لبنان
29 كانون الأول 2016, 11:38

التنشئة المسيحية - ختانة الطفل يسوع

ألقى البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي التنشئة المسيحيّة معالجًا فيها: ختانة الطفل يسوع ومتحدثًا عن وجود الصّبي يسوع في الهيكل وعن عائلة الناصرة المقدّسة أيقونة العائلة المسيحيّة، جاء فيها:

 

في هذا الأحد الأوّل الذي يلي عيد الميلاد، تذكِّرنا الكنيسة بوجود الصَّبي يسوع في الهيكل، وهو بعمر اثنتَي عشرة سنة، وتحتفل بعيد العائلة المقدّسة. لكنّه الأحد الأوّل من السنة الجديدة، وفيه تذكار ختانة الطفل يسوع، وهو بعمر ثمانية أيام، والاحتفال باليوم العالمي للسلام. وقد وجَّه قداسة البابا فرنسيس للمناسبة رسالة بعنوان: "اللّاعنف نهجٌ لسياسة من أجل السلام".

 

أوّلاً، شرح الإنجيل

 

من إنجيل القديس لوقا 2: 41-52

 

كانَ أَبَوَا يَسُوعَ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ في عِيدِ الفِصْحِ إِلى أُورَشَليم. ولَمَّا بَلَغَ يَسُوعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدُوا مَعًا كَما هِيَ العَادَةُ في العِيد. وبَعدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ العِيد، عَادَ الأَبَوَان، وبَقِيَ الصَبِيُّ يَسُوعُ في أُورَشَلِيم، وهُمَا لا يَدْرِيَان. وإذْ كَانَا يَظُنَّانِ أَنَّهُ في القَافِلَة، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْم، ثُمَّ أَخَذَا يُفَتِّشَانِ عَنْهُ بَيْنَ الأَقارِبِ والْمَعَارِف. ولَمْ يَجِدَاه، فَعَادَا إِلى أُورَشَليمَ يُفَتِّشَانِ عَنْهُ. وَبعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّام، وَجَدَاهُ في الهَيكَلِ جَالِسًا بَيْنَ العُلَمَاء، يَسْمَعُهُم ويَسْأَلُهُم. وكَانَ جَمِيعُ الَّذينَ يَسْمَعُونَهُ مُنْذَهِلينَ بِذَكَائِهِ وأَجْوِبَتِهِ. ولَمَّا رَآهُ أَبَوَاهُ بُهِتَا، وقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يا بُنَيّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكذا؟ فهَا أَنَا وأَبُوكَ كُنَّا نَطْلُبُكَ مُتَوَجِّعَيْن!». فَقَالَ لَهُمَا: « لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأبي؟». أَمَّا هُمَا فَلَمْ يَفْهَمَا الكَلامَ الَّذي كَلَّمَهُمَا بِهِ. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا، وعَادَ إِلى النَاصِرَة، وكانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وكَانَتْ أُمُّه تَحْفَظُ كُلَّ  هذِهِ الأُمُورِ في قَلْبِهَا. وكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو في الْحِكْمَةِ والقَامَةِ والنِعْمَةِ عِنْدَ اللهِ والنَاس.

 

1. إنّها العائلة المقدَّسة، أيقونة العائلة المسيحيّة. هي العائلة المصلِّية والملتزمة بما يفرضه الإيمان من واجب عبادة، وتربية الأولاد عليه. وهي المكان الذي يتوفَّر فيه للطفل أن ينمو نموًّا شاملًا، جسدًا وعلمًا وقداسة، "بالعمر والحكمة والنعمة" (لو2: 52).

 

يسوع بعمر اثنتَي عشرة سنة، يصعد به أهله كالعادة من الناصرة إلى أورشليم، للاحتفال بعيد الفصح. و الأهل يصطحبون أولادهم لكي يعلِّموهم أصول الدِّين، ويربّوهم على الالتزام به. وكون يسوع ابن 12 سنة وقد أتمّ تعلّم أصول الدِّين في هيكل الناصرة بلدته، في كلّ يوم سبت، وجب عليه الخضوع للامتحان الذي يُجريه كبار علماء الشريعة في هيكل أورشليم. يقف الولد لأوّل مرّة على منبر الصلاة الرسمي، ويقرأ بعض الآيات من الكتاب المقدّس، ويقوم بشرحها أمامهم. ثمّ يسأله العلماء بعض الأسئلة للتأكّد من معرفته الأصول الأولية للشريعة والإيمان. فكان أن يسوع أذهل العلماء بفهمه وذكائه.

