لبنان
29 آذار 2016, 11:46

التنشئة المسيحية - الأحد الثاني من زمن القيامة - الأحد 3 نيسان 2016

في هذا الأحد تذكر الكنيسة ظهور الربّ يسوع للتلاميذ الأحد عشر بعد ثمانية أيام من قيامته، ومن ظهوره الأوّل، ولم يكن توما معهم. فلم يستطع بسبب صدمة الصلب تصديق الخبر، ما لم يرَ بعينَيه الربّ ويلمسه بيديه. فكان هذا الظهور الثاني لهذه الغاية. هذا دليل أنّ يسوع، غير المنظور، حاضر في حياة كلّ واحد وواحدة منا، ويعرف كلّ أفكارنا ونوايانا ورغباتنا.

واليوم تحتفل الكنيسة بعيد الرحمة الإلهية الذي أنشأه القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني، ومات في مناسبته.

 

أوّلًا، شرح الإنجيل

    من إنجيل القديس يوحنا 20: 26-31

      بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّام، كَانَ تَلامِيذُ يَسُوعَ ثَانِيَةً في البَيْت، وتُومَا مَعَهُم. جَاءَ يَسُوع، والأَبْوَابُ مُغْلَقَة، فَوَقَفَ في الوَسَطِ وقَال: «أَلسَلامُ لَكُم!». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا، وانْظُرْ يَدَيَّ. وهَاتِ يَدَكَ، وضَعْهَا في جَنْبِي. ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مُؤْمِنًا!». أَجَابَ تُومَا وقَالَ لَهُ: «رَبِّي وإِلهِي!». قَالَ لَهُ يَسُوع: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي آمَنْت؟ طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَوا وآمَنُوا!». وصَنَعَ يَسُوعُ أَمَامَ تَلامِيذِهِ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةً لَمْ تُدَوَّنْ في هذَا الكِتَاب. وإِنَّمَا دُوِّنَتْ  هذِهِ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ الله، ولِكَي تَكُونَ لَكُم، إِذَا آمَنْتُم، الحَيَاةُ بِاسْمِهِ.

 

1. هذا الظهور يكمل ظهور الربّ يسوع مساء يوم قيامته. في الظهور الأوّل منحهم سلامه الفصحي، ونفخ فيهم روحه القدوس الذي يقيمهم لحياة جديدة، ويمنحهم السلطان الكهنوتي لمغفرة الخطايا (راجع يو20: 19-23).

في الظهور الثاني، بعد ثمانية أيام، أكّد الربّ يسوع أربعة: "حضورَه في كلّ مكان، حضورًا غير خاضع لشريعة المكان والزمان: "جاء والأبواب مقفلة ووقف في الوسط؛ عطيّة السلام الذي هو إيّاه شخصيًّا: "السلام معكم"؛هويته الجديدة وهي أثار الصلب في يدَيه وجنبه؛ اعتلانه مسيح الإيمان: "طوبى لمَن لم يروني وآمنوا" (يو20: 26-29).

 

2. كشفت ظهورات يسوع بعد قيامته حضوره الدائم في تاريخ البشر وفي تاريخ كلّ إنسان. وبالرغم من ظهوراته لم يعرفه التلاميذ، لأنّه أصبح مسيح الإيمان، ولا يُعرف بمظهره البشري: مريم المجدلية لم تعرفه وظنّته البستاني. لكنّها عرفته عندما ناداها باسمها (راجع يو 20: 11-16). تلميذا عمّاوس لم يعرفاه وقد رافقهما وحدّثهما طيلة الطريق. عرفاه فقط عندما كسر الخبز وناولهما أي في سرّ القربان، الذي هو سرّ الإيمان (راجع لو 24: 13-35). الأحد عشر لم يصدّقوا أنّه هو عندما ظهر لهم، وطنّوه روحًا وظلّوا في حالة الشك، حتى أكل أمامهم وشرح لهم الكتب (راجع لو 24: 36-49). سبعة منهم ظهر لهم على شاطئ بحيرة طبريّة ولم يعرفوه. عرفه يوحنا بعد معجزة الصيد العجيب (راجع يو 21: 4-7).

