دينيّة
09 تشرين الأول 2012, 21:00

الخوري داود كوكباني كوكب نيّر ولمسة رحمة

الى عزيزي الخوري داود، رحمات الله عليك. ماذا عساي اقول، باكيًا، والغصة في القلب، وقد شاهدت الاحد، الجموع الغفيرة التي ملأت كاتدرائية مار جرجس المارونية في بيروت، والمحتشدة في باحاتها والشوارع المحيطة بها، والدموع تترقرق في عيونها وحافلات تتوالى، ناقلة المؤمنين، الذين جاؤوا باعداد كبيرة، لوداعك وللمشاركة في الصلاة على نفسك الطاهرة، فكأني امام خطب جلل او وداع زعيم وطني كبير. وللحال جالت في خاطري عفوًا، صورة جموع المؤمنين، المحتشدين في باحة كاتدرائية القديس بطرس في روما، ليلة اعلان نبأ وفاة البابا الكبير يوحنا بولس الثاني وهم يرددون ويصرخون بصوت عالٍ، باللاتينية \"انه قديس حكمًا\". ظاهرة كبرى، في روما، كما في بيروت، جموع غفيرة في الكنيسة وخارجها تنادي، والكآبة تتملكها، \"ابونا داود قديس\".

ابونا داود رحمك الله،

عرفتك في مدرسة الحكمة، تلميذًا، ولم تفارقني هذه الصورة الى اليوم، عندما كنت ادخل الكنيسة فترة الفرصة، فاجدك راكعًا خاشعًا امام القربان المقدس، ويداك مرفوعتان الى ربك، ولم يخطر ببالي آنذاك انه كان بينك وبين الله حوار وكلام، وانك وقتئذ، كنت تتلمس، مذاك، صوت المسيح ومشيئته.
عزيزي الخوري داود،
تجلت العناية الالهية في حياتك بسماع صوت الرب، في مدرسة الحكمة، ثم في الاكليريكية، ثم في حياتك الرسولية كاهنًا للمسيح في رعايا عدة وخاصة خادمًا في حقل الرب تسعا وثلاثين سنة، أمضيت معظمها خادمًا لرعية مار تقلا البوشرية، مع ارشاد ومرافقة الحركات الرسولية وخاصة المريمية والرهبانيات والاخويات والمدرسة الاكليركية في عين سعاده، وكنت تتمنى ان تتم الاربعين.
ابونا داود رحمك الله،
حباك ربك مع الروح الرسولية، روحانية قلّ مثيلها، فعرفت في ضوء الانجيل، ان تكون الخادم النشيط الامين لربه، المتفاني في خدمة رعيته، النقي القلب، الطيب السيرة، الطاهر الذيل وقد منحك الرب ايضًا روح الدعة والمحبة والصدق والاخلاص، وقد زودت كل هذه الصفات بالتقوى بمؤاساة المرضى، ومنكسري القلوب، وبكل غيرة وتجرد، كم ارشدت وآزرت وآسيت وكم اصلحت وصالحت ووبخت وهذبت، داعيًا للتوبة، وبأن ملكوت الله قريب، وبذلك، قربت الناس الى الله، فأحبك الجميع وكانوا يتقاطرون لسماعك.
وفي سنواتك الاخيرة لم يشأ ربك بخالص محبته وحكمته، إلا ان يشركك في آلامه، فتجلى من خلال عذابات جلجلتك، التي كنت فيها جبارًا شجاعًا، كم كان كهنوتك يطغى على اي شيء، فبقيت على اتصال مستديم اثناء مرضك برعيتك الكبرى من مؤمنين واصدقاء ومخلصين، تسأل وتؤاسي وترشد، وقد اتصل بك نحو 850 شخصًا من ديار الاغتراب يعربون عن صلاتهم لك ويدعون لك بالشفاء، ويطلبون شفاعتك وصلاتك، ولم تكن تنظر، من خلال الجميع، إلا الى تقديس اسم الرب واتمام مشيئته وإيصال ملكوته بين الارض والسماء
عزيزي الخوري داود رحمك الله،
اتخيلك الان، تردد، على لسان بولس، "لقد جاهدت الجهاد الحسن واكملت الشوط واتممت سعيي وحفظت الايمان ولم يبق لي سوى اكليل المجد الذي وعدني به سيديواني واثق من ان المسيح معلمك الذي احبك ودعاك وارسلك، قد اعد لك، على ما جاء على لسان صاحب الرؤيا اكليل فرح ومجد في دار الخلود، حيث لا وجع ولا بكاء ولا الم، بل فرح وغبطة وسلام مع الله.
خوري داود من انت؟ انت كوكب نيّر من السماء ولمسة من قلب رحمة المسيح وشعاع من ضياء وجهه. انت من طينة اولئك القديسين الذين انبتهم هذا الجبل المقدس، واليوم، وانت في جوار المسيح، متكئ على قلبه، يصلي لك ويطلب شفاعتك كل من عرفك واحبك، وكل من احطته بعطفك وخدمته حبًا بالمسيح.
اتمنى من كل قلبي كما يتمنى الكثيرون ولا استغرب، ان يُعلن يومًا، "الخوري داود كوكباني قديسًا". حياتك بالفعل، حياة قداسة وعمل وألم، انت مثال الراعي الصالح، الذي يعرف رعيته ورعيته تعرفه. وهذا ما يذكرني بالكاتب الكاثوليكي الكبير من الثلاثينات من القرن العشرين، جورج برنانوس في كتابه الشهير الرائع "يوميات كاهن كنيسة القرية "Journal d’un curé de campagne" الذي يتكلم فيه هذا الكاهن عن رسالته، وكان شديد الهمة والغيرة والقلق في خدمة النفوس، ويتكلم ايضًا عن تفاعل نعمة الله في حياة الانسان "Le travail de la grâceويختم الكاهن يومياته عندما تصالح مع نفسه، بقوله الشهير: "ما يضير كل ذلك، ما دام كل شيء نعمة"، "Qu’est-ce que cela fait, tout est grâce".
واعود واقول، مع حسرة الفراق، لكل من خسر محبة الخوري داود ورحمته، ان له شفيعاً وقديساً جديدًا في السماء، يزيد سلسلة قديسينا الاطهار الساهرين على لبنان.