 

2. تظهر هنا ملامح العائلة المسيحيّة في بعدين:

 

أ- الالتزام بواجبات الإيمان والعبادة بكلّ أفرادها، الأهل والأولاد، ولاسيّما في يوم الربّ، الذي هو يوم الاحد. العائلة المقدَّسة كانت ملتزمة بيوم الربّ الذي كان يوم السبت في هيكل الناصرة (راجع لو4: 16). هذه دعوة لعائلاتنا للالتزام بيوم الربّ، في كنيسة الرعيّة، وللمشاركة في كلّ نشاطاتها ومناسباتها الليتورجيّة.

 

ب- الاعتناء بالتربية الدينيّة للأولاد، وهذا واجب أولي وأساسي على الوالدين لأنّهم هم أنجبوهم. العائلة هي "الكنيسة المنزليّة" التي تنقل الإيمان وتعلِّم الصلاة. وتتعاون مع كاهن الرعية والجماعة الرعائية والمدرسة على تثقيف أولادهم ونموّهم في الإيمان.

 

ج- المثابرة على الممارسة الدينية والتثقيف الروحي. الإيمان هو نمط حياة نكتسبه بالتكرار. أمّا الممارسات الظرفية فتبقى مجرّد عادات اجتماعيّة خالية من أيّ تأثير داخلي. بل يجب أن يتحوّل الإيمان بالمثابرة على الممارسة الدينيّة إلى عادات متأصِّلة فينا. وعندئذٍ يعبّر عن كيان الإنسان وقناعاته. البعض يتأفّف من تكرار ذات الكلمات في الصلاة ومن المشاركة في قداس الأحد، بداعي الرتابة (الروتين) وعدم وجود شيء جديد. هذا غير صحيح، لأنّ لكلّ أحد موقعه الطقسي وإنجيله ونداءه، وهو لقاء مع المسيح وسرّ الثالوث الأقدس، ولا يستطيع أحد أن يتنبّأ عن ثمار هذا اللقاء ونتائجه.

 

عدم الشعور بالرتابة. عندما نزور أصدقاءنا أسبوعيًّا أو نلتقي عائلتنا يوم الأحد والعيد، أليست عواطف المحبة والمودّة والأحاديث المتبادلة ورؤية الوجوه، هي هي ذاتها ومتكرِّرة؟ هل نشعر بالملل؟ هل نتأفّف؟ إذن، هي عاطفة المحبة التي تبدّد الرتابة.

 

3. بقِيَ يسوع في الهيكل بعد انقضاء أيام العيد. يسوع الملتزم بالإيمان والصلاة، والمميَّز بمحبّته لبيت أبيه، نسي نفسه وأهله، إذ كان مأخوذًا بالصلوات والاحتفالات الطقوسيّة. وهذه ميزة الأطفال والصبيان، إذا غذّى الأهل فيهم محبة بيت الله الذي هو كنيسة الرعيّة، وعوَّدوهم على المشاركة في كلّ المناسبات الليتورجيّة. فهم في سنِّهم منفتحون على محبَّة المسيح وعلى قداسة الذات. نفكّر بالقدِّيسين: دومينيك سافيو، وأكويلينا الجبيليّة، وماريا غوريتّي، وترشيسيو وسواهم.

