لبنان
24 شباط 2020, 08:10

البطريرك يونان في رسالة الصّوم: بالمسيح نلنا المصالحة

تيلي لوميار/ نورسات
أصدر بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان رسالة الصّوم للعام 2020، جاء فيها:

"1.  مقدّمة

الصّوم الكبير مسيرةٌ روحيّةٌ تدوم أربعين يومًا وتقودنا إلى فرح الفصح أيّ العبور نحو القيامة، غلبة المسيح المخلّص على الموت. وهو الزّمن الملائم لنتجدّد من خلال تأمّلٍ أعمق بكلام الله في الأسفار المقدّسة، فنلتقي مع الرّبّ ومع القريب بفعل مصالحةٍ صادقةٍ تعلو بنا على شروط إنسانيّتنا الضّعيفة، بتقرُّبنا من سرّ التّوبة وتناوُلنا القربان المقدّس. مسيرة الصّوم الكبير دعوةٌ فريدةٌ إلى التّوبة ܬܝܳܒܽܘܬܳܐ، أيّ عودة المؤمن بقلبه وعقله إلى الله. وعلى هذه التّوبة أن تشمل الإقرار بضعفنا البشريّ وخطيئتنا، وبتصميمنا على المغفرة والمسامحة والمصالحة. فالتّوبة تقتضي أن نغيّر وجهة حياتنا من ماضٍ مُثقَلٍ بالأخطاء نحو تجديدٍ روحي في مسيرة حياتنا، وذلك بالسّعي لتغييرٍ كاملٍ لمسيرتنا السّابقة، فنجدّد السّير نحو الله ومعه.

في الصّوم نمتنع عن تناول بعض الأطعمة، كالانقطاع عن الطّعام واللّحوم وسواها، إلّا أنّنا فيه نعيش الشّبع الرّوحيّ ممتلئين من حضور الله ونِعَمِه وتعزياته. وفيه نعود إلى الرّبّ، فنفحص ضميرنا لنقوّم علاقتنا به وبالقريب وبالذّات، ونحيا الإيمان العامل بالمحبّة. الصّوم لا يُحصَر معناه بالاكتفاء بالمظاهر الخارجيّة وإتمام العادات والتّقاليد ظاهريًّا. فنحن نرى البعض يكتفون بالامتناع عن الطّعام والشّراب دون أن ينقّوا أنفسهم من الكذب والرّياء والتّحايل والنّميمة والتّعدّي على الغير، قريبًا كان أو غريبًا. وهذا يعني تتميم النّاموس أيّ الشّريعة ظاهريًّا، دون أن يعيشوا روح الصّوم بـ"التّوبة" الحقيقيّة، الّتي تتطلّب ممارسة الفضائل، وأوّلها المحبّة الصّادقة والفاعلة. لقد تناسوا وللأسف ما ذكّرنا به المعلّم الإلهيّ في الإنجيل أنّ "ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الّذي ينجّس الإنسان" (مت 15: 11).

2. الصّوم: "سِر إلى العمق" (لو 5: 4)

في الصّوم نسير إلى العمق في علاقتنا مع الرّبّ ونسعى لاكتشاف جوهر دعوتنا للتّلمذة له. وهو الزّمن المناسب لتكثيف حياة الرّوح عبر الإرشادات والوسائل التّقويّة المقدّسة الّتي تقدّمها لنا الكنيسة: الامتناع عن بعض ما يلذّ لنا بروح التّجرّد عن المادّيّات، الصّلوات والابتهالات الحارّة، ممارسة الصّدقة بروح متواضعة، والتّكثيف من أعمال المحبّة والرّحمة الّتي نقوم بها دون غرور واعتداد بالنّفس. هو زمنُ توبةٍ وصلاةٍ ومسامحةٍ وتكفير، كما أنّه عربون غفران ومصالحة مع ذواتنا والقريب والعالم ومع الله. والمصالحة وصيّةٌ تلقّيناها من الرّبّ يسوع: "فإن تغفروا للنّاس زلّاتهم يغفر لكم أبوكم السّماويّ زلّاتكم" (مت 6: 14).

