التنشئة المسيحيّة - الأحد الحادي عشر من زمن العنصرةّ
ينكشف في هذا الأحد وجه المسيح الرحوم الذي يبحث عن الخاطي ليحييه، والضائع ليهديه، والمريض ليشفيه. إنّه وجه الكنيسة ورسالتها. وهي تدرك أنّها، إذ تقوم برسالتها المثلّثة: التعليم والتقديس وخدمة المحبة، إنّما تواصل عمل المسيح، وهو الفاعل من خلالها. إنّها باسمه وبشخصه تؤدّي الرسالة.
أولاً، شرح نص الانجيل
من انجيل القديس لوقا 19: 1-10
دَخَلَ يَسُوعُ أَرِيْحا وَبَدأَ يَجْتَازُها، وإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، كانَ رَئِيسًا لِلْعَشَّارِينَ وَغَنِيًّا. وكَانَ يَسْعَى لِيَرَى مَنْ هُوَ يَسُوع، فَلَمْ يَقْدِرْ بِسَبَبِ الجَمْعِ لأَنَّهُ كانَ قَصِيرَ القَامَة. فَتَقَدَّمَ مُسْرِعًا وَتَسَلَّقَ جُمَّيْزَةً لِكَي يَرَاه، لأَنَّ يَسُوعَ كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ بِهَا. وَلَمَّا وَصَلَ يَسُوعُ إِلَى المَكَان، رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُ: "يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وٱنْزِلْ، فَعَلَيَّ أَنْ أُقِيمَ اليَومَ في بَيْتِكَ".فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وٱسْتَقْبَلَهُ في بَيْتِهِ مَسْرُورًا. وَرَأَى الجَمِيعُ ذلِكَ فَأَخَذُوا يَتَذَمَّرُونَ قَائِلين: "دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئ".أَمَّا زَكَّا فَوَقَفَ وَقَالَ لِلرَّبّ: "يَا رَبّ، هَا أَنَا أُعْطِي نِصْفَ مُقْتَنَياتِي لِلْفُقَرَاء، وَإنْ كُنْتُ قَدْ ظَلَمْتُ أَحَدًا بِشَيء، فَإِنِّي أَرُدُّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَضْعَاف". فقَالَ لَهُ يَسُوع: "أَليَومَ صَارَ الخَلاصُ لِهذَا البَيْت، لأَنَّ هذَا الرَّجُلَ هُوَ أَيْضًا ٱبْنٌ لإِبْرَاهِيم. فإِنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ جَاءَ لِيَبْحَثَ عَنِ الضَّائِعِ وَيُخَلِّصَهُ".
1. لم يمرّ يسوع في مكان ووسط شعب، مرورًا سطحيًّا، خارجيًّا، اجتماعيًّا. بل يمرّ حاملًا في قلبه محبّته ورحمته ليوزّعها على كلّ مَن يطلبها ويحتاج إليها. إنّه يحمل همَّ خلاص كلّ إنسان من معاناته الروحية والجسدية والمعنوية. لقد أتى مخلّصًا وطبيبًا للأجساد والنفوس والأرواح.
وهو يمرّ في أريحا، "رأى زكا الغني ورئيس العشّارين يتسلّق جمّيزة ليراه" (لو19: 1-4). فقرأ يسوع مكنونات قلبه، أي رغبته الصادقة في معرفة يسوع. هذا كان كافيًا ليدعوه باسمه، ويدخل بيته، فتجري توبة زكا، ويحصل التبديل الجذري في حياته. هذا هو اللِّقاء الوجداني مع يسوع. يبدأ برغبة في القلب، وينتهي بحياة جديدة.
الناس ينظرون عادة إلى الخارج ويحكمون على الإنسان، كما فعلوا عندما دخل يسوع بيت هذا الرجل الخاطي. لكن يسوع ينظر إلى داخل الشخص البشري ويخاطب قلبه بنظرة حنان وكلمة محبة. ولذا، ما جرى في داخل بيت زكا كان مناقضًا تمامًا لِما كان يفكّر به الجمع، متذمِّرين وقائلين: "في بيت رجل خاطي دخل يقيم" (الآية 7). لماذا هذا العشّار الغني كان معتَبَرًا خاطئًا؟
2. العشّارون هم جباة ضريبة عشر فرضها الرومان على اليهود. فالعهد القديم يفرض على تأديّة المؤمن العشر لله، ويسدّده في الهيكل. وبما أنّ الإمبرطور الروماني كان يعتبر نفسه إلهًا، وجد من حقّه أن يأخذ هو أيضًا العشر، على غرار إله إسرائيل. فيكون على اليهوديّ دفع عشرين بالمئة من مدخوله، عدا الضريبة العاديّة المفروضة للدولة الرومانيّة (فالعشر يؤدّى لشخص الامبرطور). كلّ هذه الضرائب أرهقت الشعب اليهوديّ وأفقرته. مما حضّر الأجواء للثورة ضدّ الاحتلال الرومانيّ.
