لبنان
25 تشرين الأول 2016, 06:20

التنشئة المسيحية : "سنُدان على أعمال الرحمة"

ألقى غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي التنشئة المسيحية للأحد الأخير من زمن الصليب ولمناسبة عيد المسيح الملك تحت عنوان "سنُدان على أعمال الرحمة" (متى 25: 31-46)، جاء فيها:

 

في هذا الأحد الأخير من زمن الصليب، تقرأ الكنيسة إنجيل المسيح الملك الذي يدين كلّ إنسان والبشرية جمعاء على أعمال المحبة والرحمة. فهو جسّد هاتَين الصفتَين من طبيعة الله: "الله محبّة" (1يو4: 8) "والله غنيّ بالرحمة" (أفسس2: 4). النصّ الإنجيلي للمناسبة هو بمثابة "وصيّة يسوع الأخيرة". لقد علّمنا أن"نكون رحماء كما الآب رحيمٌ هو" (لو6: 36). ويؤكّد لنا الربّ يسوع أنّنا نكون كذلك "عندما نُطعم الجائع، ونسقي العطشان، ونكسي العريان، ونأوي الغريب، ونزور المريض، ونفتقد السجين" (راجع متى25: 35-36).

 

أوّلاً، شرح الإنجيل

 

من إنجيل القديس متى 25: 31-46

قالَ الرَبُّ يَسُوع: «متى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وَجَمِيعُ المَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ. وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَاعِي الخِرَافَ مِنَ الجِدَاء. ويُقِيمُ الخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ. حِينَئِذٍ يَقُولُ المَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني، وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ. حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، متى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟ ومتى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟ ومتى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟ فَيُجِيبُ المَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاءِ الصِغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه! ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إِلى النَارِ الأَبَدِيَّةِ المُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛ لأَنِّي جُعْتُ فَمَا أَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَمَا سَقَيْتُمُوني، وكُنْتُ غَريبًا فَمَا آوَيْتُمُونِي، وعُرْيَانًا فَمَا كَسَوْتُمُونِي، ومَرِيضًا ومَحْبُوسًا فَمَا زُرْتُمُونِي! حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ هؤُلاءِ أَيْضًا قَائِلين: يَا رَبّ، متى رَأَيْنَاكَ جاَئِعًا أَوْ عَطْشَانَ أَوْ غَرِيبًا أَو مَريضًا أَو مَحْبُوسًا ومَا خَدَمْنَاك؟ حِينَئِذٍ يُجِيبُهُم قِائِلاً: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا لَمْ تَعْمَلُوهُ لأَحَدِ هؤُلاءِ الصِغَار، فلِي لَمْ تَعْمَلُوه. ويَذْهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إِلى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة».

 

 شرح قداسة البابا فرنسيس هذا النصّ الإنجيلي في خطاب مقابلة الاربعاء (12 تشرين الأوّل 2016). قال: لا يكفي أن نختبر رحمة الله في حياتنا، بل يجب على مَن يقبلها أن يصبح بدوره علامةً ووسيلة لها تجاه الآخرين. ليست الرحمة محصورة بأوقات خاصّة، بل تشمل كلّ ظروف حياتنا اليوميّة. ليس المطلوب أن نحقّق أعمالًا كبيرة أو أن نبذل جهودًا فائقة. بل يدعونا المسيح في إنجيل اليوم إلى مبادرات محبة ورحمة صغيرة تجاه الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين. إنّها أفعال صغيرة بحدّ ذاتها لكنّها، فضلًا عن كونها علامة إيمان عميق وانتباه مسؤول ومشاعر إنسانية، فهي ذات قيمة في نظر الربّ، لدرجة أنّه سيديننا عليها. والسبب الأساسي هو أن الاعتناء بهؤلاء المحتاجين والفقراء والمعوزين في الحالات  الجسدية الستّة، إنمخا يعتبره "مصنوعًا له ولإخوته الصغار" (متى 25: 40).

 

 إلى جانب هذه "الأفعال الجسديّة" الستّة، يوجد بالمقابل، يقول البابا فرنسيس، "ستّة أفعال رحمة روحيّة"، تختصّ بحاجات مهمّة في حياة الناس، وتمسّهم في الصميم، وهم يتألّمون منها كثيرًا. هذه الأفعال هي: المشورة للّذين يعيشون في الشّك والتردّد، تعليم الجهّال، تنبيه الخطأ والمخطئين، تعزية الحزانى، مغفرة الإساءات، الصلاة إلى الله من أجل الأحياء والموتى. ويضيف إليها البابا فرنسيس: احتمال الأشخاص المزعجين بصبر، وهذا فعل محبة كبير.

 

 يُتاح لنا القيام بأفعال الرحمة الجسدية والروحية كلّ يوم وفي كلّ لحظة. ولا يمكن التحجّج بعدم وجود وقت، أو بأنّ المسؤوليّة تقع على غيري، أو أنّ إمكانيّاتي ضئيلة. فلا بدّ من أن أقف وأستمع لهؤلاء، وأضيّع بعض الوقت معهم، وأعزّي وأشجّع. يؤكّد الربّ يسوع أنّنا بذلك نعتني به هو: "كلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي تفعلونه" (الآية 40). إنطلاقًا من هذه الحقيقة الخطيرة كان يردّد القدّيس أغسطينوس: "أخاف أن يمرّ يسوع "Timeo Jesum Transeuntum" (العظة 88، 14، 17)، أي أخاف أن يمرّ ولا أنتبه له، أو لا أعرفه، أن يمرّ أمامي من خلال أحد هؤلاء الأشخاص المعوزين المحتاجين، ولا أنتبه أنّه يسوع. هذه هي اليقظة الروحية أو السهر الروحي، الذي طالما يدعونا إليه الربّ يسوع، لكي لا نقع في حالة عدم الاكتراث أو التشتّت.