تفتتح كنيستنا السّريانيّة زمن الصّوم الكبير يوم الإثنين الأوّل منه، وتختتمه يوم سبت النّور، برتبة المسامحة (الشّوبقونو) ܫܽܘܒܩܳܢܳܐ، حيث يطلب المؤمنون المغفرة من الله، ويتمّمون وصيّته بمسامحة بعضهم بعضًا. إنّها رتبة مؤثّرة وعميقة بمعناها، إذ يتصالح المؤمنون مع الله ومع بعضهم البعض ليستقبلوا زمن الصّوم بالنّقاوة والبرارة وطهارة القلب. كما تعدّ المؤمنين لاستقبال عيد قيامة الرّبّ وهم مزيَّنون بالطّهر والمصالحة، وبالمحبّة قمّة الفضائل الّتي علّمنا آباؤنا السّريان في رتبة المسامحة أن نضرع إلى الرّبّ كي يملأنا بها:

«ܚܽܘܒܳܐ ܕܰܕܟܶܐ ܡܶܢ ܐܰܟܬܳܐ ܘܡܶܢ ܚܶܪ̈ܝܳܢܶܐ ܡܠܺܝ ܠܠܶܒܰܘ̈ܳܬܰܢ܆ ܡܳܪܝܳܐ ܡܳܪܶܐ ܟܽܠ ܪܰܚܶܡ ܥܠܰܝܢ». وترجمتها: "إملأ قلوبنا بالمحبّة الخالية من الحقد والخصام، أيّها الرّبّ ربّ الكلّ، وارحمنا" (من ترانيم رتبة المسامحة الّتي تقام يوم إثنين مدخل الصّوم الكبير).

3.  شركاء في خدمة المصالحة

كلّ مؤمنٍ مدعوٌّ إلى أن يكون شريكًا في خدمة المصالحة والعمل على إتمامها. إنّ السّعي نحو المصالحة ما هو إلّا تحقيقٌ لإرادة الرّبّ يسوع. ولأنّ المصالحة بين بعضنا هي من عمل الرّوح القدس فينا، فالرّبّ، الّذي تغلّب على مكائد الشّرّير بصومه أربعين يومًا في البرّيّة، يدلّنا على الطّريق الّتي يجب علينا اتّباعها. ولا يسعنا وقد برَّرَنا الله وصالحَنا مع نفسه، أن نقف متفرّجين ننتظر ما تُحدِثه محاولات المصالحة الّتي يسعى إليها القريبون منّا ومجتمعاتنا. بل يجب علينا أن ننطلق- والرّوح القدس مُرشدنا- في مسيرة توبةٍ حقيقيّة "مفتخرين بالله، بربّنا يسوع المسيح الّذي به نِلْنا المُصالحة" (رو5: 11)، كي نكتشف من جديد نِعَمَ الله السّخيّة في صومنا، ونتطهّر من الخطيئة الّتي تعمينا، ونخدم المسيح الحاضر في كلّ محتاجٍ إلى محبّتنا، فنساهم، بالعمل قبل الكلام، في مواساة الحزانى والتّخفيف من آلامهم النّاتجة عن الظّلم ومآسي الحروب والفقر.

إنّ العلامة الّتي تدلُّ على أنَّنا نحبُّ الله هي أن نحبَّ القريب. ونحن، إذا كنّا على خصامٍ بعضنا مع بعض، لا يمكننا أن نكون متصالحين مع الله. وإذا كان في جماعتنا خلافٌ وانقسام، فهذا يعني أنَّنا لم نفهم شيئًا من عمل يسوع الفدائيّ من أجلنا! من هنا، فالمصالحة هي تجديد عهد المحبّة بين الله والإنسان بعد قطيعةٍ وابتعاد، وهي الإقامة والسّكنى في بيت الآب، والعلامة السّاطعة لتلمذتنا للمعلّم الإلهيّ يسوع مخلّصنا، كما أنّها تدبير الله لحياتنا الشّاهدة لمحبّته وخلاصه.