لم يخفَ الأمر على الامبرطور، لذلك ارتأى أن يوظّف يهودًا لجباية العشر من الشعب؛ فيسلم الرومان من المواجهة مع الشعب. إلا أنّ العشّارين اليهود، المدعومين من الرومان، لم يكتفوا بتحصيل عشرة بالمئة فقط، بل أخذوا من الناس مبالغ أكبر، وكانوا يحتفظون بالفارق لأنفسهم، بالرغم من أنّهم كانوا يتقاضون أجرًا كبيرًا للقيام بمهامهم. لذلك، أضحى العشّارون أغنياء بالمال الحرام.
فرفضهم الشّعب واعتبار كلّ عشّار لصًّا، لأنّه يسرق مالاً ليس له؛ وظالمًا، لأنّه لا يرحم الفقير والجائع؛ وخائنًا، لأنّه يتعامل مع المحتلّ؛ وكافرًا، لأنّه يساعد الامبرطور على جعل نفسه إلهًا.
وهكذا العشّار منبوذ لأنّه ساقط على المستوى الأخلاقيّ والاجتماعيّ والوطنيّ والدينيّ. نحن هنا أمام مشهد "رئيس للعشّارين" أي من يفوقهم في كلّ شيء، لكثرة ما جمع من أموال الناس.
3. هذا العشّار المنبوذ من الناس، نظر إليه يسوع نظرة حبّ وحنان ورحمة. فكانت كافية، كي يفتح زكا قلبه، ويعترف بخطيئته المزدوجة: إهمال الفقراء، وارتكاب الظّلم بحقّ الناس؛ ويفرض على نفسه توبة التغيير والتعويض: يعطي الفقراء نصف مقتنياته، ويردّ إلى الذين ظلمهم أربعة أضعاف (راجع الآية 8). فما كان من يسوع إلّا أن يمنحه الغفران عن الخطايا والمصالحة مع الله بقوله: "اليوم صار الخلاص لهذا البيت... فإنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلّصه" (الآية 9).
4. مفتاح هذا اللقاء الوجداني مع يسوع، الّذي أحدث تغييرًا جذريًا في حياة زكّا، هو المبادرة المميّزة الّتي قام بها، وقدّرها يسوع. فلقد أسرع زكّا وتسلّق جمّيزة، ليرى يسوع، ليخاطبه بنظرة صادرة من القلب، فيها إعجاب بشخصه وبتعليمه، ورغبة في إمكانيّة اللقاء به يومًا ما.
هذه الحركة الّتي قام بها زكّا، وهو الغني والرّئيس المعروف، تنطوي على فضيلتين: التّواضع والتجرّد من الذّات. لقد صنع ما يصنعه الأطفال ببساطة قلوبهم. لقد طبّق زكّا، من حيث لا يعلم، كلام الرّب يسوع: "إن لم تصيروا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السّماوات" (متّى 18: 3). هذان الفضيلتان هما طريق المسيح إلى الإنسان، وطريق الإنسان إلى المسيح. من أجل اللقاء بالمسيح، يجب كسر الحواجز واستعمال أبسط الوسائل المتاحة. زكّا تجاوز موقعه الإجتماعي وغناه، واستعمل الجمّيزة ليرى يسوع. والمسيح الّذي يعرف خفايا القلوب يتدخّل ويتجاوب أكثر ممّا نحن ننتظر.
كان صادقًا زكّا في عاطفته تجاه يسوع، ففكّر وخطّط وتقدّم الجمع وتسلّق الجمّيزة منتظرًا، لأنّ يسوع كان مزمعًا أن يمرّ بها (راجع الآية 4).
الإيمان يستدعي تأمّلاً وتفكيرًا وتخطيطًا وحسن التّدبير. ليس الإيمان تسليمًا أعمى فوضويًا. أمّا القول: "خلّيها عَ الله" فنقوله بعد استنفاد كل تفكيرنا والتّدبير.
تسلّق زكّا الجمّيزة ليرى يسوع من أجل المعرفة، أمّا يسوع فرآه من أجل خلاصه (الآية 5). نظرة يسوع دائمًا رحومة. هكذا ظهر في كل لقاءاته الإنحيليّة: "نظر وتحنّن". يعلّمنا ويدعونا لننظر دائمًا كذلك.
أربع كلمات كبيرة المعاني استعلها يسوع، عندما نادى زكّا باسمه، ودعاه لينزل: "عليّ أن أقيم اليوم في بيتك" (الآية 5).
