لبنان
17 آب 2017, 14:00

التّنشئة المسيحيّة - الأحد الثّاني عشر من زمن العنصرة2017

تحتفل الكنيسة في هذا الأسبوع بعيد انتقال السيّدة العذراء بنفسها وجسدها إلى السماء (15 آب): وتذكر في هذا الأحد إيمان المرأة الكنعانية التي التقت يسوع، وهو في ناحية صور وصيدا.

 

أوّلًا، عيد انتقال السيّدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء

في أوّل تشرين الثاني 1950، أعلن البابا بيوس الثاني عشر انتقال العذراء عقيدة إيمانيّة. قال: "بسلطان ربّنا يسوع المسيح والرسولَين بطرس وبولس وسلطاننا نحن، نعلن، ونذيع، ونحدّد عقيدة أوحاها الله، أنّ والدة الله الطاهرة الدائمة البتوليّة مريم، في نهاية حياتها الأرضيّة، قد نُقلت بالجسد والنفس إلى المجد السماوي". فعمّ الفرح المسيحيّة كلّها كما حدث عندما أُعلنت العذراء أم الله، في مدينة أفسس سنة 431.

سبق هذا الإعلان مراسلات بين الكرسي الرسولي والأساقفة في العالم كما أنّ الشعب المسيحي، في الشَّرق خاصّة، كان قد جعل عيد الانتقال أعظمَ أعياد العذراء. فجاء الإعلان البابوي مناسبة لتكريس تعبّد المؤمنين للعذراء وتفكير اللاهوتيِّين المُجمعين على تكريم العذراء تكريمًا يليق بها.

لقد أعلنت الكنيسة هذه الحقيقة عن العذراء وهي تعرف مَن كانت مريم وكيف عاشت على الأرض، تعرف دورها في تاريخ الخلاص ومكانتها الرفيعة في سرّ التجسّد الخلاصي. الكنيسة تعرف أنّ تاريخ البشرية قد بلغ منتهاه بفضل قيامة يسوع المسيح. ولهذا يمكنها أن تقول عن مريم أنّها دخلت في عالم الكمال، في السماء، بجسدها ونفسها. وهذه النهاية يرجوها كلّ مؤمن بنعمة الله.  

2. تأمَّل القديس يوحنا الدمشقي في هذه العقيدة قبل إعلانها، قال في إحدى عظاته:

"اليوم، تلك الحمامة المقدّسة – النفس الطاهرة النقية التي كرّسها الروح الإلهي – بعد أن طارت من الفُلك أي جسدها، الذي استقبل الله ينبوع الحياة، وجدت "مكانًا تضع عليه رجليها" (تك8: 9): لقد ذهبت إلى العالم المعقول واستقرّت على الأرض الطاهرة في الملكوت الأسمى. اليوم يستقبل عدنٌ آدمَ الجديد (المسيح)، الفردوس الروحي، حيث مُحي الحكم، وغرست شجرة الحياة (مريم) وستر عرينا، لأنّنا لسنا بعد عراة وبدون كساء، محرومين من بهجة صورة الله، ومجرّدين من نعمة الروح القدس العميمة. فإنّ ابن الله الوحيد الذي هو إله مساو للآب في الجوهر قد اتّخذ لنفسه طبيعة بشريّة من هذه العذراء ومن هذه الأرض النقية.

اليوم، العذراء البريئة من الدنس، التي لم تخامرها عاطفة أرضية، بل تغذّت بالأفكار السماوية، لم تعدْ إلى التراب؛ وبما أنّها بالحقيقة سماء حيّة، أقامت في الأخبية السماوية. فهل يخطئ إذن مَن يدعوها "سماء"؟ إلّا إذا قلنا، ولعلّه بعدل وصواب، انّها تفوق السماوات عينها بامتيازات لا مثيل لها، لأنّ مَن بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، المنظور وغير المنظور (كولسي1: 16) الذي لا مقرّ له، لأنّه هو عينه مقرّ كلّ الكائنات – لأنّ المقرّ في تحديده، يحوي ما فيه – قد جعل نفسه فيها طفلًا صغيرًا، وجعل منها مقرّ ألوهيّته الفسيح الذي يملأ كلّ شيء، وحيدًا ولا حدّ له. تجمّع فيه كلّه بدون أن يتصاغر، وهو مستقرّ بكامله خارجًا، لأنّه هو مقرّ ذاته غير المحدود.

