالفقر ونلمسه، وقد اختاره ابن الله لنفسه في تجسُّده، ويدعونا لاتِّباعه على طريق التَّواضع والفقر والتَّجرُّد من مذود بيت لحم إلى الصَّليب؛ ويدعونا للقائه وخدمته بأعمال الرَّحمة والمحبَّة تجاه من هم أشدّ حاجة (راجع رسالة البابا فرنسيس "علامة رائعة"، 13).
فضيلة التَّجرُّد هي أوَّل تطويبة إفتتح بها الرَّبُّ يسوع إنجيل التَّطويبات المعروف بعظة الجبل: "طوبى للفقراء بالرُّوح فإنَّ لهم ملكوت السَّماوات" (متّى 3:5). الفقر بالرُّوح هو التَّجرُّد والتَّواضع، أكان الإنسان فقيرًا مادِّيًّا أم مكتفيًا أم غنيًّا. فالتَّجرُّد والتَّواضع هما من أخلاق المسيح التي يدعونا بولس الرَّسول للتَّخلُّق بها، في رسالته إلى أهل فيليبّي، حيث يقول: "ليكن فيكم من الأخلاق ما هو في المسيح يسوع: فهو مع كونه في صورة الله، لم يحسب مساواته لله غنيمةً، بل أخلى ذاته، متَّخذًا صورة العبد، صائرًا في شبه البشر وفي هيئة إنسان. فواضع نفسه، وصار مطيعًا حتَّى الموت، الموت على الصَّليب" (فيل2: 5-8).
هذه التَّطويبة الأولى، بما تنطوي عليه من تجرُّدٍ وتواضع، هي موقفٌ روحيٌّ يجعلنا نختار الله كنزنا الحقيقيّ الوحيد، فلا نعود نعبد ربَّين، ونتخلَّى عن كلِّ شيءٍ، لأنَّنا نكسب ملكوت الله أيّ الله. فلنفكِّر بمار فرنسيس الأسيزيّ وبالقدِّيس شربل، والقدِّيس خوري آرس ومار منصور دي بول كنجومٍ ساطعةٍ في سماء الفقر الرُّوحيّ المترجَم بالتَّجرُّد المادّيّ الكامل والتَّواضع.
عندما نعرف الله المتجلِّي في سرِّ المسيح نتحرَّر داخليًّا: "تعرفون الحقَّ، والحقُّ يحرِّركم" (يو 32:8)، ونكتشف أنَّ خيرات الدُّنيا وسيلةً لا غاية، فلا يتعلَّق قلبنا بها، ونتحلَّى بالقناعة في الاستعمال على ما كتبَ بولسُ الرَّسول لتلميذه طيموتاوس: "يكفينا القوت والكُسوة" (1طيم 8:6)، وأيضًا: "لم نأتِ العالم ومعنا شيءٌ، ولا نستطيع أن نخرج منه ومعنا شيء" (1طيم 6:6).
هذا الكلام يجب أن نقوله نحن بالنِّسبة لما تُوفِّرُ لنا الكنيسة من خيراتٍ مادِّيَّةٍ وثقافيَّةٍ وروحيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، وأن نتساءل: "هل أتيتُ أنا بشيء؟" إنَّ ما تُوفِّره لنا الكنيسة ليس لنا وحدنا وبالمطلق، بل هو من أجل الاكتفاء بالضَّروريّ، والتَّقاسم مع الإخوة والأخوات المحتاجين.
المكرَّم البطريرك الياس الحويّك كتبَ في رسالته "إلى الكاهن": "كما أنَّ سيِّدَنا يسوع المسيح تخلَّى عن خيرات الدُّنيا واعتنق الفقر والاتِّضاع والصَّليب متفرِّغًا للعمل بإرادة أبيه السَّماويّ، هكذا يُطلَب من خدَّام المذبح أن يتجرَّدوا من خيرات الدُّنيا والاهتمامات الباطلة، لكي يتفرَّغوا للتَّأمُّل في الحقائق الأبديَّة والصَّلاة والاضطرام بمحبَّة الله والغيرة على خلاص النُّفوس. فلا شيء يُطفئُ من القلب نار المحبَّة والغيرة ويُلاشي من العقل نور الإيمان مثل الالتصاق بخيرات الدُّنيا وأباطيلها" (إلى الكاهن، 17).
يجب أن يتنشَّأ الإكليريكيّ في المدرسة الإكليريكيَّة على روح التَّجرُّد، لكي يصبح خاصَّة المسيح الكاهن، ويكون في جهوزيَّة الخدمة حيثما تدعوه الكنيسة. يؤخَذ على الكاهن عندنا السَّعي إلى كسب المزيد من المال على حساب خدمته الكهنوتيَّة والرَّاعويَّة. ويؤخَذ عليه فقدان الرُّوح الرِّساليَّة وفقدان المجَّانيَّة في العطاء.
أحبَّائي الإكليريكيِّين، إنَّ فضيلتَي التَّجرُّد والتَّواضع هما الطَّاقة المحرِّكة للكاهن في حياته الرُّوحيَّة، وخدمته الرَّاعويَّة، واندفاعه الرِّساليّ. تساعيَّة الميلاد تسير بنا إلى اكتشاف سرّ محبَّة المسيح المتفاني بتجرُّده وتواضعه في سبيل خلاصنا وخلاص الجنس البشريّ. فندرك أنَّ التَّجرُّد والتَّواضع هما بمثابة جناحين لحياة الكاهن ومحبَّته الرَّاعويَّة.
إنَّنا نلتمسهما معًا لكي نسير على الطَّريق القويم في تلبية دعوتنا المقدَّسة، بشفاعة أمِّنا مريم العذراء والقدِّيس يوسف البتول الفقيرَين المتجرِّدَين والغنيَّين بالكنز الإلهيّ. آمين."