لبنان
04 أيار 2015, 21:00

التنشئة المسيحية - الأحد السادس من زمن القيامة

(الصرح البطريركي - بكركي) التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي في الصرح البطريركي عن الأحد السادس من زمن القيامة تحت عنوان "حضور المسيح في الكنيسة بالكلمة والأسرار"، جاء فيها:

في هذا الترائي الذي جرى في مساء أحد القيامة كشف يسوع للرسل المجتمعين سرّ حضوره في الكنيسة وحياة المؤمنين من خلال كلامه والأسرار المقدّسة، فيزرع السلام والرجاء في النفوس، وتنطلق الكنيسة بأبنائها وجماعاتها ومؤسّساتها إلى رسالة الشهادة ليسوع بقوّة الروح القدس.
   أولاً، شرح نص الإنجيل
  من إنجيل القديس لوقا 24: 36-49
قالَ لُوقَا البَشِير: وفِيمَا التَلامِيذُ يَتَكَلَّمُونَ بِهذَا، وَقَفَ يَسُوعُ في وَسَطِهِم، وقَالَ لَهُم: «أَلسَلامُ لَكُم!». فارْتَاعُوا، واسْتَوْلى عَلَيْهِمِ الخَوْف، وكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُم يُشَاهِدُونَ رُوحًا. فقَالَ لَهُم يَسُوع: «مَا بَالُكُم مُضْطَرِبِين؟ وَلِمَاذَا تُخَالِجُ هذِهِ الأَفْكَارُ قُلُوبَكُم؟ أُنْظُرُوا إِلى يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ، فَإِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي، وانْظُرُوا، فإِنَّ الرُوحَ لا لَحْمَ لَهُ وَلا عِظَامَ كَمَا تَرَوْنَ لِي!». قالَ هذَا وَأَرَاهُم يَدَيْهِ وَرِجْلَيْه. وَإِذْ كَانُوا بَعْدُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ مِنَ الفَرَح، وَمُتَعَجِّبِين، قَالَ لَهُم: «هَلْ عِنْدَكُم هُنَا طَعَام؟». فَقَدَّمُوا لَهُ قِطْعَةً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيّ، وَمِنْ شَهْدِ عَسَل. فَأَخَذَهَا وَأَكَلَهَا بِمَرْأًى مِنْهُم، وقَالَ لَهُم: « هذَا هُوَ كَلامِي الَّذي كَلَّمْتُكُم بِهِ، وَأَنا بَعْدُ مَعَكُم. كانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ كُلُّ مَا كُتِبَ عَنِّي في تَوْرَاةِ مُوسَى، وَالأَنْبِيَاءِ وَالمَزَامِير». حِينَئِذٍ فَتَحَ أَذْهَانَهُم لِيَفْهَمُوا الكُتُب. ثُمَّ قالَ لَهُم: «هكذَا مَكْتُوبٌ أَنَّ المَسِيحَ يَتَأَلَّم، وَيَقُومُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ في اليَوْمِ الثَالِث. وبِاسْمِهِ يُكْرَزُ بِالتَوْبَةِ لِمَغْفِرةِ الخَطَايَا، في جَمِيعِ الأُمَم، إِبْتِدَاءً مِنْ أُورَشَلِيم. وأَنْتُم شُهُودٌ عَلى ذلِكَ».
1. نجد في ترائي يسوع للرسل بجسده الممجّد القائم من الموت، والحامل آثار الصلب، علامات حضوره الدائم في حياة الكنيسة ورسالتها، وفي حياة المؤمنين والمؤمنات، من أجل الشهادة له، ولحبّـه للبشر، وللسلام الذي حمله إلى العالم. وهو يمنحهم قوّة الروح القدس. هذا الروح، الذي قاد حياة يسوع التاريخية ورسالته على الأرض، هو إيّاه يقود حياة المسيح السّرّي أو الكلّي، الذي هو الكنيسة.
2. المسيح، أمير السلام (أشعيا 9: 5) وسلامنا (أفسس2: 14). هوالذي تشهد له ولسلامه الكنيسة وأبناؤها. فتعمل معهم على إحلال السلام بكل وجوهه: السلام الروحي مع الله ومع كلّ الناس؛ والسلام الاجتماعي بتعزيز التضامن وإنماء الشخص البشري والمجتمع. وهو سلام ينبع من المحبة والعدالة والحقيقة والحرية؛ والسلام السياسي بتوفير الخير العام، الذي منه خير الجميع وخير كلّ إنسان. الخير العام هو مجمل الأوضاع المادية والثقافية والاقتصادية والمعيشية والسياسية، التي تمكّن جميع المواطنين من العيش بكرامة وكفاية.
إنّه سلام ينتزع الشّك والخوف من النفوس، ويزرع فيها الرجاء والطمأنينة والشجاعة. المسيح يدعونا، كما دعا الرسل، "لعدم الاضطراب والشّك"، وللنظر إليه حاضرًا بسرّ موته وقيامته الذي نحتفل به في القداس الإلهي.
