التنشئة المسيحية - الاحد 7 آب 2016
زمن العنصرة هو زمن الروح القدس الذي يجعل كلمة الله مثمرة في القلوب النقية. هذا هو موضوع انجيل اليوم. ويتزامن هذا الأحد مع عيد القديس ضوميط، ويسبقه عيد تجلّي الرب يسوع على جبل طابور، مستبقًا مجد القيامة، ومبيّنًا مصير آلامه.
أولاً، شرح نص الانجيل
من إنجيل القديس لوقا 8: 4-15
قالَ لُوقَا البَشِير: أَخَذَ يَسوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ وَالقُرَى، يُنَادي وَيُبَشِّرُ بِمَلَكوتِ الله، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَر، وَبَعْضُ النِسَاءِ اللَوَاتِي شَفَاهُنَّ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاض، هُنَّ: مَرْيَمُ الْمَدْعُوَّةُ بِالْمَجْدَلِيَّة، الَّتِي كانَ قَدْ خَرَجَ مِنْها سَبْعَةُ شَيَاطِين، وَحَنَّةُ امْرَأَةُ خُوزَى وَكِيلِ هِيرُودُس، وَسُوسَنَّة، وَغَيرُهُنَّ كَثِيراتٌ كُنَّ يَبْذُلْنَ مِنْ أَمْوالِهِنَّ في خِدْمَتِهِم. وَلَمَّا احْتَشَدَ جَمْعٌ كَثِير، وَأَقْبَلَ النَاسُ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَة، خَاطَبَهُم بِمَثَل: «خَرَجَ الزَارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفيمَا هُوَ يَزْرَع، وَقَعَ بَعْضُ الْحَبِّ على جَانِبِ الطَرِيق، فَدَاسَتْهُ الأَقْدَام، وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَمَاء. وَوَقَعَ بَعْضُهُ الآخَرُ عَلى الصَخْرَة، وَمَا إِنْ نَبَتَ حَتَّى يَبِسَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رُطُوبَة. وَوَقَعَ بَعْضُهُ الآخَرُ في وَسَطِ الشَوْك، وَنَبَتَ الشَوْكُ مَعَهُ فَخَنَقَهُ. وَوَقَعَ بَعْضُهُ الآخَرُ في الأَرْضِ الصَالِحَة، وَنَبَتَ فَأَثْمَرَ مِئَةَ ضِعْف». قالَ يَسُوعُ هذَا، وَنَادَى: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ سَامِعَتَانِ فَلْيَسْمَعْ!». وَسَأَلَهُ تَلامِيذُهُ: «مَا تُراهُ يَعْنِي هذَا المَثَل؟». فَقَال: «أَنْتُمْ قَدْ أُعْطِيَ لَكُم أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرارَ مَلَكُوتِ الله، أَمَّا البَاقُونَ فَأُكلِّمُهُم باِلأَمْثَال، لِكَي يَنْظُرُوا فَلا يُبْصِرُوا، وَيَسْمَعُوا فَلا يَفْهَمُوا. وَهذَا هُوَ مَعْنَى المَثَل: أَلزَرْعُ هُوَ كَلِمَةُ الله. والَّذِينَ عَلى جَانِبِ الطَريقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُون، ثُمَّ يَأْتي إِبْلِيسُ فَيَنْتَزِعُ الكَلِمَةَ مِنْ قُلوبِهِم، لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. والَّذِينَ عَلى الصَخْرةِ هُمُ الَّذينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا بِفَرَح؛ هؤُلاءِ لا أَصْلَ لَهُم، فَهُم يُؤْمِنُونَ إِلى حِين، وفي وَقْتِ التَجْرِبَةِ يَتَرَاجَعُون. والَّذِي وَقَعَ في الشَوْكِ هُمُ الَّذينَ يَسْمَعُونَ وَيَمْضُون، فَتَخْنُقُهُمُ الْهُمُومُ والغِنَى وَمَلَذَّاتُ الْحَيَاة، فَلا يَنْضَجُ لَهُم ثَمَر. أَمَّا الَّذِي وَقَعَ في الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ بِقَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ فَيَحْفَظُونَها، وَيَثبُتُونَ فَيُثْمِرُون».
1. بمثل الزارع يشرح الربّ يسوع سرّ كلمة الله:
فيدعونا إلى قبولها في قلوب نقية لكي تعطي ثمارها الوفيرة، كالزرع الذي يقع في الأرض الطيّبة، المهيّأة بالفلاحة والمنقّاة من الحصى والأعشاب التي تعرقل نمو نبتاتها وتخنقها.القلوب النقية هي تلك المهيّأة بالتوبة والصلاة والممارسة الأسرارية، والمنفتحة لقبول كلام الله ووحيه ونعمته، وتلك التي تحفظ وصاياه ورسومه.
