لبنان
11 نيسان 2016, 12:47

التنشئة المسيحية - الأحد الرابع من زمن القيامة ليوم الأحد 17 نيسان 2016

تتأمّل الكنيسة في ظهور الربّ يسوع للتلاميذ مجتمعين لثالث مرّة. كانت الأولى في مساء يوم قيامته والتلاميذ ما عدا توما داخل البيت والأبواب موصدة. والثانية بعد ثمانية ايام في البيت نفسه والتلاميذ وتوما معهم. والثالثة لسبعة منهم على شاطئ بحيرة طبرية.

في الظهور الأوّل، نفخ في التلاميذ، كهنة العهد الجديد، الروح القدس ومنحهم سلطان مغفرة الخطايا. في الثاني، ثبّتهم في الإيمان بقيامته وألوهيّته. وفي الثالث، كشف لهم سرّ الكنيسة التي يقودها بنفسه في مسيرة صيد البشر.

أوّلاً، شرح نص الإنجيل

من إنجيل القديس يوحنا 21: 1-14

قالَ يُوحنَّا الرَسُول: ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَلى بُحَيْرَةِ طَبَرَيَّة، وهكَذَا ظَهَر: كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُس، وتُومَا المُلَقَّبُ بِالتَوْأَم، ونَتَنَائِيلُ الَّذي مِنْ قَانَا الجَلِيل، وابْنَا زَبَدَى، وتِلْمِيذَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلامِيذِ يَسُوع، مُجْتَمِعِينَ مَعًا. قَالَ لَهُم سِمْعَانُ بُطْرُس: «أَنَا ذَاهِبٌ أَصْطَادُ سَمَكًا». قَالُوا لَهُ: «ونَحْنُ أَيْضًا نَأْتِي مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَرَكِبُوا السَفِينَة، فَمَا أَصَابُوا في تِلْكَ اللَيْلَةِ شَيْئًا. ولَمَّا طَلَعَ الفَجْر، وَقَفَ يَسُوعُ عَلى الشَاطِئ، ولكِنَّ التَلامِيذَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسُوع. فَقَالَ لَهُم يَسوع: «يا فِتْيَان، أَمَا عِنْدَكُم شَيءٌ يُؤْكَل؟». أَجَابُوهُ: «لا!». فَقَالَ لَهُم: «أَلقُوا الشَبَكَةَ إِلى يَمينِ السَفِينَةِ تَجِدُوا». وأَلقَوها، فَمَا قَدِروا على اجتذابِها مِنْ كَثْرَةِ السَمَك. فقالَ  ذلِكَ التِلْميذُ الَّذي كانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطرُس: «إنَّهُ الرَبّ». فلمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَبّ، إِتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كانَ عُريانًا، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في البُحَيرَة. أَمَّا التَلاميذُ الآخَرونَ فَجَاؤوا بالسَفينَة، وهُمْ يَسْحَبُونَ الشَبَكَةَ المَمْلُوءَةَ سَمَكًا، ومَا كانوا بَعِيدينَ عَن البَرِّ إلاَّ نَحوَ مِئَتَي ذِرَاع. وَلَمَّا نَزَلُوا إلى البَرّ، رَأَوا جَمْرًا وَسَمَكًا على الجَمْر، وخُبْزًا. قالَ لَهُم يَسُوع: «هَاتُوا مِنَ السَمَكِ الَّذي أَصَبْتُمُوهُ الآن». فصَعِدَ سِمْعَانُ بُطرُسُ إلى السفينَة، وجَذَبَ الشَبَكَةَ إلى البَرّ، وهِيَ مَمْلوءَةٌ سَمَكًا كَبيرًا، مِئَةً وثَلاثًا وخَمْسين. ومَعَ  هذِهِ الكَثْرَةِ لَمْ تَتَمَزَّقِ الشَبَكة. قالَ لَهُم يَسُوع: «هَلُمُّوا تغدَّوا». ولم يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنَ التَلاميذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: «مَنْ أَنْت؟»، لأَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُ الرَبّ. وتَقَدَّمَ يَسُوعُ وأَخَذَ الخُبْزَ ونَاوَلَهُم. ثُمَّ فَعَلَ كذلِكَ بالسَمَك.  هذِهْ مَرَّةٌ ثالِثَةٌ ظَهَرَ فيها يَسُوعُ لِلتَلاميذِ بَعْدَ أَنْ قامَ مِنْ بَينِ الأَمْوات.

 

1. يذكّرنا هذا الظهور بظهور يسوع لتلميذَي عمّاوس، من حيث حضوره والسّير معهما، وهما في حالة حزن ونوعٍ من الإحباط، وشرحه الكتب لهما، ومعرفتهما له فقط عند كسر الخبز (راجع لو24: 13-35). هنا التلاميذ في حالة فشل بعد ليلة صيد عقيمة. فيحضر يسوع على الشاطئ عند الفجر، وهم عائدون إلى البَرّ: تعب، حالة نفسية كئيبة من جرّاء الفشل. كلّ ألم حسّي أو معنوي، مادّي أو روحي، أصبح حاملًا اسم "الصليب الشخصي" بعد صليب المسيح وقيامته. ولذا يحضر الربّ الفادي ليخفّف من ألم صليبنا، وليعطيه ثمارًا فاضت من صليبه.فحيث الصليب هناك المصلوب! ينبغي أن نتنبّه لهذه الحقيقة، فلا تحجبها عنا الصعوبات والمحن التي نمرّ بها.