 

3. يسوع لا نعرفه بعين الجسد، بل بعين الإيمان. ولا نعرفه بعين العقل بل بحبّ القلب. عندما قال يسوع لتوما: "كن مؤمنًا، لا غير مؤمن" (يو20: 27)، منحه نعمة الإيمان. ولذا، للحال رأى فيه توما يسوع-الإله، فهتف: "ربّي وإلهي". وأصبح هتاف الكنيسة في كلّ صلواتها الليتورجية.

4. ينهي يوحنا إنجيله بالدعوة إلى الإيمان: "هذه كُتبت لتؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا آمنتم، نلتُم باسمه الحياة الأبدية" (يو20: 31). هذا الإيمان بيسوع هو الثقة به ومحبّته من جهة، وهو مسعى العقل الدائم إلى معرفته ومعرفة الحقائق التي علّمها بأقواله وأفعاله وآياته. يقول يوحنا: "أما ما كُتب منها فلكي تؤمنوا" (يو 20: 30-31).

الإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع "الربّ والسيّد"، ومنها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصعاب. في كلّ حال الإيمان عطيّة من الله كما أكّد الربّ يسوع لسمعان بطرس عندما أعلن إيمانه به في قيصرية فيليبس: "لا لحم ولا دم أظهر لك ذلك، لكن أبي الذي في السماوات" (متى 16: 17). كانت الكنيسة الأولى تختبر هذا الواقع، كما نقرأ في كتاب أعمال الرسل: "كانت يد الربّ معهم، فآمن منهم كثيرون واهتدوا إلى الرب. ولمّا جاء برنابا إلى انطاكية رأى نعمة الله، ففرح وشجّعهم كلّهم على الثبات في الرّب بكلّ قلوبهم" (أعمال 11: 21-22).

الإيمان هو جواب الإنسان إلى الله الذي يكشف له ذاته، ويهبه ذاته، ويعضد بنور فائض كلّ إنسان يبحث عن المعنى الأخير لحياته. إيماننا المسيحي نعلنه في قانون الإيمان، ونحتفل به في الليتورجيا، ونعيشه في حفظ وصايا الله وفي الصلاة (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 26).

كون الإيمان جوابًا إلى الله الكاشف عن ذاته، فإنه دخول في الشّركة معه بنعمة مجّانية من الله. بهذا الإيمان يُخضع الإنسان بالكلّية عقله وإرادته لله، فيقبل ما يوحيه الله إليه ويلتزم به. هذا يُسمّى طاعة الإيمان (المرجع نفسه، 142-143). هكذا يظهر إيمان توما بعد أن رأى في يسوع آثار الصلب فآمن بألوهيّته.

6. الإيمان فضيلة إلهيّة بها نؤمن بالله وبكلّ ما قاله وأوحاه، كما تعلّمنا إياه الكنيسة لنؤمن به، لأنّه الحقيقة بالذات. بالإيمان يقدّم الإنسان ذاته بكلّيتها لله. ولهذا يسعى المؤمن بشكل دائم إلى معرفة إرادة الله وإتمامها. "البارّ بالإيمان يحيا" (روم1: 17). والإيمان الحيّ يفعل بالمحبة (غلا 5: 6). ولذا، "الإيمان من دون أعمال ميت" (يعقوب 2: 36). الإيمان، الذي لا يثبت في الرجاء، ولا يُترجم بأعمال ومواقف محبة، لا يُدخل المؤمن في اتّحاد كامل مع المسيح، ولا يجعل منه عضوًا حيًّا في جسده (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1814-1815).

