لبنان
02 آذار 2020, 08:50

البطريرك يونان افتتح مئويّة إعلان مار أفرام ملفانًا للكنيسة الجامعة

تيلي لوميار/ نورسات
إفتتح بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان مئويّة إعلان مار أفرام السّريانيّ ملفانًا للكنيسة الجامعة في عيده، خلال قدّاس احتفاليّ ترأّسه مساء السّبت، في كاتدرائيّة سيّدة البشارة- المتحف، عاونه فيه لفيف من المطارنة، بحضور بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الرّاعي، وبطريرك السّريان الأرثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثّاني، القائم بالأعمال وسكرتير السّفارة البابويّة في لبنان المونسنيور جوزيبّي فرانكون، والمطران جورج أسادوريان ممثّلاً بطريرك الأرمن الكاثوليك كريكور بيدروس العشرين كبرويان، والأرشمندريت باران فارتانيان ممثّلاً كاثوليكوس بيت كيليكيا للأرمن الأرثوذكس آرام الأوّل كيشيشيان، ومطران جبل لبنان وطرابلس للسّريان الأرثوذكس ثيوفيلوس جورج صليبا، ورئيس أساقفة بيروت للموارنة والمطران بولس عبد السّاتر، ورئيس أساقفة بيروت وجبيل للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران جورج بقعوني، وعدد من الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات للرّهبانيّات، والكهنة والرّهبان والرّاهبات من مختلف الكنائس. كما حضر ممثّلون عن القيادات الأمنيّة والعسكريّة، وحشد من فعاليّات الطّائفة وأصدقائها، وأبناء الرّعايا السّريانيّة في أبرشيّة بيروت ومن النّازحين العراقيّين والسّوريّين.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى يونان عظة بعنوان "فحيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا"، قال فيها نقلاً عن إعلام البطريركيّة:

"وكأنّنا اليومَ أمام بولس رسول الأمم، يوجّه لنا ما كتبه إلى كنيسة روما، يناشدنا أن نبتعد عن روح هذا العالم، ونتجدّد بالرّبّ يسوع، كي نُضحي جماعةً كنسيّةً تعيش المحبّة الصّافية بروح الوحدة الحقيقيّة، وتغتني من المواهب الّتي أُغدِقت عليها. فيتشارك أعضاؤها في الفرح والبكاء، ويؤكّدون بإماتاتهم المتنوّعة، وكفرهم بالذّات، غلبة الرّوح على الأهواء البشريّة، وإحساسهم بآلام الآخرين وتضامنهم معهم، وذلك بممارسة أعمال الرّحمة والمحبّة. عندئذٍ يستحقّون أن يقدّموا ذواتهم ذبيحةً حيّةً ترضي الآب السّماويّ، مشاركين في ذبيحة الفداء الّتي قدّمها الإبن الوحيد مخلّصنا.

وفي هذا الأسبوع الأوّل من موسم الصّوم الكبير، هذه المسيرة الرّوحيّة الّتي تقودنا في كلّ عام نحو فرح القيامة، يذكّرنا متّى الإنجيليّ، بأنّ الصّوم هو غلبة الرّوح على الأهواء البشريّة بالإماتات الخفيّة وبالاتّضاع، لأنّ مكافأتنا الحقيقيّة هي لدى الآب السّماويّ. وبأنّ علينا أن ندّخر لأنفسنا النِّعَم والفضائل كعطيّة مجّانيّة من الله، كنزًا روحيًّا لا شيءَ يُفسده، ولا أحد يستطيع أن يسرقه منّا.

نجتمع اليوم في هذه الكاتدرائيّة المباركة المكرَّسة على اسم أمّنا العذراء مريم سيّدة البشارة، لنحتفل حسب تقليد كنيستنا بعيد مار أفرام، ملفان أيّ معلّم الكنيسة الجامعة. هذا الشّمّاس، أيّ الخادم، الّذي عاش سماءه على الأرض، وضحّى بكلّ شيءٍ لنيل الكنز الخفيّ الّذي ملأ قلبه بالسّعادة الّتي لا تزول. فهو الّذي أنشد:

ܠܳܐ ܬܶܩܢܶܐ ܕܰܗܒܳܐ ܘܣܺܐܡܳܐ܆ ܕܣܰܡܳܐ ܕܡܰܘܬܳܐ ܒܗܽܘܢ ܣܺܝܡܳܐ

ܩܢܺܝ ܠܳܟ ܝܽܘܠܦܳܢܳܐ ܚܠܺܝܡܳܐ܆ ܕܬܶܗܘܶܐ ܥܰܠ ܡܳܪܝܳܐ ܪܚܺܝܡܳܐ

"لا تقتنِ ذهبًا وفضّةً، فسَمُ الموتِ حالٌّ فيهما اقتنِ لك تعليمًا قويمًا، كي تكون لدى الله محبوبًا".