وها هو مار يعقوب السّروجيّ يحلّق في سماء الرّوح متأمّلًا بأهمّيّة سرّ المصالحة، فيقول:

«ܙܽܘܥܘ ܕܰܪܓܺܝܙܺܝܢ ܘܰܚܒܽܘܨܘ ܟܽܠܝܽܘܡ ܥܰܠ ܬܰܪܥܽܘܬܳܐ܆ ܕܡܳܪܝܳܐ ܒܚܽܘܒܶܗ ܐܶܬܪܰܥܺܝ ܠܰܢ ܥܰܠ ܕܰܐܪܓܶܙܢܳܝܗ̱ܝ. ܠܳܐ ܐ̱ܢܳܫ ܢܺܐܡܰܪ ܕܰܦܠܳܢ ܐܰܣܟܶܠ ܢܺܐܬܶܐ ܠܰܐܦ̈ܰܝ܆ ܪܰܒ ܐ̱ܢܳܐ ܡܶܢܶܗ ܨܰܥܪܰܐ ܗ̱ܘ ܐܺܙܰܠ ܐܶܬܪܰܥܶܐ ܠܶܗ». وترجمتها: "خافوا أيّها الغاضبون واهرعوا كلّ يوم إلى المصالحة، لأنّ الرّبّ بمحبّته صالحَنا بعد أن أغضبناه. لا يقولنَّ أحدٌ إنّ فلانًا أخطأ تجاهي فليأتِ إليّ، لأنّي أنا أعظم منه ومن المشين أن أبادر لأصالحه".

4. المصالحة عمل الله في أعماق الإنسان

"الله صالح العالم مع نفسه في المسيح" (2كور5: 19)، وبدَّل حالةَ البشريّة بالنّسبة إليه، فصارت خليقةً جديدة. وكما قدَّم يسوع ذاته من أجل مصالحتنا مع الله الآب، هو "الوديع والمتواضع القلب" (مت11: 29)، نقدِّم ذواتنا مشاركين صعوباتنا في تقدمته، متنازلين عن أنانيَّتنا وكبريائنا، وعاملين من أجل المحبَّة والمصالحة.

في سرّ القربان المقدَّس، الّذي يجدّد ذبيحة الصّليب السّرّيّة وعمل الفداء، تبرز أهمّيّة المصالحة. فعندما نتناول جسد الرّبّ ودمه نشارك في سرّ المصالحة، ونضحي قريبين من الله بعد أن كنّا بعيدين عنه بسبب خطايانا. يسوع المسيح، بموته وقيامته، هدم جدار العداوة الفاصل بين الله والبشر (راجع أف 2: 14-16).

في سينودس الأساقفة العامّ حول "المصالحة والتّوبة في رسالة الكنيسة" لعام 1983، عبّر الأساقفة في إعلانهم عن المصالحة بالقول: "بقدر ما يقرُّ المسيحيّون لله بعطيَّة المصالحة الّتي قبلوها، يصبحون شهودًا حقيقيّين لهذه المصالحة في حياتهم اليوميّة. والمصالحة مع الله عليها أن تبرز بشكل مصالحةٍ مع الإخوة داخل الجماعة المسيحيّة أو في المجتمع البشريّ. هذه المصالحة هي في الوقت ذاته عطيَّةٌ من الله، ومسؤوليّة المسيحيّين الّذين يعيشون في هذا العالم".

يشير قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة زمن الصّوم لهذا العام 2020 بعنوان "فنسألكم باسم المسيح: تصالحوا مع الله" (2كور5: 20)، إلى محوريّة المصالحة في حياة المؤمن وأهمّيّة زمن الصّوم لولوج هذه المصالحة:

"في هذا الزّمن المقبول، فلندع ذواتنا ننقاد لكي نتمكّن في النّهاية من سماع صوت عريسنا، وندعه يتردّد فينا بعمق أكثر وبجهوزيّة أكبر. فبقدر ما تُعنى أنفسنا بكلمته، بقدر ذلك يمكننا أن نختبر رحمته المجّانيّة لنا... لكي نتقبّل الدّعوة إلى أن نتصالح مع الله ونركّز أنظار قلوبنا على السّرّ الفصحيّ، ولكي نعود إلى حوار مفتوح وصادق مع الله. هكذا يمكننا أن نصبح ما قاله المسيح عن تلاميذه: ملح الأرض ونور العالم".