عليّ: أي من واجبي. خلاص زكّا واجب على المسيح، لأنّه لهذه الغاية جاء يسوع، ابن الله المتجسّد، إلى أرضنا، مرسلاً من الآب لخلاص كلّ إنسان.
أن أقيم: ليست زيارة عابرة، بل إقامة دائمة، لا حسّية بل وجوديّة، بحضور النّعمة الإلهيّة المرافقة.
اليوم: هو يوم الخلاص، ملء الزّمن بالنّسبة إلى زكّا. هو اليوم الحاسم في حياته الّذي يريده الله. ولذلك ناداه باسمه. ما يعني أنّه معروف عند المسيح المخلّص، وكأنّه يقصده هو في زيارته لأريحا. من الواجب أن يترقّب كل واحد وواحدة منّا "يومه" مع الله، وهو اليوم الّذي يصوّب مجرى حياته ويعطيها معناها ومبرّر وجودها.
في بيتك: يعني من داخل قلبك، البيت الدّاخلي، وفي عائلتك. من خلال زكّا دخل المسيح بيته وأفراد عائلته. فكان هو سبب خلاص لها. ولذا قال يسوع، بعد توبة زكّا والتزامه بالتكفير والتعويض عن خطيئته: "اليوم دخل الخلاص إلى هذا البيت" (الآية 9).
وهكذا أتمّ يسوع رسالته الخلاصيّة.
*********
ثانيًا، الجمعيّة العموميّة لسينودس الأساقفة الخاصّة بالشبيبة (تشرين الأوّل 2018)
نواصل نقل مضمون الفصل الثّالث من وثيقة الخطوط العريضة، وهو بموضوع "راعويّة تمييز الدّعوة لدى الشّبيبة"، من خلال مرافقة الشّبيبة. من مقتضيات هذه المرافقة، ننقل اليوم أدواتها الثّلاث:
1- لغّة المرافقة:
يوجد مسافة بين لغّة الكنيسة ولغّة الشّبيبة، بالرّغم من وجود اختبارات كثيرة خصبة مع الشّبيبة، بواسطة لغّة الكتاب المقدّس والليتورجيا والفن والتّعليم المسيحي ووسائل الإعلام. ومن بين الأدوات الفعّالة للمرافقة: الرّياضة والموسيقى والتّعابير الفنيّة.
2- مسار الأنجلة والتربية
فضلاً عن مسار المقاربة من خلال الإيمان، ينبغي الإهتمام بتربية الشّبيبة إنسانيًا، وتنميتها، والجمع بين الأنجلة والتربية، مع الإهتمام بالميزات الشّخصيّة الخاصّة بكلّ شاب وشابّة، كما كان يفعل يسوع في مقاربات أهل زمانه، من مثل نيقوديمس، والمرأة الخاطئة، والسّامريّة، وسواهم.
3- الصّمت والتّأمّل والصّلاة
لا يمكن تمييز الدّعوة الشّخصيّة من دون حياة حميمة مع الله. وهذه تتمّ من خلال قراءة الإنجيل والكتب المقدّسة، والتأمّل، والصّلاة، والصّمت بعيدًا عن ضجيج المجتمع والعالم.
وينتهي الفصل الثّالث باتّخاذ مريم العذراء قدوة ومثالاً في تمييز الدّعوة، وبوضع مرافقة الشّبيبة في تمييز الدّعوات تحت حمايتها. يجد فيها كلّ شاب وشابّة نهج الإصغاء بالقلب، وشجاعة الإيمان، وعمق التّمييز، والإلتزام الخّاص، والثّقة الكاملة بكلام الله.
وبكونها تسلّمت الأمومة من ابنها المصلوب، لشخص يوحنّا، ومن خلاله لكل شاب وشابّة، فولدت حياة النّعمة في تاريخ البشر، يستطيع كلّ شاب وشابّة أن يرى في عينيها جمال تمييز دعوته الخاصّة.
صلاة:
أيّها الرّب يسوع، بلقائك مع زكّا في أريحا، كشفت لنا أنّك تبحث عن كلّ إنسان في ضعفه الخاص، كي تقوّيه وتحيّيه وتشفيه، جسدًا ونفسًا وروحًا. لكنّك تنتظر منه حركة أو مبادرة بسيطة، كما فعل زكّا.
أعطنا نعمة هذا اللقاء الوجداني الّذي يغيّر مجرى حياة كلّ واحد وواحدة منّا. كم نرجو أن يكون لنا يومٌ مثل يوم زكّا، تتبدّل فيه حياتنا إلى الأفضل والأجمل!
ساعد الشّبيبة في الاستعداد التّشاوري لجمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بها. أعضد الّذين يرافقون شبابنا في تمييز دعوتهم كي يحسنوا استعمال الأدوات الفعّالة لذلك. هذا ما نسألك بشفاعة أمنا مريم العذراء، ومعها نرفع المجد والتّعظيم للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.