الرّاعي: إنّ أحوج ما نحتاج إليه اليوم في لبنان هو فضيلة الرّحمة
"1. كم يسعدنا أن نحتفل معًا باليوبيل الذّهبيّ لتأسيس رابطة قدامى الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة، المتخرّجين من أماكنها الثّلاثة: إكليريكيّة مار مارون- غزير، وإكليريكيّة مار عبدا- هرهريا، وإكليريكيّة مار أنطونيوس- عين ورقة، وأن ننشد مع كلّ القدامى نشيد السّيّدة العذراء: "تعظّم نفسي الرّبّ... لأنّ رحمته من جيل إلى جيل" (لو1: 46 و50). وقد اختارته الرّابطة شعارًا ليوبيلها، ليكون رسالتها في الحياة. فالرّحمة كانت الدّعوة، وبالرّحمة الرّسالة في الحياة.
2. ويطيب لي أن أهنّئ باسمكم جميعًا، كلّ أعضاء الرّابطة، وعلى الأخصّ هيئتها الإداريّة ورئيسها الدّكتور أنطوان سعد، وأن نشكرها على إعداد هذا اليوبيل وتنظيمه بالتّعاون مع جميع الأعضاء ومع إدارة إكليريكيّة غزير الّتي تستضيف الاحتفال. كم نقّدر مبادرة الرّابطة في المناسبة بإصدار "كتاب اليوبيل والدّليل". إنّه مرجع تاريخيّ أساس يحتوي الكثير من المعلومات في قسميه. في الأوّل، نجد أبحاثًا ومقالات قيّمة تختصّ بالتّنشئة الكهنوتيّة في إكليريكيّاتنا عبر مراحلها، وبالدّعوات، وبالرّابطة في نشأتها وحاضرها، وبمؤسّس الرّابطة المرحوم المونسنيور حارث خليفة الملقّب "بأبي الإكليريكيّات في لبنان". أمّا القسم الثّاني، الّذي يستحقّ كلّ ثناء وتقدير، فيجمع أسماء كلّ الّذين مرّوا في هذه الإكليريكيّات وعناوينهم. وهذا عمل شاقّ اقتضى الكثير من البحث والتّنقيب. فنشكرهم من القلب، ونسأل الله أن يفيض عليهم كلّ خير وبركة.
3. تضمّ الرّابطة كلّ الّذين عاشوا فيها وتنشّأوا. ومن بينهم بطاركة ومطارنة ورهبان، وعلمانيّون حملوا روحانيّتهم وعملهم وقيمهم منها وعاشوا في المجتمع المدنيّ لامعين بمسيحيّتهم، وبالمسؤوليّات العامّة الّتي تولّوها، كما لمعوا بمواهبهم في لبنان والخارج. ففاض عدد المنتسبين إليها على الأربعة آلاف.
4. إنّنا نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة ذبيحة شكرلله على الخمسين سنة من مسيرة رابطة القدامى هذه، "ورحمة الله ترافقها من جيل إلى جيل" (لو 1: 50). وذبيحة التزام بمسيرتها المتجدّدة، بنعمة الرّوح القدس.
5. تجهد الرّابطة منذ تأسيسها على تجسيد هويّتها الّتي تنطلق من ارتباطها العضويّ في بنية الكنيسة المارونيّة، وعلى إنماء الشّخصيّة المسيحيّة الملتزمة بتعزيز التّراث المتجذّر في الحضارة المشرقيّة الأنطاكيّة، وحقوق الإنسان، وقيم العدالة والسّلام: وبتحصين رمزيّة بكركي ودورها التّاريخيّ الرّائد والفاعل؛ وبدعم الإكليريكيّة بكلّ الوسائل المتاحة.
وقد نجحت الرّابطة، على مدى هذا التّاريخ، في تحقيق الشّركة بين الإكليروس والعلمانيّين في رسوليّة الشّهادة لمبادىء الإنجيل، وفي المساهمة في تحسين إدارة المؤسّسات الكنسيّة، وفي إصدار الموسوعات والكتب والمنشورات العلميّة الرّصينة، وفي إقامة المؤتمرات والنّدوات، بالإضافة إلى النّشاطات الاجتماعيّة والثّقافيّة الّتي أتاحت لأعضائها التّلاقي في إطار تحقيق إنجازات عديدة ومفيدة.
6. عندما عظّمت مريم الله، تنبّأت على أنّ "رحمته تدوم من جيل إلى جيل" (لو 1: 50)، ذلك أنّ العالم لا يمكن أن يعيش بعيدًا عن النّزاعات والحروب، من دون رحمة الله من جهة، ومن دون رحمة النّاس بعضهم لبعض. إنّ معظم الشّعوب يعيشون في قلق خانق: قلق سياسيّ واقتصاديّ ومعيشيّ، قلق من الجوع والحرمان والفقر؛ قلق من عدم الاستقرار المعيشيّ والأمنيّ والغذائيّ؛ قلق من عدالة ظالمة، حاقدة، فيما العدالة فضيلة بالأصل كأساس للملك. ولكنّها بحاجة دائمة إلى المحبّة، إلى الرّحمة، إلى المشاعر الإنسانيّة، لكي لا تصبح ظلمًا ثقيلًا. فالرّحمة تجلّت في سرّ موت المسيح وقيامته، ليفتدي البشر أجمعين، من أجل العدالة، وهي ترافق أبدًا البشريّة "من جيل إلى جيل"، كما تنبّأت مريم على عتبة بيت نسيبتها أليصابات، لكنّها تقتضي من كلّ إنسان أن يعيشها ويمارسها بدوره، في العائلة والمجتمع، في الكنيسة والدّولة، لكي يعيش الجميع بسلام.