يسوع "كلمة الله" قبله حشى مريم الطاهر، البريء من أي دنس خطيئة، بل كل كيان مريم العذراء المجمّل بالايمان والرجاء والمحبة. فأثمر المسيح التاريخي، فادي الانسان ومخلّص العالم، ثمّ بعد موته وقيامته أثمر المسيح السرّي الذي هو الكنيسة. مريم البتول والأمّ أضحت أيقونة الكنيسة التي بدورها كبتول نقيّة مقدّسة تقبل كلمة الله، وكأمّ تلد البنين الروحيّين من المعمودية والميرون، وتغذّيهم بجسد الربّ ودمه، وتجعلهم "أرضًا طيّبة، يسمعون الكلمة بقلب نقيّ صالح، فيثمرون بالصبر" (لو 8: 15).
2. يحذّرنا الربّ من ثلاثة مواقف تعطّل كلمة الله فينا:
الأوّل، إهمال كلمة الله وعدم الاكتراث لها. هذا الموقف مشبّه بالزرع الذي يقع على حاشية الطريق حيث لا تربة تحتضنه فيُداس وتأكله الطيور (الآية 5). إنه علامة الذين لا يكترثون لكلام الله، بل يهملونه عند سماعه. فيبقى في آذانهم، وإذا سقط في قلبهم، لا يحتضنه قلبهم، فينتزعه الشيطان للحال (الآية 12).
الثاني، السطحية وعدم العمق الروحي. هذا الموقف مشبّه بالزرع الذي يقع على الأرض الحجرة، فينبت للحال، ولكن سرعان ما ييبس لقلّة الرطوبة (الآية 6). هؤلاء هم السطحيّون الذين ينقصهم العمق الروحي. فيقبلون الكلمة بفرح، ولكن عند أوّل تجربة أو صعوبة، يشكّون ويعطّلون كلمة الله لافتقادهم إلى العمق الروحي (الآية 13).
الثالث، الأولويّة لشؤؤن الأرض. هذا الموقف مشبّه بالزرع الذي يقع بين الشوك فيخنقه حالما ينبت (الآية 7). هؤلاء هم الاشخاص الذين تتآكلهم اهتمامات الأرض: الغنى وشهوات العالم التي اختصرها يوحنا الرسول بثلاث: "شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الحياة" (1يو2: 16). هؤلاء يخنقون كلمة الله فور سماعها، لأنها لا تحتلّ الأولوية، ولا تشكّل عندهم أية قيمة أمام شؤون الأرض (الآية 14).
* * *
ثانيًا، عيد تجلّي الرب يسوع على الجبل (6 آب)
يورد الانجيليون متى ومرقس ولوقا حدث تجلّي الرب. لكن كنيستنا المارونية تقرأ في هذا العيد رواية القديس مرقس (9: 1-8)
قَالَ الرَبُّ يَسوع:» أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ بَعْضًا مِنَ القَائِمِينَ هُنَا لَنْ يَذُوقُوا المَوْت، حَتَّى يَرَوا مَلَكُوتَ الله وقَدْ أَتَى بِقُوَّة». وبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ ويَعْقُوبَ ويُوحَنَّا، وصَعِدَ بِهِم وَحْدَهُم إِلى جَبَلٍ عالٍ عَلى انفِرَاد، وتَجَلَّى أَمَامَهُم. وصَارَتْ ثِيَابُهُ نَاصِعَة، حَتَّى لَيَعْجُزُ أَيُّ قَصَّارٍ عَلى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَها. وتَرَاءَ ى لَهُم إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوع. فَقَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوع:»رَابِّي، حَسَنٌ لَنَا أَنْ نَكُونَ هُنَا ! فَلْنَنْصِبْ ثلاثَ مَظَالّ، لَكَ واحِدَة، وَلِمُوسَى واحِدَة، ولإِيليَّا واحِدَة». ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَاذا يَقُول، لأَنَّ الخَوْفَ اعْتَرَاهُم. وظَهَرَتْ غَمَامَةٌ تُظَلِّلُهُم، وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ الغَمَامَةِ يَقُول:»هذَا ابْنِي الحَبِيب، فلَهُ اسْمَعُوا !».
حدث تجلّي الربّ هذا أتى في سياق كلامه عن صعوده إلى أورشليم حيث سيتألّم كثيرًا. ويُرذل من الشيوخ وعظماء الكهنة، ويُقتل، ثمّ يقوم بعد ثلاثة أيام. فاعترض بطرس على ذلك (مر 8: 31-32)، هو الذي أعلن إيمانه المميّز به في قيصريّة فيلبس: "إنّه هو المسيح ابن الله الحيّ" (مر 8: 29).
فكان حدث التجلّي السرّي أمام ثلاثة من الرسل هم بطرس ويعقوب ويوحنا. هؤلاء شاهدوا مجد الوهيّته، وهم إياهم استصحبهم معه الى بستان الزيتون ليشاهدوا ضعف انسانيّته، فيقوّيهم على احتمال ما سيحدث له من آلام حسب نبوءته.
لقد شبّه الرب يسوع تجليّه بالمجد "معاينة ملكوت الله آتيًا بقوة" (مر 9: 1). ما يعني تذوّق ملكوت الله المسبق في هذه الدنيا (المرجع نفسه). "ثياب يسوع التي تلألأت بيضاء جدًّا كالشمس" هي تجلّي الوهيّته في مجدها السماوي (الآية 3).