 

4. ولم يعلم أبوه وأمّه أنّه مكث في أورشليم إلا عند المساء من اليوم الأوّل لعودتهما إلى الناصرة. هذا أمر مألوف عند عائلاتنا المشرقية، حيث تتمازج العائلات بعضها مع بعض في قافلات الحجّ والزيارات. والأولاد يذهبون مع رفاقهم وأقربائهم. هذا التضامن العائلي هو من أهم قيمنا من أجل شدّ أواصر العائلة الأكبر على مستوى القرية والبلدة والمدينة، بالرّغم ممّا نشهده اليوم من تفكُّك بين العائلات: جيران يجهلون بعضهم بعضًا. الأقارب والأهل قلَّما يزورون بعضهم بعضًا. أولاد يهملون الاعتناء بأهلهم المسنِّين. من الواجب بمكان تربية الأولاد على الحسّ الاجتماعي، والانفتاح على الآخرين ومحبّتهم، من أجل بناء مجتمع متضامن؛ وتربيتهم على الالتزام بالنشاطات الرعائية والانتماء إلى منظَّمات وحركات رسوليّة.

 

5. عاد يوسف ومريم بعد مسيرة يوم، إلى أورشليم، عندما لم يجدوا يسوع بين الأقارب والمعارف. وبعد ثلاثة أيام من الوجع والبحث عنه، وجداه في الهيكل بين العلماء يسمعهم ويسألهم (الآيات 44-46).

 

هذه الحادثة تذكِّرنا بتضحيات الوالدين وألمهم وأوجاعهم، عندما يصيبنا أيّ ضرر، وتذكِّرنا بأنّ التربية تقتضي صعوبات وتضحيات.

 

ثلاثة أيّام من الاضطراب والقلق والوجع. هذا العدد استباق لثلاثة أيّام من الآلام المرّة بعد موت يسوع، وقبل قيامته. كما انّه يرمز في الكتاب المقدّس إلى كمال الشيء، وفي هذه الحالة إلى ذروة أوجاع مريم ويوسف.

 

كان الصبي يسوع "يسمع العلماء ويسألهم"، فيعلّمنا آداب الحديث وتقنيّات النقاش والإقناع، وكلّها ترتكز على أساس هو المحبة. لا يمكننا إقناع شخص لا نحبّه. فالحبّ يفتح القلوب والأذهان على قبول نور الحقيقة ونشرها.

 

فعلان أساسيّان قام بهما يسوع: الأوّل سماع العلماء، وهو الخطوة الأولى الضرورية، حتى أفهم وجهة نظر الآخر، وأكتشف مشكلته أو مبتغاه. الحوار أُذنٌ تسمعأكثر بكثير من فم يتكلّم. كم من المشكلات تنحلّ بسماعها وتفهّمها! والفعل الثاني السؤال. عندما كان يسوع يسأل العلماء، إنّما كان يدفعهم إلى الكلام مجدّدًا. هذه التقنيّة هي من أهمّ أساليب الحوار والتربية الحديثة. لا تقتصر تربية أولادنا على توجيه النصائح لهم، وعلى التركيز على ما هو صواب وما هو خطأ، بل تقتضي أن نسألهم ليتكلّموا هم ويعبّروا عن وجهة نظرهم ومكنونات قلوبهم. وهكذا يتوصّل الأولاد أنفسهم إلى اتّخاذ القرار المناسب، وبالتالي يلتزمون به.

 

6. انذهل العلماء من ذكاء يسوع وأجوبته (الآية 47).  قلنا أنّ العادّة هي أن يختبر علماء الشريعة معرفة الصبي بشؤون الشريعة والدّين. كانت تُطرح عليه الأسئلة العاديّة، اما أجوبته فجاءت أعمق وأشمل من المعتاد. وهكذا استمرّت الأسئلة والأجوبة مدّة ثلاثة ايام، وهو يذهلهم ولا عجب، فيسوع هو مصدر كلّ العلم، وهو الجواب على كلّ سؤال، وإليه نعود لكي نجد الحلّ لكلّ صعوبة وحيرة ومشكلة. المطلوب أن نثق به. كلّ بحث خارج الربّ يسوع مضيعة للوقت.

 

عليَّ بالتالي أن أولي كنيستي كلّ ثقتي، وأتوجَّه إليها لكي أتبيّن الجواب على مشكلتي. هذا هو دور الإرشاد الروحي. مَن لا يسأل لا يعرف. في كلّ حيرة وشكّ ومعضلة، "إذهب وأرِ نفسك للكنيسة"، مثلما قال يسوع للأبرص بعد أن طهّره (راجع مر1: 44).

