لبنان
05 أيلول 2022, 05:00

الرّاعي: إنّ تعمّد الشّغور الرّئاسيّ هو خيانة بحقّ لبنان

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الرّابع عشر من زمن العنصرة في الدّيمان، حيث ألقى عظة تحت عنوان "المطلوب واحد" (لو 10: 41)، قال فيها:

"1."المطلوب الأوحد" الّذي قاله يسوع لمرتا، إنّما هو سماع كلمة الله، بل هو سماع يسوع المسيح نفسه، واللّجوء إليه، والجلوس بقربه قبل البدء بأيّ نشاط أو عمل. هذا ما فعلته مريم. فامتدحها يسوع من دون أن يلوم خدمة مرتا، بل نبّهها بأنّ عملنا يأتي صالحًا ومثمرًا فينا وفي غيرنا عندما يستنير بلقاء المسيح من خلال سماع كلامه، وينال قوّة وديناميّة منه، وحبًّا في الخدمة والعطاء.

فلنسعَ كلّ يوم إلى هذا "المطلوب الأوحد" جاعلين من كلام الله نورًا لتفكيرنا، وهداية لمساعينا، وجمالًا لأعمالنا.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن أرحّب بكم جميعًا ونحن نجلس في مدرسة ربّنا يسوع المسيح، نصغي إليه من خلال كلامه المقدّس، ونغتني بثقافة الحبّ والبذل والعطاء، من ذبيحة ذاته قربان فداء عن خطايانا، ومن وليمة جسده ودمه للحياة الجديدة.

3. في خضمّ الهموم والصّعوبات والمحن الّتي يعيشها شعب لبنان، من جرّاء عدم الاستقرار السّياسيّ، والأزمة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة الخانقة، وتفكّك مؤسّسات الدّولة، وتعطيل مرجعيّات القرار الدّستوريّة، يدعونا الرّبّ يسوع في إنجيل اليوم للبحث عن "المطلوب الأوحد" والسّماع لكلام الله.

نقرأ في الإرشاد الرّسوليّ "رجاء جديد للبنان": "إنّ كلام الله يحمل قوّة وسلطانًا عظيمين، بحيث يصبح للكنيسة ركنًا عظيمًا وعزّة، ولأبناء الكنيسة منعة الإيمان، ولنفوس المؤمنين غذاءً، ولحياتهم الرّوحيّة معينًا لا ينضب" (الفقرة 39).

فيسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد، يخاطب كلّ إنسان، ويعطي جوابًا لكلّ مطلب. "نطلبه" في الفرح وفي الحزن، في الصّحّة والمرض، في الغنى والفقر، في حالات الظّلم والاستبداد والاعتداء. وحده يعرف كيف يتضامن مع كلّ إنسان، ويمشي معه طريقه.  

4. يدخل الله في حوار مع كلّ إنسان. فعندما نسمع أو نقرأ الكتب المقدّسة، الله يتكلّم. وعندما نصلّي نتكلّم نحن معه. فالّذي لا يصلّي، أو لا يعرف كيف يصلّي، دليل أنّه لا يسمع كلام الله ولا يقرأه. والّذي يسمع كلام الله ولا يعمل به، أو يتصرّف بعكسه لأشرّ من الأوّل. يقول القدّيس أثناسيوس الإسكندريّ: "لبس كلمة الله الجسد، لكي نلبس نحن الرّوح."  

5. لو يسمع المسؤولون السّياسيّون، أكانوا في الحكم أو خارجه، كلام الله الّذي يدعوهم إلى الواجب الوطنيّ، لوبّخ ضمائرهم على حالة البؤس الّتي رموا فيها الشّعب اللّبنانيّ، وعلى مسؤوليّتهم في تفكّك مؤسّسات الدّولة الّتي استهدفوها، وعلى تهجير أفضل قوانا الحيّة إلى بلدان العالم! لو سمعوا كلام الله، لتاب كلّ واحدٍ منهم وقال أمام ضميره وربّه: "خطيئتي عظيمة!".

6. إنّنا نُدين بشدّة محاولة جعلِ الآليّات الدّيمقراطيّة ضدّ المؤسّسات الدّيمقراطيّة، وتحويل الأنظمة الّتي صنعت لتأمين انبثاق السّلطة وتداولها بشكل طبيعيّ وسلميّ ودستوريّ، إلى أدوات تعطيل، يتبيّن من خلالها وجود مشروع سياسيّ مناهض للبلاد! باتت المسألة اليوم، وبكلّ أسف: من يتولّى مسؤوليّة الفراغ أو الشّغور الرّئاسيّ؟ أرئيس الجمهوريّة الّذي شارف عهده على النّهاية، أم الحكومة المستقيلة. نحن نعتبر أنّ تعمّد الشّغور الرّئاسيّ مؤامرة على ما يمثّل منصب الرّئاسة في الجمهوريّة، بل هو خيانة بحقّ لبنان، هذه الواحة الوطنيّة للحوار وتلاقي الأديان والحضارات في هذا الشّرق العربيّ.