 

 أفعال الرحمة الجسديّة والروحيّة تجعل الإيمان حيًّا وفاعلًا في المحبة. بهذه الأفعال البسيطة، يقول البابا فرنسيس، نحقِّق ثورة ثقافيّة حقيقيّة. إذا أتمّ كلّ واحد وواحدة منّا فعلًا من هذا النوع كلّ يوم، نُحدث ثورة ثقافية في العالم.

فلنفكّر بالقدّيسة تريزا دي كالكوتا: إنّها لا تُذكر من أجل البيوت العديدة التي فتحتها في العالم، بل لأنّها كانت تنحني على كلّ شخص معوز، كانت تجده في الطريق، وتعيد إليه الكرامة: كم من طفل متروك احتضنته بين ذراعَيها! وكم من مدنف على الموت رافقته حتى عتبة الأبدية آخذةً إيّاه بيدها! هذه الأفعال الصغيرة، الكبيرة بقيمتها الروحية، استمدّتها من وجه يسوع المسيح الذي يعتني بإخوته الصغار، حاملًا لكلّ واحد وواحدة حنان الله وقربه. هذا القول نفسه ينطبق علىالطوباوي ابونا يعقوب حداد الكبوشي.

 

 هذان القدّيسان "خرجا" نحو المتألّمين والمعوزين، حاملين رسالة الكنيسة بإعلان رحمة الله التي هي القلب النابض للإنجيل" (مرسوم افتتاح سنة الرحمة: "وجه الرحمة، فقرة 12). هذا الإعلان ينبغي أن يصل إلى كلّ إنسان، أكان رجلًا أم امرأة، مسنًّا أم شابًّا أم طفلًا. إنطلاقًا من هذا المبدأ، كان عنوان رسالة البابا فرنسيس ليوم الرسالات العالمي التسعين: "كنيسة مرسَلة، شاهدة على الرحمة". وقد تمّ الاحتفال بهذا اليوم الأحد الفائت 23 تشرين الأوّل الجاري.

 

 ليست أعمال الرحمة والمحبة مجرّد أفعال اجتماعيّة منظّمة، بل هي في الأساس مشاعر إنسانيّة عاطفيّة تحرّكنا في صميم القلب، كما تضطرم أحشاء الأمّ رحمةً ومحبة لأبنائها. فلفظة "رحمة" تعيدنا إلى "رَحْم" الأمّ. هكذا يشبّه الله رحمته لبني البشر (راجع هوشع 11: 8؛ إرميا 31: 20؛ مز144: 8-9).

 

إنّ محبة الله الرحيمة ظهرت بشكلها الكامل في شخص الكلمة المتجسّد، يسوع المسيح، ابن الله الذي صار إنسانًا. وعلى خطى المسيح سلك العديد من الرجال والنساء منذ بداية الكنيسة، وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات، وأُنشئت مؤسّسات اجتماعيّة في الأبرشيات والرهبانيات للاهتمام بخدمة المحبة والرحمة، في مختلف القطاعات، ووفق حاجات الناس: تعليمًا وتربية واستشفاء وعناية تدريبية بالمعوَّقين وذوي الحاجات الخاصّة، وإنماءً شاملًا وتوفير فرص عمل. والكلّ إنطلاقًا من عمل الكنيسة التبشيري بالإنجيل الذي يشدّد الإيمان وينمّيه، وهو أساسًا عطيّة مجّانية من الله، ويحتاج إلى حماية وتثقيف وتنمية.

 

 يكتب البابا فرنسيس في رسالته المذكورة: "يحقّ لكلّ شعب وثقافة أن ينالوا رسالة الخلاص التي هي عطيّة من الله للجميع. وهذا الأمر ضروري، إذا أخذنا بالاعتبار كم من الظلم والحروب والأزمات الإنسانية تنتظر اليوم حلًّا ما. يعرف المرسَلون، بفضل خبرتهم، أنّ إنجيل المغفرة والرحمة يمكنه أن يحمل الفرح والمصالحة والعدالة والسلام". ويضيف أن الإرسال الإلهي من فم المسيح: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم، ... وعلّموهم..." (متى28: 19-20)، لم ينتهِ بعد، ويُلزمنا جميعًا، في الأوضاع الراهنة والتحدّيات الحالية. ما يقتضي الشعور بأنّنا مدعوّون إلى "خروج" إرسالي متجدّد، "والخروج" من رفاهنا الخاصّ، والتحلّي بالشجاعة لبلوغ كلّ المناطق والأطراف المحتاجة إلى نور الإنجيل (الإرشاد الرسولي: فرح الإنجيل، فقرة 20).

*   *   *

 

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد جسّدتَ رحمة الله ومحبّته لجميع الناس، ولا سيّما لكلّ جائع وعطشان وعريان وغريب ومريض وسجين، مادّيًّا وروحيًّا ومعنويًّا، حتى أنّك تماهيتَ معه وسمّيته "أخاك الصغير". أنت تدعونا لنجسّد بدورنا محبّتك ورحمتك لهؤلاء جميعًا، بأفعال محبة بسيطة تنبع من أحشاء الذات، بعاطفة حنان. لقد بيّنت، عبر تاريخ الكنيسة، أنّك تنتظر منّا القليل لكي تحقّق الكثير. بارك كلّ الذين "يخرجون" من ذواتهم وراحتهم وينطلقون في خدمة الكنيسة المرسلة الشاهدة على الرحمة. ومعًا نرفع نشيد المجد والتسبيح لله الغنيّ بالرحمة، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.