3. إنّنا غالبًا ما نمرّ في مراحل صعبة، كالتي نعيشها اليوم في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط. أزمات سياسيّة واقتصاديّة ومعيشية وأمنيّة عندنا، وفي البلدان الأخرى حروب واعتداءات وتدمير وقتل وتهجير. إنّها هستيريا الحقد والبغض والكبرياء والاستكبار. آفاق تبدو لنا مسدودة، تتسبّب لأجيالنا الطالعة باليأس والإحباط، وتولّد عندهم حلم الخروج من جحيم أوطانهم والهجرة إلى مناطق سلام.
في هذا الوقت بالذات، لا بدّ من التضامن والترابط والتعاون، لكي نحافظ على وحدتنا وعلى وجودنا المسيحي الفاعل في هذا الشَّرق، ونحن فيه منذ ألفي سنة. فالمسيح المنتصر على الموت بقيامته يخاطب قلوبنا الفزعة، مثلما خاطب الرسل الخائفين والمضطربين. يدعونا للنظر إلى صليبه الظافر، فنتّخذ منه القوّة لنزرع الحب مكان البغض، والسلام مكان الحرب، والمصالحة مكان الخلاف. والكلّ يأتينا من الروح القدس، "هذه القوّة التي نلبسها من العلى" (لو24: 48)، بالمعودية والميرون.
4. حضور الربّ يسوع في الكنيسة وحياة المؤمنين هو بامتياز في سرّ القربان. فهو فيه نورُ الكلمة، وذبيحة الفداء والغفران، ومائدة جسده ودمه لحياتنا. نجد في ظهوره، بحسب إنجيل اليوم، علامات حضوره القرباني.
أ - الصليب الذي يعلو المذبح يذكّرنا بقوّة صليب الجلجلة، الذي مات عليه المسيح لفدائنا من خطايانا، ثمّ قام لانتصارنا وتقديسنا. إنّه رمزٌ لترائي يسوع وقد "أرى رسله يديه وقدميه" (لو24: 10).
ب - الخبز والخمر المحوَّلان إلى جسد الربّ ودمه في ليتورجيا القداس، وقد أصبحا في آن ذبيحة فداءٍ وطعامًا روحيًّا، ترمز إليهما وجبة الطعام، إذ "ناولوا يسوع قطعة سمك مشوي، فأخذها وأكلها بمرأى منهم" (لو24: 42). في مائدة ذبيحة القداس نحن نقدّم الخبز والخمر، من عمل الإنسان وتعبه، والربّ يسوع يحوّلهما إلى جسده ودمه، ويردّهما لنا ذبيحة خلاصيّة وطعامًا إلهيًّا، لحياة العالم.
ج - خدمة الكلمة في القسم الأول من القداس، المؤلّفة من القراءات والعظة، ظاهرة في ترائي الربّ يسوع، عندما راح يشرح ما كُتب عنه في شريعة موسى وفي كتب الأنبياء والمزامير. ثمّ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب التي تكلّمت عن آلامه وقيامته في اليوم الثالث (راجع لو 24: 44-46).
د - الرسالة للشهادة: سرُّ القربان هو المنطلق لحياة الكنيسة ورسالتها. فتنطلق هي ورعاتها ومؤمنوها ومؤسساتها لتشهد للمسيح: لمحبّته في الأعمال والمبادرات والمواقف، ولإعلان التوبة لمغفرة الخطايا لجميع الناس والشعوب. رسالة الشهادة والمحبة والإعلان، نتمّها بقوّة الروح القدس وعلى هديه: "أمكثوا في أورشليم إلى أن تلبسوا قوّة من العلى" (لو24: 49). إنّ الكنيسة تلتمس، قبل أيّ عمل، أنوار الروح القدس، لكي تستنير إلى ما هو حقّ وخير وجمال. وهذا ما ينبغي أن يفعله كلّ مؤمن ومؤمنة وكلّ جماعة.
القداس الإلهي، بأقسامه الثلاثة: الكلمة والذبيحة والمناولة، ينمي فينا روح الرسالة، إذ يعطينا قوّة داخلية وعزمًا وقصدًا. ذلك أنه كينونة تنبعث من المسيح إلينا، لكي ننشرها في ثقافة كل مجتمع كحضارة محبة وعطاء (راجع: "إبقَ معنا يا رب" للبابا يوحنا بولس الثاني (2005)، 24-25).
* * *
ثانيًا، وردية العذراء
نخصّص القسم الثاني من التنشئة المسيحية في شهر أيار للتأمّل في المسبحة الوردية. فنستوحي الرسالة الرسولية للقديس البابا يوحنا بولس الثاني: وردية مريم العذراء (16 تشرين الأوّل 2002).