5. الصّوم زمن المصالحة في عالمنا اليوم

لا يسعنا إلّا أن نتألّم لما يكتنف عالمنا اليوم من خطايا الكبرياء والتّسلّط والاستئثار والتّعدّيات العلنيّة والخفيّة على حقوق الإنسان الضّعيف. وإنّنا نتساءل كيف تتمّ المصالحة بين الأفراد والشّعوب، وجرائم الأقوياء لا تزال تنشر الظّلم والمآسي؟ إنّنا كمسيحيّين نشارك جميع ذوي الإرادة الصّالحة في المسؤوليّة من أجل تحقيق مصالحة صادقة حولنا، في مجتمعاتنا وفي أوطاننا.

في خضمّ تأمّلنا بسرّ المصالحة، ونحن ننطلق في زمن الصّوم المقدّس، تتوجّه أنظارنا وأفكارنا وقلوبنا إلى أبنائنا وبناتنا حيث أرادتهم العناية الإلهيّة، في بلاد الشّرق وعالم الانتشار، وخاصّةً أولئك الّذين عانوا ولا يزالون يعانون بسبب الحروب والأزمات والاضطهادات وأعمال العنف والخطف والقتل، والّذين قاسوا آلام الهجرة والتّهجير القسريّ عن أرضهم ووطنهم إلى بلاد أخرى. نذكرهم جميعًا في صلواتنا، ونسأل الله أن يخفّف آلامهم ومعاناتهم، وأن يبسط أمنه وسلامه ومصالحته في العالم كلّه، فتنتهي الحروب وتزول الخصومات، ويسود السّلام ويعمّ الوئام وتملك المحبّة.

كما نصلّي من أجل أن يجنّب اللهُ العالمَ بأسره أخطار الأمراض والأوبئة، ولاسيّما "فيروس كورونا" الّذي تفشّى في هذه الأيّام في أماكن عدّة في العالم، مهدّدًا الأمن الصّحّيّ والسّلم العالميّ، داعين بالشّفاء العاجل والتّامّ للمصابين به. حمى الله العالم من كلّ خطر ومكروه.

6. خاتمة:

في مستهلّ زمن الصّوم، نرفع إليك صلاتنا يا ربّ، ونسألك أن تؤهّلنا كي نجدّد التزامنا في السّير على دربك، جاعلين سرّك الفصحيّ يحوّلنا، فنتغلّب على الشّرّ، ونُميتَ فينا "الإنسان القديم" المرتبط بالخطيئة، ونُحيي "الإنسان الجديد" المتحوِّل بنعمة الله، كما حوّلتَ الماء إلى خمرٍ لذيذٍ وأبهجتَ المدعوّين في عرس قانا الجليل.

فلنردّد مع الكنيسة طلبة مار يعقوب السّروجيّ الخاصّة بالصّوم:

"ܡܳܪܰܢ ܐܶܬܪܰܚܰܡ ܥܠܰܝܢ ܒܪܳܐ ܕܰܒܨܰܘܡܶܗ ܚܰܪܰܪ ܠܰܢ܆ ܡܫܺܝܚܳܐ ܕܨܳܡ ܡܶܛܽܠܳܬܰܢ܆ ܥܒܶܕ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܥܰܠ ܢܰܦܫ̈ܳܬܰܢ"؛

"ربّنا تحنّن علينا، يا ابن الله الّذي بصومه حرّرنا، يا مسيحًا صام من أجلنا، أشفِق علينا وارحمنا جميعًا".

ختامًا، نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، ويؤهّلنا جميعًا لنحتفل بفرح قيامته من بين الأموات. ونمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزّاء، بركتنا الرّسوليّة عربون محبّتنا الأبويّة. ولتشملكم جميعًا بركة الثّالوث الأقدس: الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد. والنّعمة معكم".