7. إنّ طرح الشّغور الرّئاسيّ، أمر مرفوض من أساسه. فإنتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدّستوريّة هو "المطلوب الأوحد". الكلام عن شغور رئاسيّ محصورٌ دستوريًّا باستقالة الرّئيس أو وفاته أو سبب قاهر، بحسب منطوق المادّتين 73 و74 من الدّستور. فالمادّة 73 تتجنّب الشّغور بانتخاب الخلف قبل انتهاء الولاية بمدّة شهر على الأقلّ أو شهرين على الأكثر. والمادّة 74 تتفادى الشّغور المسبّب بالوفاة أو الاستقالة أو سبب آخر غير متوقّع بالدّعوة إلى انتخاب الخلف فورًا. في الحالة الحاضرة يجب تطبيق المادّة 73. ولذا بات من واجب القوى السّياسيّة الاتّفاق على شخصيّتين أو شخصيّة تحمل المواصفات الّتي أصبحت معروفة ومكرّرة، وليبادر المجلس النّيابيّ إلى انتخاب الرّئيس الجديد ضمن المهلة الدّستوريّة الّتي بدأت.

إنّ التّلاعب برئاسةِ الجُمهوريّةِ هو تلاعبٌ بالجمهوريّة نفسها، وحذارِ فتحَ هذا الباب. إنّ البطريركيّةَ المارونيّةَ، المعنيّةَ مباشرةً بهذا الاستحقاق وبكلٍّ استحقاقٍ يَتوقّفُ عليه مصيرُ لبنان، تدعو الجميعَ إلى الكَفِّ عن المغامراتِ والمساوماتِ وعن اعتبارِ رئاسةِ الجمهوريّة ريشةً في مَهبِّ الرّيح تَتقاذفُها الأهواءُ السّياسيّةُ والطّائفيّةُ والمذهبيّةُ كما تشاء، إنَّ رئاسةَ الجُمهوريّةَ هي عمودُ البناءِ الأساسُ الثّابتُ الّذي عليه تقوم دولةُ لبنان. وإذا تّم العبثُ في هذا العمود، فكلّ البناء يَسقط.

8. إنّنا نحافظ على الأمل بحصول صَحوةٍ وطنيّةٍ لدى الأحزابِ والكُتلِ النّيابيّةِ، فتبادرُ إلى فِعلِ الانتخابِ وتَقي نفسها عارَ التّاريخِ والمستقبلِ ونقمةَ الأجيالِ، خصوصًا أنَّ غالِبيّةَ الّذين خاضوا الانتخاباتِ النّيابيّةَ في أيّار الماضي التزموا أمامَ الشّعبِ بانتخابِ رئيسِ جمهوريّةٍ، وبانتهاج أَداء وطنيّ مختلف عن الأداء الّذي كان رمز التّعطيل والسّلبيّة. ولا نزال نراهن على محبّة اللّبنانيّين لوطنهم لبنان، وعلى إرادتهم في العيش المشترك، وعلى فخرهم بنظامهم الدّيمقراطيّ والتّعدّديّ والميثاقيّ، على أنّهم جميعًا سيعودون في لحظة تجلّ إلى الخطّ الوطنيّ الجامع وينقذون أنفسهم ولبنان، لأنّ لا بديل لأيّ مكوّن عن لبنان. فكلّ الانتماءات الأخرى هي انتماءات بالإعارة.

9. وبموازاة قضيّة انتخاب رئيس الجمهوريّة نرى الوضع المعيشيّ في البلاد يتراجع بشكل مخيف. فنسبة التّضخّم بلغت نحو 200% ممّا يعطّل القدرة الشّرائيّة مهما تعدّلت نسبة الأجور، ونسبة البطالة فاقت هذه السّنة الـ40% من القوى العاملة، والمصارف ضيَّقت أكثرَ فأكثر على الزّبائن رغم تعاميم المصرَفِ المركزيّ، والحكومة تورّطت في خُطّة تعاف لا تَعرف كيف تنسحب منها ولا كيف تعدّلها. لذلك إنّ مسؤوليّة الدّولة اللّبنانيّة أن تلتزمَ جدّيًّا أمام الشّعبِ بضمانِ الودائع من خلال التزام خطّة تخصيص واستثمارٍ بين القطاع العامّ والخاصّ والمصارفِ والمؤَسّسات الماليّة العربيّة الدّوليّة. وتزداد المأساة حين نكتشف أنَّ نسبة الأسر الّتي تحصل على دخل من التّقاعد وبدلات من التّأمينات الاجتماعيّة الأخرى انخفضت من 28 في المئة إلى 10 في المئة. وهناك 85 في المئة من الأسر لا تقوى على الصّمود أبدًا حتّى ولو لشهر واحد في حال فقدان جميع مصادر الدّخل.

10. مع كلّ ذلك، لا نفقد الرّجاء بقدرة الله على مسّ الضّمائر، وإنارة العقول، وإيلاد التّوبة في القلوب. له المجد والشّكر، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".