لبنان
12 نيسان 2021, 05:00

الرّاعي: ألّفوا حكومة للشّعب من دون لفّ ودوران فلا تدقيق جنائيًا قبل تأليفها

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الجديد وعيد الرّحمة الإلهيّة في بكركي، ألقى خلاله عظة تحت عنوان "طوبى لمن لم يروني وآمنوا" (يو 20: 29)، وقال:

"1. صَعُب على توما، أحد الرّسل الإثني عشر، أن يصدّق خبر قيامة الرّبّ يسوع من الموت لشدّة الصّدمة، وقال لرفاقه الرّسل: "ما لم أرَ أثر المسامير في يديه، وأضع يدي في موضعها، وأضع يدي في جنبه، لن أؤمن" (يو 20: 25). ففي الأحد التّالي لأحد قيامته ظهر يسوع للرّسل وتوما معهم. ودعا توما ليفعل كما قال. أمّا توما إذ رأى بشريّة يسوع المتوهّجة بالقيامة رأى من ورائها ألوهيّة يسوع، وهتف بصرخة الإيمان: "ربّي وإلهي" (يو 20: 28). فقال له يسوع: "لأنّك رأيتني آمنت؟ طوبى لمن لم يروني وآمنوا" (يو 20: 29).

2. تحتفل الكنيسة، في هذا الأحد التّالي لأحد القيامة، بالأحد الجديد، لكونه أصبح "يوم الرّبّ"، بدلًا من السّبت اليهوديّ، لأنّ فيه ذكرى قيامة الرّبّ الّتي تدعونا لنكون قياميّين إلى حياة وحالة وواقع أفضل ."يوم الرّبّ" هو يوم اللّقاء بالله في القدّاس الإلهيّ الّذي فيه تتحقّق بشكل أسراريّ لا دمويّ ذبيحة الرّبّ على الجلجلة لفدائنا ومناولة جسده ودمه في العلّيّة للحياة الإلهيّة فينا.

وتحتفل الكنيسة اليوم أيضًا بعيد الرّحمة الإلهيّة الّذي أوحاه الرّبّ يسوع للرّاهبة فوستينا البولنديّة، وأكّد لها أن أحشاء رحمته تنفتح في هذا العيد لتشمل بالنّعم والبركات جميع المؤمنين والمؤمنات، وتمنحهم إذا تابوا واعترفوا بخطاياهم المغفرة وإزالة جميع القصاصات المتوجّبة لها. في سنة 1995 عمّم القديّس البابا يوحنّا بولس الثّاني العيد على أبرشيّات بولندا، وفي سنة ألفين أنشأه للكنيسة الجامعة في مناسبة تقديس الطّوباويّة فوستينا في روما. نلتمس رحمة الله علينا، وعلى جميع النّاس، لنجعلها ثقافتنا في حياتنا الاجتماعيّة عملًا بدعوة الرّبّ يسوع: "طوبى للرّحماء، فإنّهم يُرحمون" (متّى 5: 7).

3. نرحّب بكلّ المشاركين معنا حضورًا في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وبخاصّة مؤسّسة فارس فتوحي الاجتماعيّة الّتي تقوم مشكورة بمبادرات متنوّعة تساعد أبناء كسروان، عائلاتٍ وشبابًا، على البقاء في أرضهم وعلى أرض الوطن؛ وبجمعيّة آل الخوري حنّا الّتي تعمل على مستوى التّعاضد والوحدة بين أبناء هذه العائلة في بلاد جبيل. إنّنا نبارك ونشجّع كلّ الّذين، في هذه الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة الخانقة، يمدّون يد المساعدة للعائلات والأفراد في حاجاتهم، نحيّي مرشد الجمعيّة الخوري فادي خوري ورئيسها وهيأتها الإداريّة وكلّ الأعضاء وقد عرفناهم وعايشناهم في أبرشيّة جبيل أثناء خدمتنا الرّاعويّة لها. إنّنا نشكر الله على مبادرات المجتمع المدنيّ الّتي تحفظ الرّجاء في القلوب وتشجّع على الصّمود. كما نحيّي مجموعة "بكركي 2020"، الّتي تعمل مع سواها من المجموعات على إعادة لبنان إلى مبدأ الحياد وعلى دعم المجتمع الدّوليّ له.