 

7. عندما لامت مريم الصبي يسوع على فعلته وعبّرت عن بحثهما عنه مع أبيه، وعن وجعهما (الآية 48)، حملهما يسوع إلى مستوى رسالته وهي "أن يكون فيما هو لأبيه" (الآية 49)، ولو توجّعت أمّه وأبوه، فهو لا يساوم على ما هو لله. هذه الحالة تتكرّر عندما أهلٌ يرفضون دعوة ابنهم أو ابنتهم إلى الحياة المكرَّسة أو إلى الكهنوت، فيعاكسونهم ويرفضونهم. يقدّم لنا الربّ يسوع المثال والنموذج في حتميّة اتّباع صوت الله والمسيح.

 

في جوابه "ألا تعلمان؟"، يوجد بعض الملامة لأنّه من المفترض أن يعرف أبوه وأمّه رسالته، من بعد أن شاهدا أحداثًا فوق الطبيعة رافقت طفولته: بشارة زكريا وبشارة مريم والبيان ليوسف والميلاد وإعلان الملاك للرعاة، وجوق الملائكة الذي رتّل ساعة ميلاده "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر"، ومجيء المجوس ونجاته من هيرودس.

 

نحن أيضًا الذين اعتمدنا بالمسيح ومُسِحنا بالميرون على مثاله، وتناولنا جسده ودمه، وسمعنا كلام الله في الكنيسة، واشتركنا في ليتورجيات، ويحيط بنا برامج إذاعيّة وتلفزيونيّة ومجلّات وكتب ومنشورات، لا نستطيع القول "لا نعلم" ما يختصّ بثقافتنا الدينيّة. ولا يحقّ لنا أن نبقى في حالة الجهل، ونبرّر أنفسنا.

 

"لم يفهم يوسف ومريم كلام يسوع" (الآية 50)، ما يعني أنّ السّر الإلهي صعب المنال، ويقتضي زمنًا طويلًا من التأمّل فيه والتنشئة الدائمة عليه، واستلهام أنوار الروح القدس لفهمه وعيشه بإيمان ورجاء. إنّ مريم هي لنا في ذلك المثال إذ كانت تحفظ كلّ شيء في قلبها وتتأمّل فيه وتصلّي.

 

6. نزل يسوع معهما إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما (الآية 51). بخضوعه لهما كان يسوع يعمل مع أبيه يوسف في النجارة، خاضعًا لشريعة العمل. وبفضل هذا الخضوع كان ينمو النموّ المثلَّث الأبعاد:

 

بالقامة أي بالجسد والصحة، مع مقتضيات المأكل والملبس وسواهما من الحاجات.

 

والحكمة  أي بالفهم والعلم والدراسة، والتصرّف بفطنة واستقامة.

 

والنعمة أي بالقداسة والاتّحاد بالآب عبر الصلاة والعبادة.

 

وكان يسوع ينمو أمام الله كواجب ملقى على عاتق الأهل، وأمام الناس كتربية على حسن العلاقة مع الناس، وبشهادتهم (الآية 52).

 

وهكذا تظهر العائلة: خليّة حيَّة للمجتمع، ومدرسة طبيعيّة أولى للتربية الإنسانيّة، وكنيسة منزليّة تنقل الإيمان وتعلِّم الصلاة.

 

*   *   *

 

صلاة

أيّها الربُّ يسوع، أنت كإنسان تربَّيت على يد يوسف أبيك بالتبنِّي، ومريم أمّك بالجسد من الروح القدس، وكنتَ خاضعًا لهما وتنمو بالقامة والحكمة والنعمة، قدِّس الوالدين واعضدهم لكي يربّوا أولادهم مثلما تربَّيت على الحنان والحبّ والمشاعر الإنسانيّة. ساعدهم لكي يوفِّروا لأولادهم إمكانيّة النموّ مثلك بالجسد والمعرفة والقداسة. بارك كلَّ عائلة لتصبح ما يريدها التدبير الإلهي أن تكون خليّة حيّة للمجتمع، ومدرسة طبيعيّة أولى للتربية على الأخلاقيّة الإنسانيّة، وكنيسة بيتيّة تنقل الإيمان وتعلِّم الصلاة. فيرتفع منها نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.