2. يسوع يحضر عند الفجر، ساعة عودة الصيادين. ما يعني أنه حاضر في جميع أوقات حياتنا. يطلّ كالشمس، ليكون نور عقولنا وقلوبنا في بداية كل يوم. وهو دائمًا صاحب المبادرة الأولى: حضر إلى شاطئ البحيرة، رافق التلاميذ الصيادين بفكره ونظرته وحبّه، وسألهم إذا كانوا اصطادوا شيئًا. وعند جوابهم بالنفي، وجّههم لرمي الشباك لجهة اليمين، فيصيبوا. ففعلوا وكان كذلك. إنه يأخذ دائمًا المبادرة الأولى.

جميل أن نصلّي في صباح كلّ يوم، متذكّرين أنّ يسوع معنا، فنلتمس أنوار شخصه وكلامه وآياته، لنستنير بها في نهارنا، مردّدين نشيد القديس أفرام السرياني: "أشرق النور على الأبرار، والفرح على مستقيمي القلوب. يسوع ربنا المسيح أشرق لنا من حشا أبيه، فجاء وأنقذنا من الظلمة، وبنوره الوهّاج أنارنا".

الجماعات الرهبانية والكهنة يتلون صلاة الصباح، ويرافقون بها أبناء الكنيسة وبناتها المنصرفين إلى أعمالهم ونشاطاتهم، بل شعوب الأرض، لكي ينيرهم نور المسيح ويهديهم إلى كلّ ما هو حق وخير وجمال.

3. لم يعرف التلاميذُ يسوع أول الأمر، لا بجسده ولا بصوته، للدلالة مرة أخرى أن جسده القائم من الموت لا يعرف بعين الجسد، بل بعين الايمان والحب. عرفه يوحنا، الذي كان يسوع يحبه، من آية الصيد العجيب، من عطيته السامية. وللحال قال لسمعان-بطرس "إنّه الرب". وإذا ببطرس كعادته، المميّز بإيمانه بيسوع وبحبّه له، لم يأبه بالصيد العجيب، بل كان همّه كنزه الذي هو يسوع المسيح، فرمى بنفسه في الماء وأتى إلى يسوع. فهو غاية وجوده وهدفه في الحياة. لقد أعرب عن إيمانه في قيصرية فيليبس (راجع متى 6: 12-19). وسيعرب عن حبه حالاً بعد الغداء (راجع يو 21: 15-19).

نحن لا نرى وجه المسيح ووجه الله في هذه الدنيا وجهًا لوجه. بل نراه في أعماله وعطاياه التي يغدقها علينا. يهبنا عطاياه المادية والروحية والمعنوية والثقافية لكي نعرفه أحسن، ونحبّه أكثر، ونجعل من عطاياه لنا عطايا لمَن هم في حاجة بروح المشاركة والتضامن والترابط.. فنكون نحن يدَه المُعطية وقلبَه المُحبّ. مشكلة الانسان، التي تؤدي إلى الخطيئة تجاه الله والناس، أنه يتعلّق بالعطية وينسى الله معطيها (راجع مثل الابن الضال، لو 15: 11-32).

4. في هذا الظهور ظهرت معالم الكنيسة التي أسسها الربّ يسوع في ثلاثة وجوه:

الوجه الأول، في الخبز والسمك على الجمر المعدّ من الربّ (الآية 9). إنها دليل وفرة الخير والاحسان من الله والناس، من أجل أن تقوم الكنيسة بواجب اعلان انجيل المسيح، ومواصلة رسالته الخلاصية، من دون تعلّق بأشياء أو بمكان أو بزمان أو بوظيفة. لقد سبق وعلّم يسوع الكثير عن عناية الله الذي يفيض عطاياه، شرط أن ننصرف لإعلان ملكوته ولبنائه في المجتمع البشري (راجع متى 7: 25-34).

هذه الروحانية يحتاج إليها الكهنة والرهبان والراهبات، لكي يقوموا بواجبات حالتهم وسلكهم. ويحتاج إليهاالمسؤولون عن شؤون الدولة ومالها العام ومواردها لئلا ينحرفوا عن التزامهم بخدمة الصالح العام ومحاربة الفساد والرشوة والسيطرة على أموال الدولة وخزينتها.

