التّنشئة المسيحيّة بين "تمييز الدّعوة" و"ورديّة مريم العذراء"
"مرافقة الشّبيبة في تمييز دعوتهم تقتضي كهنةً ورهبانًا وراهباتٍ وعلمانيّين مؤهَّلين ومدرَّبين جيّدًا للقيام بالمرافقة. والإصغاء إليهم يقتضي ثلاثة اعتبارات:
الإعتبار الأوّل، الإصغاء إلى شخص يعطينا ذاته في كلماته. وعلامة هذا الاصغاء هو الوقت الذي نخصّصه له، لا كملكيّة بل كشعورٍ من قبله بأنّ وقتنا هو له، وكشعوره بأنّنا نصغي إليه دون قيدٍ أوشرط، وبأنّه لا يزعجنا أو يتعبنا أو يسيء إلينا. هذا الإصغاء عاشه يسوع مع تلميذَي عمّاوس (راجع لو24: 13-35).
الإعتبار الثّاني، التّمييز أي الغوص في الزّمن الذي يتمّ فيه تمييز النّعمة عن التّجربة. فأحيانًا ما تكون الأمور التي تجري في خيالنا مجرّد تجربة تبعدنا عن طريقنا الحقيقيّ. هنا ينبغي أن أسأل نفسي ما الذي يقوله لي هذا الشّخص بالضّبط، وماذا يريد أن يقوله لي، وما الأمر الذي يريدني أن أفهمه ممّا يحدث. هذه الأسئلة مع الإصغاء تهدف إلى تمييز الكلمات الخلاصيّة للرّوح الحقّ الذي يعرض علينا حقيقة الرّبّ، وإلى تمييز مكايد الرّوح الشّرّير وخداعه وإغراءاته. فعلينا أن نتحلّى بالشّجاعة والمودّة والرقّة اللّازمة لمساعدة الآخرين على إدراك الحقيقة وتمييزها عن الخداع والذّرائع.
الاعتبار الثّالث، الإصغاء إلى الحوافز التي تدفع بالآخر إلى الأمام. إنّه الإصغاء العميق إلى "حيث يريد الذهاب حقًا". فيكون الاهتمام لما يريد أن يكون، لا لما يفكّر به في الوقت الحاضر، ولا لما فعله في الماضي. هذا يتطلّب من الشّخص ألاّ يتطلّع كثيرًا إلى ما يحبّه، وإلى رغباته السّطحيّة، بل بالأكثر إلى ما يرضي الله ومخطّطه لحياته الذي يظهر في ميل القلب، أبعد من "سطحيّة" الأذواق والمشاعر. هذا الإصغاء هو الانتباه إلى العزيمة القصوى، التي تقرّر مسار الحياة في النهاية، لأنّ هناك شخصًا مثل يسوع يفهم ويقدّر نيّة القلب النّهائيّة هذه.
بنتيجة هذه الاعتبارات الثّلاثة، يصبح التّمييز أداة التزامٍ قويّ لاتّباع المسيح على نحوٍ أفضل؛ وتكتسب الرّغبة في التّعرّف على الدّعوة الشّخصيّة قوةً عظيمةً، وجودةً بالغةً ومستوًى أعلى. وهكذا تتناسب بشكلٍ أفضل مع كرامة الحياة الشّخصيّة. إنّ التّمييز الجيّد هو في النّهاية مسيرة حريّة تنير واقع كلّ شخص، وتحترم فرادته والحقيقة الشّخصيّة التي يمتلكها، والتي وحده الله يعرفها.
وأخيرًا، عندما يصغي المرء إلى الآخر ويبلغ به إلى الحقيقة التي ينشدها، يجب أن يختفي ليسمح للآخر بمتابعة الطّريق الذي اكتشفه. هكذا فعل الرّبّ يسوع مع تلميذَي عمّاوس (راجع لو24: 31-34).
وفي القسم الثّاني من التّنشئة، غاص البطريرك الرّاعي في ورديّة مريم العذراء، تزامنًا مع عيدها، فتابع قائلاً: "من أجل أن نتلو ورديّة العذراء بشكلٍ أفضل ومثمر، ننقل في هذا الشّهر تعليم القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في الإرشاد الرّسوليّ "ورديّة العذراء مريم" (16 تشرين الأوّل 2002). نبدأ بالفصل الأوّل وهو بعنوان: "التّأمّل في وجه المسيح مع مريم".