4. كيف تقع تحت سلطان الموت، مَن كانت للجميع ينبوعًا للحياة الحقيقيّة؟ غير أنّها تخضع للشريعة التي وضعها ابنها عينه، وكابنة لآدم القديم، تفي الدين الوالدي، لأنّ ولدها عينه، الذي هو الحياة في ذاته، لم يرفض ذلك. ولكن بصفتها والدة الله الحيّ، فمن العدل أن تنقل إليه، لأنّه إذا قال الله: "لئلّا يمدّ الإنسان (المخلوق الأوّل) يده فيقطف من شجرة الحياة ويأكل فيحيا إلى الدهر... (تك3: 23)، كيف لا تعيش مدى الدهر تلك التي قبلت الحياة عينها بدون بداية ولا نهاية؟"

5. ونتساءل لماذا حصلت مريم على هذه النّعمة الفريدة منذ نهاية حياتها على الأرض ولم تنتظر نهاية العالم وقيامة الموتى شأن جميع المخلّصين؟  إنّها ولا شكّ نعمة فريدة وامتيازٌ رفيع من قِبَل الرّبّ. إنّها هي التي حُبِلَ بها بلا دنس والتي غمرها الربّ بنعمه، فشاءها أن تتحرّر من هذا الإنقسام الذاتي الذي نعيشه مع الموت. إنّها أمّ الله. فكان من اللائق أن يتمجّد جسدها مع جسد يسوع ثمرة حشاها وهي التي شاركت يسوع في حياته وآلامه. فلا عجب إذا أشركها في حالة المجد التي يعيش فيها في السّماء.

6. عندما نعلن هذه العقيدة الإيمانية نعلن رجاءنا بالربّ الذي يهبنا قيامة الأجساد والحياة الأبدية. إذا كانت مريم قد وصلت إلى تمام السعادة، وإذا كان الربّ قد وعدنا بالمشاركة في ميراثه، فنحن عندما ننظر إلى العذراء نرى فيها أوّل تحقيق لمواعيد الله. ويمكننا أن نقول: ونترجّى قيامة الموتى في الدهر الآتي.

عندما ننظر إلى أيّ مجد وصلت مريم بجسدها ونفسها، نتذكر كلام القديس بولس: "أنتم هيكل الله" (1كور3: 16). في عالم يضيع بين عبادة الجسد واحتقاره، تعلن لنا العذراء الممجّدة أن هذا الجسد سيكون بقرب الله وأن العالم كلّه سيتجدّد ليصبح أرضًا جديدة وسماء جديدة. العذراء كانت البداية وسيُتمّ الربّ قصده حتى يجمع في المسيح كلّ شيء ممّا في السماوات وفي الأرض (افسس1: 10).                                                      

ثانيًا، شرح نص انجيل الاحد

من إنجيل القديس متى 15: 21 – 28

إنْصَرَفَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي صُورَ وصَيْدا، وإِذَا بِٱمْرَأَةٍ كَنْعَانِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ النَّواحي خَرَجَتْ تَصْرُخُ وتَقُول: "إِرْحَمْني، يَا رَبّ، يَا ٱبْنَ دَاوُد! إِنَّ ٱبْنَتِي بِهَا شَيْطَانٌ يُعَذِّبُهَا جِدًّا". فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَة. ودَنَا تَلامِيذُهُ فَأَخَذُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ قَائِلين: "إِصْرِفْهَا، فَإِنَّهَا تَصْرُخُ في إِثْرِنَا". فَأَجَابَ وقَال: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل". أَمَّا هِيَ فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ وقَالَتْ: "سَاعِدْنِي، يَا رَبّ". فَأَجَابَ وقَال: "لا يَحْسُنُ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِين، ويُلْقَى إِلى جِرَاءِ الكِلاب!" فقَالَتْ: "نَعَم، يَا رَبّ! وجِرَاءُ الكِلابِ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا". حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: "أيَّتُهَا ٱلمَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين". وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ شُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا.