4. "لأنّك رأيتني يا توما آمنت؟ طوبى للّذين لم يروني وآمنوا" (يو 20: 29) لم يكن كلام الرّبّ يسوع عتابًا لتوما، بل مناسبة ليعلن لنا أنّنا لا نعرفه بعد الآن بالحواس الخارجيّة بل بالإيمان. ولذلك أعطى الطّوبى للّذين يؤمنون من دون أن يروا. وهي تطويبة تُزاد على إنجيل التّطويبات بل هي الأخيرة. وتلتقي مع تطويبة إليصابات لمريم بقولها: "طوبى لتلك الّتي آمنت".

وأراد الرّبّ يسوع بكلامه القول إنّ الإيمان، مذ الآن، لا يولد من الرّؤية بل من سماع الإنجيل وكلام الله. ومن ناحية ثانية، أراد، بدعوة توما إلى لمس جراحه، أن يدعونا لنلمس جراحات إخوتنا وإخواننا الّذين فيهم تتواصل آلام المسيح الحسّيّة لفداء العالم، ولنبلسمها ببلسم المحبّة والمساعدة والتّضامن.

قيامة يسوع من الموت هي أساس الإيمان المسيحيّ بأنّ كلّ ما عمله الرّبّ وعلّمه هو حقّ. فكان الإيمان بالإنجيل، كلمة الحياة والخلاص للعالم. وقد حملها الرّسل وخلفاؤهم الأساقفة ومعاونوهم الكهنة إلى أقاصي الأرض.

5. إنّ هتاف توما: "ربّي وإلهي" (يو 20: 28) إعلان لاهوتيّ. فإسم الله في الكتب المقدّسة هو "الرّبّ الإله" بدءًا من سفر التّكوين (2: 4، 7، 15، 22). وأصبح بداية ونهاية صلواتنا اللّيتورجيّة وعلى الأخصّ عندما نتوب إلى الله ونلتمس مغفرة خطايانا والمصالحة معه، إذ نستعمل صرخة توما في مطلع فعل النّدامة: "ربيّ وإلهي أنا نادم من كلّ قلبي".

6. مرّ عيد الفصح ولم يشكّل المسؤولون المعنيّون دستوريًّا الحكومة الجديدة الإنقاذيّة كهديّة للشّعب اللّبنانيّ في العيد. لكنّهم خيّبوا آمال اللّبنانيّين مرّةً ثانية، بعد الوعد الأوّل بتقدمة هذه الحكومة عيديّة لعيد الميلاد. لكنّهم آثروا قهر اللّبنانيّين مستعملين سلطتهم، وهي من الشّعب، والعمل السّياسيّ لهذه الغاية، للهدم لا للبناء. لقد بيّنوا للجميع داخليًّا وخارجيًّا أنّهم لا يريدون تشكيل حكومة لغايات خاصّة في نفوسهم وبكلّ واحد منهم. فالتقوا في مصلحة مشتركة هي التّعطيل، وتركيع الشّعب من دون سبب، بتجويعه وإذلاله وإفقاره وانتزاع الأمل من قلبه.

7. لكنّ الشّعب اللّبنانيّ أقوى منهم بولائه للبنان، وبأخلاقيّته ومناقبيّته، هو أقوى منهم بصموده المحرَّر من أيّ ارتباط خارجيّ. ويقول لهم بلساننا إنّ أولويّةَ الأولويّات الآن تبقى تشكيلُ حكومةٍ لأنَّ قيامَ حكومةٍ كاملةِ الصّلاحيّات هو مفتاحُ الحلِّ لباقي القضايا الأساسيّةِ أكانت إصلاحيّةً أم سياسيّة، أمنيّةً أم اقتصاديّة، اجتماعيّةً أم معيشيّة. من دونِ حكومةٍ، كلُّ كلامٍ يبقى باطِلاً، وتتعمَّقُ الانقساماتُ، وتَتعمّمُ الاتّهاماتُ، وتُضربُ هيبةُ المؤسّساتِ الضّامنةِ كيانَ لبنان. وحدَها الإيجابيّةُ تُخلِّصُ لبنان، وحدَه النُّبلُ يُعيد الاعتبارَ إلى الحياةِ السّياسيّة، وحدَه التّجرّدُ من المصالحِ يُعيدُ الاحترامَ إلى الذّات. وحدَه التّفكيرُ بخيرِ الرّعيّةِ يُعزّزُ شرعيّةَ الدّولة. وحدَه التّركيزُ على الإنسانِ لا على الأشخاصِ يُصالحُ المسؤولَ مع ذاتِه وشعبِه. فالصّلاحيّاتُ والقدراتُ والقوانينُ أُنيطَت بالسّلطةِ لكي تكونَ أفعالًا إيجابيّة تُستعمل في الطّريقِ المستقيم وفي الأهداف السّامية وفي الخِيارات الصّحيحة.