الوجه الثاني هو كثرة السمك وعدد 153 سمكة كبيرة وعدم تمزّق الشبكة (الآية 11). كثرة السمك تعني جودة الله السخية التي لا تعرف القياس. وعدد 153 يرمز إلى عدد الشعوب المعروفة في ذلك الزمان، ويدلّ إلى شمولية الكنيسة الجامعة، المنفتحة بوجه جميع الناس والأمم والشعوب. وعدم تمزّق الشبكة هو صمود الكنيسة بوجه كلّ القوى. فلا شيء يقوى عليها، كما وعد الربّ لبطرس في قيصرية فيليبس (راجع متى 16: 18).

الوجه الثالث هو قيادة بطرس. فلما طلب يسوع من التلاميذ أن يأتوا بالسمك الذي اصطادوه، صعد بطرس إلى السفينة وجذب الشبكة إلى البرّ. هذه القيادة أعلنها له يسوع في قيصرية فيليبس: "أنت الصخرة التي أبني عليها كنيستي ... ولك أعطي مفاتيح ملكوت المساوات ..." (متى 16: 18 و19). قيادة مبنيّة على إيمان بطرس.ثم جدّدها له يسوع حالاً بعد الغداء برعاية نعاجه: "أتحبّني؟ -نعم- إرع خرافي" (يو 21: 15-17). قيادة مبنية على محبة بطرس للمسيح.

ثانيًا، يوبيل سنة الرحمة

1. في الزمن الفصحي، موت المسيح وقيامته، تظهر رحمة الله اللامتناهية: فبفيض من محبّة الله ورحمته للبشر، جاد بابنه الوحيد، يسوع المسيح، الاله المتجسِّد، فمات وهو القدّوس فدى عن خطايا جميع الناس. يكتب القديس بولس الرسول: "الذي لم يعرف الخطيئة، جعله الله خطيئة من أجلنا" (2كور 5: 21). هي العدالة الإلهية تولد من الحبّ الإلهي. فالمسيح احتمل الآلام والصلب بسبب خطايا البشرية. وهذا فيض من العدالة، لكونه وهو الإله كفّر عن خطايا الانسان بذبيحة ذاته على الصليب. هي العدالة تولد من الحب، حاملة ثمار الخلاص التي هي بلوغ الانسان ملء الحياة والقداسة. لذا يحمل الفداء الإلهي في طياته قوّتين: التكفير عن خطايا البشر، وقوّة الحبّ الخلاّقة (راجع البابا يوحنا بولس الثاني: الغني بالرحمة، 7).

2. يسوع الذي "كان يجول فاعلاً الخير"، شافيًا المرضى من كل مرض وضعف (راجع أعمال 10: 38؛ متى 9: 35)،كان الجدير بأكبر قدر من الرحمة، بل كان ملتمسًا الرحمة، لما قُبض عليه وشُتم وحُكم عليه وجُلد وكُلّل بالشوك وسُمِّر على الصليب ولفظ أنفاسه الأخيرة بآلام مبرّحة (راجع مر 15: 37؛ يو 19: 30). لكنّه لم يحظَ بأية مبادرة رحمة من البشر.

لكن الآب الذي أقامه من الموت أجزل له الرحمة. فاختبرها اختبارًا جذريًا، من خلال حبّ الآب الأقوى من الموت.

3. صليب المسيح كشف جوهر رحمة الله أي حبّه الذي، عبر التاريخ قاوم ما يكوّن بالذات أصل الشر أعني الخطيئة. صليب المسيح هو الوسيلة الأكثر عمقًا التي بها تنحني الألوهة على الانسان، وبخاصة في أوقاته الصعبة وفي ضيقه؛ وهو لمسة من الحبّ الأبدي لجراح الانسان الأكثر إيلامًا في وجوده على الأرض؛ وهو الانجاز النهائي للبرنامج المسيحاني الذي أعلنه يسوع في مجمع الناصرة،  وهو كما تنبّأ أشعيا: الحبّ الرحيم نحو الفقراء والمتألمين والمسجونين والعميان والمضطهدين والخطأة (راجع لو 4: 18-21).

هذا البرنامج المسيحاني هو برنامجنا نحن المؤمنين بالمسيح. نرجو أن تساعدنا نعمة سنة الرحمة المقدسة على وعيه والالتزام به، أفرادًا وجماعات.

*         *        *

صلاة

أيها الربّ يسوع، أنت حاضر في حياتنا اليومية مع إطلالة كل شمس، تسهر علينا وعلى شؤوننا، وتوجّهنا بكلامك وبصلاتنا إلى حسن التدبير في كل ما نقوم به. امنحنا نعمة الايمان بك، وأضرم في قلوبنا محبتك. حرِّر قلوبنا من التعلق بعطاياك كأنّها غاية وجودنا، بل أيقظ فينا روح المشاركة والعطاء، لكي نتقاسمها مع مَن هم في حاجة. أعطنا أن نعرفك أكثر من خلال عطاياك، وأن نحبّك أكثر. في سنة الرحمة المقدسة ساعدْنا بنعمتك لنلتزم ببرنامجك المسيحاني. فنرفع نشيد المجد والتسبيح لرحمة الله ومحبته، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.