   1. المرأة الكنعانيّة الوثنيّة نالت مبتغاها بقوة حبّها لابنتها، وإيمانها برحمة يسوع ومقدرته. وهذا ما جعلها تواجه بشجاعة صعوبة التواصل مع يسوع، وحدّة هذا التواصل. فالحبّ يشفي كلّ شيء ويطهّر كلّ شيء. حبّ هذه المرأة تغلّب على وثنيّتها وأنالها الشفاء المطلوب. الإيمان هو "حبّ"، كما أنّ جوهر الله محبّة. فمَن يحبّ شخصًا ما حبَّا صادقًا لا بدّ أن يكون قريبًا، وقريبًا جدًّا من الإيمان. فلمحبوبه يصلّي ويشكر الله عليه ومن أجله يضحّي ومعه يحيا الفرح. هذا ما عبّر عنه القدّيس أغسطينوس بقوله: "أحبب وافعل ما تشاء".

نادت المرأة يسوع بلقبه المسيحاني: "يا ربّ، يا ابن داود ارحمني". لقد سقط النداء واللّقب في قلب يسوع، لأنّه يأتي من امرأة وثنيّة. فتظاهر بأنه لم يسمعها، ولكنّه من دون شكّ صمّمَ أن يُلبّيها ويشفي ابنتها، بعد أن يكشف إيمانها للجمع. وبسبب إلحاحها وصراخها، انزعج تلاميذه "وطلبوا منه أن يستجيب لطلبها  ويصرفها" (الآية 23).

أمّا هو فلم يستجِب، بل قال لهم: "لم أُرسَل إلّا للخراف الضّالّة من بيت إسرائيل" (الآية 24). هذا الكلام يؤكّد إيمانها الثّابت، وهي وثنيّة، ويُعلّمنا أنّ كثيرين من بني إسرائيل على عكسها فقدوا هذا الإيمان، بل رؤساؤهم نبذوه وقاوموه. فكان من الضّروري أن يُسمِعَ الجمع الذي يتبعه صرختها الإيمانيّة، وكأنّ يسوع أرادها سببًا وأداةً لاتّعاظهم بقوّة إيمانها.

2. لقد حملها إيمانها الثّابت على الوصول بشجاعة إلى يسوع، "فسجدت له وقالت: يا ربّ، ساعدني"(الآية 25). منظرٌ مؤثّرٌ وبليغ المعاني. إمرأة كنعانيّة وثنيّة تفعل ما لم يفعله المؤمنون من اليهود. فعلت ذلك بقوّة الألم والثّقة بأنّ يسوع قادر على شفاء ابنتها، وفعلته بصدق. هذه كلّها تمسّ قلب يسوع، قلب الله الحنون الرّحوم. وبسبب قيمتها كمثال وقدوة، كانت المفاجأة في جواب الربّ يسوع، بما ينطوي عليه من صدمة ودعوة: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويُلقى إلى جراء الكلاب" (الآية 26). الصّدمة هي من كلامه القاسي والمُهين إجتماعيًّا والجارح والعنصري. أمّا الدّعوة فهي لانخراطها في الحياة الجديدة، في ملكوت الله، الذي بدأ على الأرض بمثابة عهد جديد، وقد وصلَ إليها.

3. هنا بلَغَ إيمان المرأة الكنعانيّة ذروته، إذ تعالت عن الجرح، وتخطّت الإهانة والإذلال، وأجابت بنُبلٍ واحترام: "نعم يا ربّ! وجراء الكلاب تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها" (الآية 27). إنّها مثال الحوار الصّبور الخُلقي، الهادف إلى إظهار الحقيقة. إذا قارنّاه مع كلام يسوع وأجوبته، لوجدناه أجمل وأليَق. ولكنّ الربّ كان يهدف إلى إظهار إيمانها الكبير أمام الشّعب كلّه، وجعلها مثالًا أمام هذا الشّعب يدوم بدوام الإنجيل.

وأنهى حواره معها بامتداح إيمانها، وشفاء ابنتها (الآية 28).

صلاة

أيّها الربّ يسوع، بانتقال أمّك وأمّنا مريم العذراء بنفسها وجسدها إلى المجد السّماوي، بعد أن قمت أنت وصعدت إلى السّماء، قدّستَ بشريّتنا، وقدّمتَ ترشيحنا لهذا المجد. إنّنا نمجّدك ونكرّم أمّك ونلتمس السَّيرَ تحت نظرها الوالدي حتّى بلوغ ميناء الخلاص. ونسألك نعمة الإيمان والثّقة التي تحلّت بهما المرأة الكنعانيّة، ونلتجئ إليك لتشفيَنا من معاناتنا الروحيّة والأخلاقيّة والجسديّة. فأنتَ وحدك طبيبنا الشّافي. وإليك وإلى أبيك المبارك وروحك الحيّ القدّوس، نرفع نشيد المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.