*   *   *

ثانيًا، عيد الرحمة الإلهية

1. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد بعيد الرحمة الإلهية. وترتبط عبادتها بالقديسة ماري-فوستين، الراهبة البولونية من جمعية راهبات سيدة الرحمة في فرصوفيا. وُلدت في آب 1905. دخلت الرهبانية بعمر 19 سنة سنة 1924. ظهر لها الربّ يسوع لأوّل مرّة في شباط 1931، بالشكل الذي تنقله صورة الرحمة الإلهية: واقف مرتدٍ لباسًا أبيض، يدُه اليمنى مرفوعة تبارك، واليسرى على صدره من جهة القلب، ويخرج من هذه الجهة شعاعان، الأوّل أحمر والثاني أبيض. سمعت الأخت ماري-فوستين معنى هذَين الشعاعَين من فم يسوع:

"هما الدم والماء اللذان فاضا من أعماق رحمتي، لما طُعن قلبي بحربة على الصليب. الشعاع الأبيض يرمز إلى الماء الذي يطهّر النفوس، والأحمر يرمز إلى الدم الذي هو حياة النفوس".

لقد قرأت الكنيسة فيهما رمز سرَّي المعمودية والقربان.

وقال لها يسوع: "ارسمي لوحة بما ترين وضعي عليها الكتابة التالية: "يا يسوع أنا أثق بك". "أرغب أن تكرَّم هذه الصورة في كنيستكِ أوّلًا، ثمّ في العالم أجمع. وأعدُ كلّ نفس تكرّم هذه الصورة بأنّها لا تهلك، وأعدها بالانتصار على أعدائها في هذه الحياة، وبخاصّة عند ساعة موتها. أنا أدافع عنها بذاتي. إنّ نظرة عيناي في هذه الصورة هي ذاتها وأنا على الصليب".

وتابع: "كلّمي العالم كلّه على رحمة قلبي، لتتعلّم الإنسانية جمعاء التعمّق في رحمتي اللامحدودة. إنّها علامة لآخر الأزمنة، بعدها يأتي يوم الدينونة. ولكن قبله سأفتح واسعة أبواب رحمتي. مَن لا يريد أن يمرّ بأبواب رحمتي، ينبغي أن يمرّ بأبواب عدالتي.

2. ماتت الأخت ماري-فوستين في 5 تشرين الأوّل 1983 بعمر المسيح 33 سنة بمرض السّل، في دير الجمعية بكراكوفيا. وانتشرت عبادة الرحمة الإلهية في العالم كلّه. وفي لبنان تكوّنت عدّة "جمعيات الرحمة الإلهية" في العديد من الرعايا.

حدّد القديس البابا يوحنا بولس الثاني عيد الرحمة الإلهية في الأحد الذي يلي أحد القيامة. يومها في 30 نيسان 2000 أعلن الطوباوية الاخت ماري-فوستين قديسة. وهو نفسه توفّي ليلة عيد الرحمة الإلهية في 5 نيسان 2005.

وكان قد أصدر في 30 تشرين الثاني 1980 رسالة عامّة بموضوع "الرحمة الإلهية". هذه الرسالة تشكّل مع البراءة التي افتتح بها قداسة البابا فرنسيس في 8 كانون الأوّل 2015، سنة الرحمة المقدّسة، وهي بعنوان "وجه الرحمة"، خير موجّه لعيش سنة الرحمة بمفهومها وأبعادها ومقتضياتها. كم نرجو أن تكون الرحمة هوية المسيحيّين ورسالتهم!

*   *   *

صلاة

أيّها الربّ يسوع، نحن نجدّد اليوم إيماننا بك، ثبّتنا فيه بوجه المصاعب وأسباب الشّك. حوّله فينا رجاءً نثبت فيه محافظين على الاتّحاد بك، وعلى كلمتك الهادية. وكمِّلْه بالمحبة لكي نجسّده بالأفعال والمبادرات والمواقف.

يا وجه رحمة الآب، افتح قلوبنا على الرحمة الإلهية، لكي نعود إليها بالتوبة، وننعم بثمارها، وننشرها من حولنا، مدركين أنّ العالم لا يستطيع أن يعيش بسلام وفرح من دون اختبار الرحمة في القلوب. أدخِلْ الرحمة إلى العائلات وجماعات المؤمنين، إلى المجتمع والوطن.

أهِّلْنا، وقد امتلأت قلوبنا رحمة في هذه السنة المقدّسة، أن نرفع بأعمالنا الرحيمة نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.