هذا هو مار أفرام، "شمس السّريان وكنّارة الرّوح القدس"، كما دعاه القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ. قديسٌ وديعٌ يذكّرنا بأنّ الصّوم الحقيقيّ هو التّجرّد التّامّ والمتواضع، لنزداد قربًا من أبينا السّماويّ، الّذي ينتظرنا أن نراه في القريب المحتاج والمتألّم.

وها هي الكنيسة تترنّم في صلواتها وأناشيدها ليل نهار، بالألوف المؤلَّفة من "مداريش وميامر" مار أفرام، وقد أضحت إرثًا روحيًّا رائعًا. وبينها ترانيمه عن والدة الله مريم العذراء، المنزّهة عن كلّ خطيئة، كما أنشد هو! وأضحت تفاسيره المتعمّقة في الكتاب المقدّس منهلاً صافيًا بشاعريّتها وبساطتها للمتبحّرين في اللّاهوت الكتابيّ، حتّى أنّ بعضهم تجرّأ وقال: إنّ شروحات مار أفرام تكاد تحتوي على أسفار الكتاب المقدّس بكاملها. كما حُقَّ لقداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر أن يقول في إحدى مواعظه الأسبوعيّة: "إنّ الإيمان المسيحيّ جاءنا في ثقافة مشرقيّة وبتفكير ساميّ، وإنّ أفرام السّريانيّ أفضل الشّاهدين عليهما".

تفخر كنيستنا السّريانيّة بجناحيها الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ أن تتّخذ مار أفرام شفيعًا لها. كما تكرّم هذا الملفان، أحد الآباء في الإيمان، جميع الكنائس الشّرقيّة الشّقيقة، ولا تزال تغرف الصّلوات والأناشيد من الإرث الرّوحيّ والطّقسيّ الّذي خلّفه هذا القدّيس المتميّز، وفي مقدّمة هذه الكنائس: السّريانيّة المارونيّة، والكلدانيّة والأرمنيّة والقبطيّة واللّاتينيّة والكنائس ذات الطّقس البيزنطيّ.

هذا القدّيس من شرقنا، أعلنه البابا بنديكتوس الخامس عشر، لمئة سنة خلت، أيّ في عام 1920، ملفانًا للكنيسة الجامعة قاطبةً، أي معلّمًا مسكونيًّا في كنائس الشّرق والغرب. ويسرّنا اليوم أن نعلّمكم، ونحن نفتتح مئويّة الاحتفال بهذا الإعلان، بأنّنا قرّرنا في هذه المئويّة، أن نقيم تمثالاً لمار أفرام في الجامعة اللّاترانيّة في روما، وذلك في الأسبوع الثّالث من شهر تشرين الأوّل القادم. وأملنا أن يشاركنا في هذا الحدث التّاريخيّ إخوتنا بطاركة الشّرق الكلّيّو الوقار، مع حضور وبركة صاحب القداسة البابا فرنسيس.

كما أنّنا نتطلّع في هذه السّنة المئويّة أيضًا، إلى يومٍ نستطيع فيه أن نكرّس ثانيةً كنيسة دير مار أفرام في ماردين الّتي قمنا بترميمها. ونشجّع أبناءنا وبناتنا على مشاركتنا في فرحة هاتين المناسبتين الهامّتين في كنيستنا السّريانيّة.

عُرف مار أفرام بأنّه التزم بقضايا شعبه، إن في مدينته الأولى نصّيبين وإن في الثّانية الرّها، وقد عانت هاتان المدينتان في زمانه من آفات مَرَضيّة فتّاكة ومن حروب طاحنة. ولقد اختبر هذا القدّيس معاناة التّهجير قسرًا عن موطنه، لذلك نراه يفكّر أيضًا بالغرباء، أيّ المهجّرين أمثاله، وقصّة المهجّرين واللّاجئين والمتغرّبين قصّة طويلة في أيّامنا، لا تزال تملأ قلوبنا حزنًا ولوعة.

أيّها الأحبّاء

تعيش منطقتنا الشّرق أوسطيّة حالةً مرعبةً من الغليان والفوضى وعدم الاستقرار. وها هي النّزاعات والصّراعات تعمّ في معظم الأماكن بحجّة وبغير حجّة! وهنا يحقّ لنا، كرعاة روحيّين، أن نتساءل عن الأسباب الّتي دفعت دولاً عظمى معروفة بنفوذها في شرقنا، إلى تجاهُل شرعة حقوق الإنسان الّتي سنّتها منظّمة الأمم المتّحدة، سيّما فيما يختصّ بالحرّيّات الدّينيّة، أيّ حرّيّة المعتقد والضّمير لجميع المواطنين، أغلبيّةً كانوا أم أقلّية. فلا نسمع هذه الدّول تطالب بحزمٍ ووضوح بفصل الدّين عن الدّولة، في معرض دفاعها عن حقوق الأكثريّات العدديّة، راضيةً بالتّمييز بين الدّيانات والأعراق في الدّساتير الّتي تُصاغ في بعض بلدان المنطقة. ألم يحن الوقت كي تُعتبَر الحرّيّة الدّينيّة شرطًا أساسيًّا في تكوين المواطنة الصّحيحة؟

نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في سوريا الحبيبة الّتي لا تزال تمرّ بمحنةٍ مؤلمةٍ وظروفٍ صعبةٍ لم يعرف التّاريخ الحديث مثيلاً له. إنّنا نعبّر عن ألمنا الشّديد لما يجري فيها من إراقة دماء، بسبب أعمال عنفٍ طال أمدها وطاولت آثارها الأبرياء والمستضعَفين، ودفعت الكثيرين من الشّبّان إلى الهجرة. كما أنّنا نَدين العقوبات الاقتصاديّة على هذا البلد المعترَف به رسميًّا في منظّمة الأمم المتّحدة. وندعو أصحاب الضّمائر الحيّة إلى أيّة فئةٍ انتموا، أن يحكّموا ضميرهم الوطنيّ ويشبكوا أيديهم ويتلاقوا بالألفة والتّعاون والتّعاضد، فيعيدوا لوطنهم الأمن والاستقرار، بروح المواطنة الأصيلة.

كما نصلّي من أجل السّلام والأمان في العراق، حيث يعيش قسمٌ كبيرٌ من أبنائنا وبناتنا، وقد قدّم كثيرون منهم ذواتهم على مذبح الشّهادة. فيتابعوا مسيرتهم بالشّراكة مع إخوتهم في الوطن، وهم نسيجٌ أصيلٌ في أساس تكوين هذا البلد الحبيب، ونحثّ الجميع على السّعي الدّؤوب لنهضة وطنهم واستقراره، كي يعود من تهجّر قسرًا إلى أرض الرّافدين الّتي عُرِفت بتاريخها الحضاريّ العريق.

أمّا وطننا الغالي لبنان، مركز الإشعاع ومهد الحضارة، الّذي يمرّ منذ أشهرٍ في مشاهد من الحراك الشّعبيّ على اختلاف الانتماءات الدّينيّة والطّائفيّة والسّياسيّة، فله علينا الحقّ أن نجدّد ولاءنا المطلق له وحده كوطنٍ نهائيّ للجميع.

كما نطالب المسؤولين فيه، على اختلاف انتماءاتهم الطّائفيّة والحزبيّة، أن يسعوا بكلّ ما أوتوا من قوّة وعزم إلى خدمة لبنان بصدق ونزاهة وبروح الشّراكة الحقيقيّة. وعليهم أن يدركوا أنّهم مدعوّون لمحاربة الفساد، وليس للتّغطية والتّوافق على سرقة موارد البلد، إذ أنّ واجبهم الأساسيّ هو تأمين الحياة الكريمة لشعبهم الّذي يتضوّر حرمانًا وجوعًا.

ولكوننا قد عانينا الأمرَّين في مناطق أخرى من هذا الشّرق، من أجل حرّيّتنا الدّينيّة وكرامتنا الإنسانيّة، سنظلّ نثمّن النّظام القائم في لبنان، بالرّغم من نقائصه ومحدوديّته. ونحن نضرع إليه تعالى، فيما نحيّي مئويّة "لبنان الكبير"، أن يحفظ هذا البلد الصّغير بمساحته، والكبير بحضارته العريقة، كي يُبنى ويزدهر بأبنائه وبناته الأوفياء، وطنًا نهائيًّا للحرّيّة، الوطن– الرّسالة للعالم أجمع.

نشكر جميع الّذين تعبوا في تنظيم هذا الاحتفال من إكليروس وعلمانيّين، والحركات الرّسوليّة والشّمامسة والجوقة، وندعو لهم بالخير والنّجاح على الدّوام.

ختامًا، نتوجّه بالمعايدة إليكم جميعًا، يا أبناءنا وبناتنا السّريان في لبنان والشّرق وبلاد الانتشار. نهنّئ خاصّةً أبناءنا الرّهبان الأفراميّين وبناتنا الرّاهبات الأفراميّات، وكلّ من يحمل اسم أفرام، ونهنّئكم جميعًا. وليكن صومنا مقبولاً، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة البشارة، ومار أفرام، وجميع القدّيسين والقدّيسات. وليبارككم الثّالوث الأقدس: الآب والابن والرّوح القدس الإله الواحد، آمين."

بعد البركة الختاميّة، تقبّل البطريرك يونان التّهاني بالعيد.