الفعل الإيجابيّ أن ألِّفوا حكومةً للشّعب من دونِ لفٍّ ودوران. ألِّفوا حكومةً واخْجَلوا من المجتمعين العربيّ والدّوليّ ومن الزّوّار العرب والأجانب. ألِّفوا حكومةً وأريحوا ضمائركم. إنّ جِدَّيةَ طرحِ التّدقيقِ الجنائيّ هي بشموليّتِه المتوازيةِ لا بانتقائيّتِه المقصودة. وأصلًا، لا تدقيق جنائيًّا قبل تأليفِ حكومة. حريّ بجميعِ المعنيٍّين بموضوعِ الحكومةِ أنْ يَكُفّوا عن هذا التّعطيل من خلالِ اختلاقِ أعرافٍ ميثاقيّةٍ واجتهاداتٍ دُستوريّةٍ وصلاحيّاتٍ مجازيّة وشروطٍ عبثيّة، وكلُّ ذلك لتغطيةِ العُقدةِ الأمّ وهي أنّ البعضَ قدّمَ لبنانَ رهينةً في الصّراعِ الإقليميّ/ الدّوليّ. لا نريدُ العودةَ إلى أزمنةِ لبنان الرّهينة والوطنِ البديل، فيما نحن على مسافةٍ يومين من الذّكرى السّادسة والأربعين لاندلاعِ الحربِ على لبنان في 13 نيسان 1975. كان يومًا مشؤومًا وكانت المقاومة اللّبنانيّة.

ولكنَّ ما نخشاه هو أن يكونَ القَصدُ من تعطيلِ تشكيلِ الحكومةِ هو الحَؤولُ دون أن تأتيَ المساعداتُ لإنقاذِ الشّعب من الانهيارِ الماليّ. فالبعضُ يُريد أنْ يزدادَ الوضعُ سوءًا لكي يَفتقِرَ الشّعبُ أكثر ويَجوع، فيَيأسَ أو يُهاجرَ أو يَخضَعَ أو يَقبلَ بأيِّ تسوية، وتَتِمُّ السّيطرةُ عليه وعلى الدّولة. أَوْقِفوا إذلالَ النّاس، أَوْقفوا المسَّ بأموالِ المودِعين من خلالِ السّحبِ من الاحتياط. أَوْقِفوا الهدرَ تحت ستارِ الدّعم.

ثقوا أيّها المسؤولون، أنّ شعبنا لن يخضع، أنّ أجيالنا لن تَيأسَ. لن يُرهِبَ التّهويلُ شبابَ الثّورةِ الحضاريّةِ وشبّاتِها. قدرنا أن نناضلَ ونكافحَ لاستعادةِ لبنان من مصادريه وخاطفيه. وها أنَّ الالتفافَ الدّاخليّ والخارجيّ حول مشروعِ حِيادِ لبنان يتزايد، ويشكّل مصدر أملٍ بالمستقبل وبصِحّةِ الخيارات الّتي نتّخدها في سبيل لبنان. وها أنَّ فكرةَ عقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ خاصٍّ بلبنان تشقّ أيضًا طريقها في المحافل الدّوليّة تفهُّمًا ودراسةً وعناية.

8. نحن نتكلّم بالحقِّ وبالسّيادةِ وبمصلحةِ جميعِ اللّبنانيّين دون استثناء، نحن نتكلّمُ بإسمِ حرّيّةِ الإنسان. نحن هنا لننقذَ لبنان لا لندخلَ في متاهاتٍ وسجالات. نحن هنا لنوحّدَ اللّبنانيَّين جميعًا حولَ لبنانَ بالمحبّةِ والحوارِ والولاء. نحن هنا لنعيدَ الثّقةَ بين كلِّ مكوّناتِ لبنان وبين لبنانَ والعالم.

ونعرف أنّنا بذلك نتمّ إرادة الله الواحد والثّالوث: الآب والإبن والرّوح القدس، آمين".