7. إنّ أحوج ما نحتاج إليه اليوم في لبنان هو فضيلة الرّحمة ولاسيّما عند حكّام الشّعب بمختلف صلاحيّاتهم التّشريعيّة والإجرائيّة والقضائيّة والإداريّة، ففضيلة العدالة هي خادمة الحقيقة الوضعيّة والمتجرّدة. إنّ انعدام الحقيقة والعدالة شرّع الأبواب واسعة أمام الفساد بكلّ أبعاده. فانهارت البلاد.
8. فيما نبارك للمجلس النّيابيّ بانتخاب رئيسه ونائبه وهيئة المكتب بالطّريقة الدّيمقراطيّة، نأمل أن يكونَ هذا المجلس مركزَ تجديدِ الحياةِ البرلمانيّة والدّيمقراطيّةِ الصّحيحةِ في لبنان، حيث كان المجلسُ في المنعطفاتِ المصيريّةِ منطلقَ المصالحاتِ ومصدرَ التّسوياتِ بعد الحروبِ والأزَماتِ الكبرى. وإذ ضمّ المجلسُ الجديدُ وجوهًا جديدةً أتت من كلّ المواقع والانتماءات الحزبيّة والفكريّة، نَتطلّع إلى أن يكون ذلك مؤشِّرا على أداءٍ سياسيٍّ مسؤولٍ ومختلِفٍ لكي يشعر الشّعب بالفارق الإيجابيّ.
وفيما نترفّع عن معادلاتِ الأكثريّةِ والأقلّيّة، واصطفافِ الكُتلِ النّيابيّة، نأمل أن تترجم بالأفعال مواقفُ ممثلّي الشّعبِ وشعاراتهم والبرامجُ الّتي وعدوا بها أثناءَ حملاتِهم الانتخابيّة. فالشّعب سَئِم المواقفَ المتقلِّبةَ والمتردِّدةَ والغامضةَ والضّبابيّة. الشّعبُ يطلب أن يظلّ الّذين انتخبهم على الوعدِ والعهدِ. فلا التّغييرُ شعارًا ولا السّيادةُ أنشودةً، بل مواقفَ شجاعةً ووطنيّةً وصامدة تنقل الوطن من واقع الأزمة إلى واقع الحلّ. فالمطلوب الإسراعُ في إقرار الإصلاحاتِ الّتي ينتظرها اللّبنانيّون قبل المجتمع الدّوليّ، وتعديلها بما يتلاءم مع مصلحة لبنان أوّلًا. وأوّلُ تعديلٍ لهذه الإصلاحات يبدأ بالتّدقيقِ بخطّةِ التّعافي الّتي حَصدَت انتقادات أكثر من الاستحسان لأنّها وضعت على حسابِ المودِعين ونظامِ الاقتصادِ الحرّ.
إنّ الدّولةَ مَدينةٌ للشّعبِ قبل أنْ تكونَ مدينةً للمؤسّساتِ الماليّةِ الدّوليّة. فلْتَردّ الدّولةُ للشّعبِ جَنى عمره. وكلُّ خُطّةٍ لا تؤمِّنُ أموالَ جميعِ المودِعين ولا تحترمُ نظامَ الاقتصادِ الحرّ ولا تَضمَنُ حركةَ الأموال بين لبنانَ والعالم هي خُطّةُ إفقارٍ لا تَعافٍ، من شأنِها أن تؤدّيَ إلى ما لا يُحمَدُ عُقباه.
9. وفوق ذلك نأمل أن تنسابَ سُرعةُ انتخابِ رئيسِ المجلسِ النّيابيِّ الجديدِ على عمليّةِ تأليفِ حكومةٍ جديدةٍ وطنيّة فاعلة، لأنَّ البلادَ لا تَحتمل أيّ تسويف وتعطيل. فإنّ أيَّة عرقلةٍ لعمليّةِ التّأليفِ ستكون نقطةً سلبيّةً وعارًا على جبينِ المجلسِ النّيابيِّ الجديد، وعلى جبين كلّ مسؤولٍ معنيٍّ بهذا الموضوع. فلا الوضعُ الدّاخليُّ السّياسيُّ والمعيشيُّ والأمنيّ يسمح باستباحةِ الدّستورِ والشّرعيّةِ، ولا الوضعُ الإقليميُّ يجيز للمسؤولين اللّبنانيّين عدمَ تحصين الدّولةِ بحكومةٍ كاملةِ الصّلاحيّات. في هذا الإطار، نريد أن يبادر المجلسُ النّيابيُّ، المؤتَمنُ على الاستحقاقِ الرّئاسيّ، إلى تحضير هذا الاستحقاق من خلال خلقِ أجواء سياسيّةٍ، وإجراء الاتّصالات مع مختلفِ الكتل والأحزاب لضمانِ تأمين جلسةٍ كاملة النّصاب لانتخابِ رئيس جديد للجمهوريّة قبل نهاية عهد الرّئيس الحاليّ، كما يقول الدّستور، يكون على مستوى التّحدّيات الرّاهنة، ووحدة البلاد.
10. في هذه الأثناء إنّ واقعَ الفَقرِ المنتشِرِ بين النّاسِ وفِقدانِ الأدوية، لاسيّما أدويةُ الأمراض المزمنة والسّرطان، يحتّم على الدّولةِ إجراء كلّ الاتّصالات الدّوليّة لتأمينها بأسرعِ وقت ممكن ومراقبة توزيعها على المحتاجين الحقيقيّين.
11. إنّنا في بداية شهر حزيران المخصّص لعبادة قلب يسوع الأقدس ينبوع المحبّة والرّحمة، نلتمس من هذا القلب الإلهيّ أن يفيضهما في قلوبنا، فنجدّد وجه وطننا لمجد الله، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد".