لبنان
14 شباط 2017, 10:28

التّنشئة المسيحيّة - أحد تذكار الموتى المؤمنين

األقى البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي التّنشئة المسيحيّة في أحد تذكار الموتى المؤمنين وقال:

 

في هذا الأحد الثالث من أسابيع التذكارات، تذكر الكنيسة اليوم موتاها المؤمنين. هي كنيسة الأرض، المجاهدة لبناء ملكوت الله، تصلّي من أجل أبنائها وبناتها في كنيسة المطهر المتألّمة. ترفع القداسات والصلوات وتقدّم أعمال المحبة والرحمة لراحة نفوسهم والتخفيف من آلامهم المطهريّة.

 

تشمل هذه التنشئة قسمَين: كنيسة المطهر المتألّمة، وشرح نصّ الإنجيل.

 

أوّلًا، كنيسة المطهر المتألّمة

 

المطهر عقيدة إيمانية علّمتها الكنيسة في مجمع فلورنسا (سنة 1438)، وفي المجمع التريدنتيني في دورته الخامسة والعشرين (سنة1562-1563). تعلّم العقيدة أنّ الذين يموتون في حالة النعمة وصداقة الله، ولكن غير منقّين بالكامل، ولو كان خلاصهم الأبدي أكيدًا، إنّما يخضعون بعد موتهم، لتطهيرهم من خطاياهم، لكي ينالوا القداسة اللازمة من أجل الدخول في سعادة السماء (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1030).

 

في كتب العهد القديم، توجد نصوص تتكلّم عن تقديم الذبيحة التكفيرية عن الموتى، لكي يُحلّوا من خطاياهم (2 مكابيّين12: 45). والكنيسة منذ بداياتها كرّمت تذكار الموتى وقدّمت الذبيحة القربانيّة لراحة نفوسهم، لكي، بعد تطهيرهم، يبلغون مشاهدة الله السعيدة. والكنيسة توصي أيضًا بأعمال التصدّق، والغفرانات، وأعمال التوبة من أجل الموتى (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1032).

 

القدّيس يوحنا فم الذهب كان يوصي بمساعدة موتانا بالصلوات التي نقدّمها من أجلهم. في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل كورنتس إشارة إلى نار المطهر إذ يقول أن "الذي يخلص، إنّما كمن يمرّ في النار" (1كور3: 155).

 

تعلّم الكنيسة أن للخطيئة نتيجتين: الخطيئة الثقيلة المعروفة بالمميتة تفصل الخاطئ عن الشركة مع الله، وتحرمه من الحياة الأبدية. هذا الحرمان هو الهلاك الأبدي. أمّا الخطيئة العرضية التي هي تعلّق غير سليم بالمخلوقات، فتحتاج إلى تطهير سواء على الأرض، أم بعد الموت "في حالة المطهر". هذا التّطهير يُحرّر من "القصاص الزّمني". إنّ الإرتداد الذي ترافقه محبّة شديدة قد يصل إلى تطهير الخاطىء بالكليّة، بحيث لا يبقى عليه أي قصاص زمني (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1472).

 

إنّ الصلاة من أجل الموتى تندرج في شركة القدّيسين أي في صلاة التشفّع من أجلهم التي هي مشاركة في صلاة المسيح الذي يشفع من أجلنا. بقوّة شركة القدّيسين توكل الكنيسة موتاها لرحمة الله، وتقدّم من أجلهم أعمال رحمة وذبيحة القدّاس (المرجع نفسه 1055و26355).

 

*   *   *

 

ثانيًا، شرح نصّ الانجيل

 

من إنجيل القديس لوقا 16: 19-31

 

«كَانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالكَتَّانَ النَّاعِم، وَيَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَفْخَرِ الوَلائِم. وكانَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لَعَازَرُ مَطْرُوحًا عِنْدَ بَابِهِ، تَكْسُوهُ القُرُوح. وكانَ يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الغَنِيّ، غَيْرَ أَنَّ الكِلابَ كَانَتْ تَأْتِي فَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. وَمَاتَ المِسْكينُ فَحَمَلَتْهُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبْرَاهِيم. ثُمَّ مَاتَ الغَنِيُّ وَدُفِن. وَرَفَعَ الغَنِيُّ عيْنَيْه، وَهُوَ في الجَحِيمِ يُقَاسِي العَذَاب، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيد، وَلَعَازَرَ في حِضْنِهِ. فَنَادَى وقَال: يا أَبَتِ إِبْرَاهِيم، إِرْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لَعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُتَوَجِّعٌ في  هذَا اللَهِيب. فَقالَ إِبْرَاهِيم: يا ابْنِي، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْراتِكَ في حَيَاتِكَ، وَلَعَازَرُ نَالَ البَلايَا. والآنَ هُوَ يَتَعَزَّى هُنَا، وأَنْتَ تَتَوَجَّع. وَمَعَ  هذَا كُلِّهِ، فَإِنَّ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم هُوَّةً عَظِيمَةً ثَابِتَة، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْتَازُوا مِنْ هُنا إِلَيْكُم لا يَسْتَطْيعُون، ولا مِنْ هُناكَ أَنْ يَعْبُرُوا إِلَيْنا. فَقَالَ الغَنِيّ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَ لَعَازَرَ إِلَى بَيْتِ أَبي، فإنَّ لي خَمْسَةَ إِخْوة، لِيَشْهَدَ لَهُم، كَي لا يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلى مَكَانِ العَذَابِ هذَا. فقَالَ إِبْرَاهِيم: عِنْدَهُم مُوسَى وَالأَنْبِياء، فَلْيَسْمَعُوا لَهُم. فَقال: لا، يَا أَبَتِ إِبْرَاهِيم، ولكِنْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِم وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُون. فقالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: إِنْ كانُوا لا يَسْمَعُونَ لِمُوسَى وَالأَنْبِيَاء، فَإِنَّهُم، وَلَو قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَات، لَنْ يَقْتَنِعُوا!».

 

1. لا يقصد الرّبّ يسوع، في استعارة الغني ولعازر، إدانة الغنى وامتداح الفقر، بل إدانة سوء إستعمال الغنى، وامتداح فضيلة الصّبر في قبول حالة الفقر.

 

الغنى، ماديًّا كان أم معنويًّا أم ثقافيًّا، عطيّة من الله وامتياز لأنّه من علامات بركات الله. وقيمته أنّ الغنى يُمكّن صاحبه من أن يعكس وجه الله عندما يُعطي، ويُشرك غيره في عطايا الله أو يتقاسمها معه. وقيمته أيضًا أنّ صاحبه يُصبح يد الله المنظورة التي تُعطي وتساعد وتُشرك. ويختبر بذاته كرم الله. مشكلة ذاك الغنيأنّه نسيَ المعطي الأساس، الذي هو الله، وتعلّقَ قلبه بالعطيّة. وبدلاً من أن يكون غنيًّا في يده  وقلبه، أصبح غنيًّا بالمال وفقيرًا بالقلب من الحبّ والرّحمة والحنان. هذا التعلّق المفرط والمطلق بالعطيّة، عبّر عنه الربّ يسوع بأنّ ذاك الغني كان "يلبس البرفير والأرجوان، ويتنعّم كلّ يوم بأفخر الولائم" (لو16: 199).

 

القديس لويس التاسع ملك فرنسا كان يلبس الثوب الملوكي الرفيع، لكنّه كان مثالاً في الفقر بتجرّده عن التعلّق بالماديّات. كان قلبه متعلّقًا بالله. لا يسألنا الله في مساء الحياة عمّا في  أيدينا، بل عمّا في قلبنا.

 

ليست إذن مشكلة الغني في ممتلكاته، بل في سوء إستعمالها وسوء تصرّفاته. لم يعرف إلّا لذّة الأخذ، ولم يختبر سعادة العطاء. ما جعله أصمّ وأعمى عن سماع أنين لعازر، وعن رؤيته منطرحًا في بؤسه أمام باب دارته. سيقول لنا يسوع فيما بعد أنّه يتماهي مع كلّ لعازر (راجع متى 25: 35-36).

 

2. الفقر ليس نعمة وبركة من الله، بحسب مفهوم الكتاب المقدّس. ويدعو كلّ قادر، بالكثير أم بالقليل، لمساعدة الفقير من أجل الخروج من فقره. هذا هو الهدف من استعارة الغني ولعازر. غير أنّ الفقر يُساعد الإنسان، من الناحية الإيجابيّة، على إدراك محدوديّته أمام غنى الله وقدرته، ويساعده على التّواضع  والصّبر والقناعة. وهي فضائل أساسيّة نحتاجها في حياتنا اليوميّة. فيكون الفقير فقيرًا بمادّياته، أمّا بالمقابل فغنيًّا بقلبه وقيمته وكرامته.

 

وفيما المال يحمل صاحبه، في أغلب الأحيان، على ارتكاب الخطيئة والشّرّ، فإنّ الفقر يحمل الفقير على العيش في مرضاة الله والإبتعاد عن الخطايا. فيعيش بسلام وراحة وطمأنينة. وينشد صلاة المزمور: "الربّ راعيّ فلا يعوزني شيء" (مز23). قيمة الفقر، بكلّ مفاهيمه الماديّة والروحيّة والثقافيّة والمعنويّة، أنّ المسيح يتماهى مع صاحبه. ولذا مَن يخدم الفقير يخدم المسيح نفسه (راجع متى 25: 40).

 

3. لاستعارة الغني ولعازر مفهومٌ آخر. "لباس البرفير والأرجوان" هو علامة السّلطة والمسؤوليّة. فلا يقف المسؤول عند حدّ اللباس للتّباهي، بل يتعدّاه إلى روح المسؤوليّة عن شعب من أجل تأمين خيره بكلّ أبعاده، وفقًا لمهامه في الدولة أو المجتمع أو العائلة أو الكنيسة، ولما تقتضي كلّ  مسؤوليّة من موجبات بحسب المهام والوظائف.

 

كلّ سلطان، بحسب ترتيب النّظام الطبيعي، هو من الله من أجل الخير العام، الذي منه خير الجميع وخير كلّ إنسان. وسيطالب الله كلّ مسؤول بالحساب عن وكالته. وعليه، يطلب من كلّ وكيل- مسؤول أن يكون أمينًا  وحكيمًا. فلا تتحوّل المسؤوليّة، وهي في الأساس إنعام ونعمة، إلى إدانة ودينونة تفضي إلى الهلاك الأبدي.

 

هذا ما جرى للغني، الذي أساء استعمال مسؤوليّته، وقد انتهى "في الجحيم يُقاسي العذاب" (لو16: 23). ما استوجب إدانته وهلاكه، إنما هو التخلّي عن مسؤوليّة المساعدة للعازر الفقير، وعن رؤيته في بؤسه. هذا نداء ضمير إلى كلّ مسؤول، وبخاصّة  إلى المسؤولين في الدولة وأصحاب السلطة السياسيّة، التشريعيّة والإجرائيّة والإداريّة والقضائيّة.

 

4. عندما يصف الربّ يسوع فقر لعازر، يبيّن أنّه غير قادر على العمل، لكي يكسب خبزه بعرق جبينه: "كان مطروحًا تكسوه القروح" (الآية 20). إن اسم "لعازر"رمزي ويعني "الله قوّتي وسندي. لم يبقَ لي في هذه الدنيا سواه". يجب التمييز بين الكسول الذي لا يريد أن يعمل ويتّكل على غيره، والفقير الذي لا يستطيع أن يعمل. فشريعة العمل واجبة على كلّ قادر جسديًّا وفكريًّا. والعمل أمر مقدّس لأنّه يكمّل عمل الله الخالق. فمن بعد أن خلق الأرض وما عليها سلّمها للإنسان الأوّل "كي يحرثها ويحرسها" (تك 3: 18). ويوضح بولس الرسول هذا الأمر بشكل جذري: "مَن لا يعمل، لا يأكل" (2تس3: 10). وقد أعطى المثال بنفسه: "نحن لم نأكل الخبز مجّانًا من أحد، بل كنّا نعمل بتعب وكدّ، ليل نهار، لئلّا نثقّل على أحد منكم" (2تس3: 8). الخضوع لشريعة العمل المقدّسة إنّما هو خضوع لمشيئة الله، وفقًا للمثل الذي أعطاه الربّ يسوع عن الابنَين: فالابن الذي لم يذهب للعمل قد خالف إرادة أبيه، والابن الذي التزم بالعمل قد تمّم مشيئة أبيه (متى21: 28-32).

 

البطالة عيب لأنّها أمّ الرذائل، ولأنّها اتّكال على تعب الغير ولو كان الوالدان.