1. وجه المسيح، المخفيّ في بشريّته، "يتألّق كالشّمس" (متى2:17)، كما ظهر للتّلاميذ الثّلاثة على جبل التّجلّي. في تلاوة الورديّة نثبّت أنظارنا على وجهه، كما على أيقونة، ونكتشف سرَّه عبر طبيعته البشريّة العاديّة والمتألّمة، حتّى نستشفّ رؤية تألّقه الإلهيّ المتجلّي نهائيًّا في القائم من بين الأموات، الممجَّد عن يمين الآب (الفقرة 9).
2. مريم هي مثالنا الأسمى في هذا التّأمّل، وهي تتأمّل وجهه مذ حبلت به من الرّوح القدس وبدأت تشعر بحضوره جنينًا وتتحسّس هيئته، ثمَّ حين ولدته وقمَّطته وأضجعته في مذود (لو7:2)، وحطَّت عيناها على وجهه بحنان. فظلَّ نظرها يرافقه في كلّ مراحل حياته: فكان تارة نظرةً إستفهاميّةً عندما ضاع في الهيكل وسألته: "لم فعلتَ بنا هكذا، يا ولدي؟" (لو48:2)؛ وتارةً نظرةً ثاقبةً قادرةً على ان تقرأ ما في داخل يسوع، كما في عرس قانا (يو5:2)؛ وتارةً نظرةً متألّمة، بالقرب من الصّليب، وكأنّها نوعًا ما نظرة "امرأةٍ تتمخّض لتلد" إذ تسلَّمت من ابنها يسوع ابنًا جديدًا بشخص يوحنّا يوكَل إليها (يو19: 26-27)؛ وفي صباح الفصح نظرةً مشعّة بفضل فرح القيامة؛ ويوم العنصرة نظرة متأجّجة مرتبطة بفيض الرّوح (أعمال 14:1) (الفقرة 10).
عاشت مريم مسمِّرةً أنظارها على المسيح، فكانت كلّ كلمةٍ منه كنزًا تحفظه في قلبها وتفكّر به وتتذكّره (لو2: 19 و 15). ذكرياتها كانت "ورديّتها" اليوميّة. إنّها من سمائها تواكب بفرحٍ المؤمنين في تلاوتهم ورديّتها العزيزة على قلبها (الفقرة 11).
3. نستخلص أنّ الورديّة صلاةٌ تأمّليّة. إذا نزعنا عنها هذا المدى تصبح مبتورةً، كما أشار القدّيس البابا بولس السّادس: "بدون التّأمّل تكون الورديّة جسدًا بلا روح". لذلك تقتضي تلاوتها وتيرةً هادئة ووقتًا لازمًا (الفقرة 12).
4. يعلّمنا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، في رسالته الرّسوليّة التي نحن بصدد نقلها، كيف نجعل تلاوة الورديّة صلاةً تأمّليّةً. نكتفي اليوم بالإشارة إلى سبيلَين من أصل خمسة.
1) نتذكّر المسيح مع مريم (الفقرة 139)
التّذكّر بالمفهوم البيبليّ هو انّ الأعمال، التي حقّقها الله في تاريخ الخلاص، حاضرةٌ الآن وهنا. ليست الأحداث "أمس فقط" بل هي أيضًا "يوم الخلاص". هذا التّأوين يتحقّق بشكلٍ خاصّ في اللّيتورجيّا. التّذكّر في وقفة إيمانٍ وحبٍّ يعني أن ننفتح على النّعمة التي نالها لنا المسيح بأسرار حياته، وموته وقيامته. بما أنّ الورديّة تأمّلٌ في المسيح مع مريم، فهي تأمّلٌ خلاصيّ يقودنا من سرٍّ إلى سرٍّ من حياة الفادي إلى الانفتاح لقبول ثمار هذه الأسرار في نفوسنا.
2) بمريم نتعلّم المسيح (الفقرة 14)
لا يكفي أن نعرف ما علَّمَنا المسيح، بل يجب أن "نتعلّم أن نعرفه". مريم هي المعلّم الأفضل التي تستطيع إدخالنا في معرفةٍ عميقةٍ لسرّه، علمًا أنّ الرّوح القدس يبقى المعلّم الباطنيّ الذي يقودنا إلى الحقيقة كلّها عن المسيح (يو14: 26؛ 26:15؛ 13:16).
في عرس قانا الجليل ظهرت مريم المعلّمة عندما دعت الخدم ليفعلوا ما يقوله لهم يسوع (يو5:2)؛ وعندما رافقت الأحد عشر بعد صعود يسوع، وواظبت معهم في انتظار حلول الروح القدس، وأيَّدتهم في رسالتهم الأولى. السَّير مع مريم خلال أحداث الورديّة يضعنا في "مدرستها" كي نقرأ المسيح، وندخل في أسراره ونفهم نداءه".
المصدر: بكركي