"ظهور ايليا وموسى يحادثان يسوع" (الآية 4). ايليا يمثّل الأنبياء، وموسىشريعة الله. ظهورهما يعني اكتمال النبوءات والشرائع الالهيّة في شخص يسوع، وانّها تدلّ اليه، وتختصر فيه. وهو في مجده يحلّ محلها. هذا ما عناه بولس الرسول بقوله: "النبوءات تبطل، والألسنة تصمت، والعِلم يضمحل. أمّا المحبة فلا تسقط أبدًا" (1كور 13: 8). المحبة هي المسيح نفسه: "فالله محبة" (1يو4: 8). وهكذا ايليا وموسى عاينا مجد الله في تجلّي يسوع.
النبوءات والشريعة اعلنا آلام المسيح. وهذا ما أكّده القديس لوقا في روايته:"ظهر موسى وايليا بالمجد. وكانا يكلّمان يسوع عن خروجه الذي كان معدًّا أن يتمّ في اورشليم" (لو 9: 30-31).
"الغمامة التي ظلّلتهم" هي علامة حضور الروح القدس. و"الصوت الذي سُمع ويقول: "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا" (الآية 7)، هو صوت الآب. إنه ترائي الثالوث الأقدس، كما يشرح القديس توما الأكويني: الآب بالصوت، والابن بالانسان، والروح القدس بالغمامة.
إعلان الآب "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا" (الآية 7) يعني أن الايمان بالله هو الايمان بالابن الحبيب يسوع المسيح. الايمان بالله هو الايمان بالابن الحبيب يسوع المسيح. الايمان بالله لا يمكن فصله عن الايمان بالذي ارسله. لذا، يدعونا اللهلنسمع له. ويسوع نفسه قال لتلاميذه: "آمنوا بالله وآمنوا بي أيضًا" (يو 14: 1). وفي مكان آخر: "أنا الطريق والحق والحياة؛ لا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي"(متى 11: 29؛ يو 14: 16).
أن يدعونا الآب لنسمع للابن، فلأن كل حياة المسيح على الأرض: كلماته وافعاله، صمته وآلامه، طريقة عيشه وكلامه، كلّها كشفت سرّ الآب. ولهذا قال يسوع عن نفسه:"مَن رآني رأى الآب" (يو14: 8).
تجلّي الرب استباق لقيامته. بهذه الصفة يكون مكمّلاً للمعمودية التي سُمع فيها صوت الآب يعلن: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا" (لو9: 35). مثلما سُمع هو اياه على جبل التجلي. لذا، يُسمّى التجلي سرّ الولادة الثانية من جديد، أي قيامتنا، بحيث إنّنا من الآن فصاعدًا نشارك المسيح في قيامته، بواسطة الروح القدس الذي يعمل في أسرار جسد المسيح.
التجلي هو تذوّق مسبق لمجيء المسيح بالمجد، عندما يريد أن يبدّل جسدنا الضعيف، ليكون مثل جسده الممجّد. ولكن ينبغي أن ندخل الملكوت عن طريق الألم والاضطهاد. لهذا السبب انتهت الرؤيا، عندما طلب بطرس المكوث على الجبل لروعة المشهد (الآية 5).
* * *
ثالثًا، عيد القديس ضومط (7 آب)
هو راهب متنسّك، وفي الاساس كان وزيرًا في عهد الامبراطور البيزنطي فالنس الاريوسي. كان يحثّ الملك على اضطهاد الكاثوليك، فابتلاه الله بداء المفاصل. فارتدّ تائبًا وترّهب وأصبح شفيع المصابين بداء المفاصل.
القديس ضومط يقدّم مثالاً للتوبة ولتغيير المسلك في الحياة، انطلاقًا من احداث حياتنا، وبخاصة تلك المُرّة كالمرض والاضطهاد أو أيّ حدث يضعنا أمام ضعف انفسنا.
ليس داء المفاصل مقتصرًا على الناحية الجسدية، بل يشمل أيضًا الناحية النفسية مثل الازدواجية في الشخصية، والرياء، ومرض انفصام الشخصية، وجنون العظمة الاضطهاد (Paranoia).
إن "كلمة الله المقبولة في القلب النقّي الصالح" تحمي من داء المفاصل النفسي والازدواجية والرياء.
* * *
صلاة
أيّها الربّ يسوع، انت كلمة الله التي تُزرع في القلوب. امنحنا النعمة لكي نجعل قلوبنا نقيّة صالحة تحفظ كلمتك فتثمُر أعمالاً صالحة، وثقافة روحيّة وأخلاقية، وحضارة مسيحية بنّاءة. أعطنا في عيد تجلّيك أن نتذوّق مسبقًا المشاهدة السعيدة في السماء، فنضمّ آلامنا إلى آلامك برجاء الولادة الجديدة الثانية بقيامتنا. وإنا نلتمس منك، بشفاعة القديس ضومط نعمة الشفاء من كلّ ازدواجية ورياء بقوّة كلمتك الفاصلة كالسِّيف ذي حدّين. فنرفع كلّ حين نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.