 

5. كان يكتفي لعازر بالفتات المتساقط عن مائدة الغني. "الفتات" يشمل ما يفضل من طعام في البيوت والولائم والمطاعم، ويُهدَر من دون شفقة. كم هو مهمّ الإحساس الإنساني مع الفقراء المتضوعين جوعًا، وبدل هدر عطايا الله، إعطاؤهم إيّاها. إنّنا نقدّر الجمعيات والمؤسّسات، التي تجمع ما يفضل في المطاعم والولائم الكبيرة، وتوزِّعه على العائلات المحتاجة، أذكر على سبيل المثال "عائلة قلب يسوع".

 

"والفتات" يشمل أيضًا الملابس والأحذية، كذلك أواني وأثاث البيوت، التي تفيض لدينا ولا تُستعمل، وتبقى مكدَّسة من دون فائدة، وقد تُهدر يومًا. هذه ايضًا يجب تقاسمها مع العائلات المحتاجة والفقيرة.

 

6. كلّ إنسان يرسم طريق أبديّته بيده. الغني وضع كلّ قلبه وهدفه واهتمامه في شؤون الأرض، من دون أي اعتبار لله الذي أغدق عليه عطاياه، وللإنسان لعازر المائت جوعًا على بابه. "فلما مات قُبر"، ما يعني أنّه عاش للأرض وللتراب، وبالتالي كان مصيره جهنّم والهلاك الأبدي. تمامًا على عكس لعازر الذي، لمّا مات، "حملته الملائكة إلى بيت الآب حيث ينعم بالسعادة الأبديّة". وبات الغني فقيرًا، يلتمس من لعازر أن يبلّ طرف إصبعه بماء ويبرّد لسانه المتوجّع من اللّهيب" (الآية 24). يتوسّل باسم رباط الأخوّة الإنسانيّة مع لعازر، غير انّه لم يعرفها هو في حياته. ولكن لا مجال لذلك بعد الموت، إذ تنتهي معه كلّ إمكانيات الإصلاح والتعويض. كان بإمكان الغني أن ينجو من هلاكه في جهنم، لو اعتبر أن "خيراته" هي من الله ولله لكي يتقاسمها مع لعازر المحروم منها. لقد رفض الغني الله في كل أيام حياته، ولم يتعرّف عليه، ولم يعترف به كأب ومصدر للحياة وللخير. ولا جدوى من الاعتراف به بعد الموت، فالحياة هي المناسبة، طويلةً كانت أم قصيرة، للتعرّف إلى الله. الحياة مسؤوليّة كبيرة.

 

7. أدرك الغني أن سبب هلاكه عدم الاهتمام بلعازر الفقير المطروح أمام بابه. فطلب أن يرسل الله لعازر إلى إخوته الخمسة، لكي يغيّروا مجرى حياتهم، فلا يقعوا في مكان العذاب مثله. لكن الجواب هو أنّ كلام الله الموجّه إلى كلّ إنسان في الكتب المقدسة (موسى والأنبياء) هو ضمانة خلاصه ولا حاجة لأن يقوم أحد الموتى ليشهد (الآية 29).

 

إنّ الكنيسة، المؤتمنة على تعليم كلام الله ونقله وتفسيره والتعمّق فيه، هي الهادية لكلّ إنسان، فينجو من الهلاك الأبدي.

 

*   *   *

 

صلاة

ايّها الربّ يسوع، أعطِ الراحة الأبدية الموتى الذين افتديتهم بدمك، وغذوتهم بجسدك ودمك، وأشركتهم في ميراثك الأبدي، وقد نالوا عربونه بالمعمودية ومسحة الميرون. لقد أفهمتنا في الإنجيل أنّ الطريق الخلاصي إليك يمرّ بالإنسان المحتاج إلى فعل محبة ورحمة. امنحنا نعمة الإدراك بأنّ خيرات الأرض موجّهة من الله لجميع الناس، وأنّ الملكية الفردية مشترطة بالتقاسم، ويقع عليها رهن أعمال الخير والرحمة. أشعل، أيّها المسيح، محبّتك في قلوبنا، لكي تضطرم بها تجاه الإخوة في حاجاتهم، فتصبح أعمالُنا نشيدَ تسبيح لرحمة الله ومحبته اللامتناهية، الآن وإلى الابد، آمين.