1. صلاة الوردية، ذات الطابع المريمي، هي بالفعل صلاة محورها مسيحاني: فيها إعلان مضامين الإنجيل وخلاصتها. بتلاوة أسرارها الأربعة: الفرح والنور والحزن والمجد، ندخل في شركة حياة مع يسوع من خلال قلب أمّه التي تُدخلنا في تأمّل جمال وجه المسيح، وفي اختبار عمق حبّه. وبهذا نغرف من يدَي أمّ الفادي وافر النعم المتفجّرة من سرّ المسيح (الفقرة2).
ونستطيع أن نجمع في بيوت المسبحة جميع أحداث الحياة الفردية والعائلية، وحياة وطننا والكنيسة والبشرية، وأحداثنا الشخصية وأحداث أقربائنا. وبذلك ترافق صلاة الوردية وقع الحياة البشرية (المرجع نفسه).
يؤكّد القديس البابا يوحنا بولس الثاني أن صلاة الوردية احتلّت مكانة هامّة في حياته الروحية منذ صباه. ويقول أنّها رافقته في أزمنة الفرح وأزمنة المحنة، وقد سلّمها اهتمامات عديدة، وفيها وجد المؤاساة. وقال أيضًا: "إنّها صلاتي المفضَّلة. فهي رائعة في بساطتها وعمقها" (المرجع نفسه).
3. الوردية هي موجز الإنجيل، لأنّها ترتبط بتأمّل وجه المسيح في كلّ مراحل حياته على الارض. فنتأمّل اليوم في المراحل الأولى التي تضمّها أسرار الفرح. هذه تقودنا، على يد مريم، إلى الفرح المسيحي الذي أساسه تجسّد الكلمة - ابن الله، فادي الإنسان، ومخلّص العالم الأوحد.
بدأت مسيرة الفرح في السر الأول مع بشارة الملاك لمريم. فكان سلام الملاك جبرائيل لعذراء الناصرة دعوة إلى الفرح المسيحاني: "إفرحي يا مريم". تاريخ الخلاص كلّه، بل تاريخ العالم بالذات، مدعوٌّ ليتقبّل بشرى الفرح، ولنشرها في أجوائه. وبما أنَّ تصميم الآب هو أن يجمع في المسيح كلَّ شيء (أف 1: 10)، فالكون بأسره تمسّه الحظوة الإلهية التي نالتها مريم فانحنى الآب نحوها لكي تصبح أمًّا لابنه. ولذا، تجد البشرية جمعاء ذاتها وكأنها موجودة في جواب مريم "بنعم" للملاك، تعبيرًا عن مسارعتها في قبول إرادة الله.
وفي السرّ الثاني، شمل الفرح لقاء مريم إليصابات. فصوتها وحضور المسيح في حشاها ملآ البيت فرحًا، والجنين يوحنا ارتكض ابتهاجًا في حشا أمّه.
وفي السر الثالث، يبلغ الفرح ذروته عندما أعلن الملائكة ميلاد يسوع في مذود بيت لحم للرعاة، وأنشدته أجواق السماء. فكان الفرح العظيم (راجع لو 2: 10).
في السرَّين الرابع والخامس امتزج الفرح بنبوءة الألم. فالمسيح الذي وُلد، سيموت فاديًا على الصليب.
في السرّ الرابع، فرحت مريم ويوسف وسمعان الشيخ بتقدمة الطفل إلى الهيكل. ولكن تنبّأ سمعان عن هذا الطفل أنّه سيكون علامة خصام في الشعب، وعن الألم الذي سيجوز في نفس أّمّه (لو2: 35). فما كان منها سوى تجديد إيمانها بالله في قرارة نفسها، والتسليم لتصميمه الخلاصي.
في السرّ الخامس، كان ألم أبوَي يسوع شديدًا للغاية عندما أضاعاه وبحثا عنه طيلة ثلاثة أيام، ثم "وجداه في الهيكل بين العلماء". هناك أظهر كلمته الإلهية، وعلّم. ثمّ كشف سرَّه كابن مكرّس كلّيًّا لشؤون أبيه السماوي. إنها جذريّة الإنجيل ومطلقيّته، التي تعيد النظر في أعزّ الربط على قلب الإنسان، إزاء متطلّبات الملكوت المطلقة(راجع وردية مريم العذراء، 20).
* * *
صلاة
أيها الرب يسوع، أنت حاضر معنا ومع الكنيسة، رعاة وشعبًا ومؤسّسات، من خلال حضورك في سرّ القداس. أنت لنا فيه كلمة هادية، ونعمة شافية، ومحبة تملأ القلوب. إنمِ فينا روحًا رسوليًّا لنشهد لك: لسلامك ومحبتك، لغفرانك وفرحك، في عالم جائع ومتعطّش إليها كلّها. ويا مريم، قودي خطواتنا، عبر مسبحتك الوردية، إلى يسوع. عرّفينا على وجهه معرفةً تامّة، لكي نتمكّن من أن نعكس ملامح وجهه في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة. أدخلينا، عبر أسرار الفرح، في تصميم الفرح المسيحاني، واجعلينا رسل هذا الفرح. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.