أوروبا
12 أيلول 2017, 05:00

البطريرك يوحنّا العاشر يطلق من ألمانيا دعوة حقيقيّة وصادقة من أجل السّلام

ألقى بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر كلمة في اليوم الثّاني من مؤتمر "سبل السّلام" الّذي تنظّمه جماعة سانت إيجيديو في ألمانيا. وبعد التّوجّه بالشّكر للمنظّمين، توجّه البطريرك اليازجي بتحيّة سلام من قلوب أبناء كنيسة أنطاكيا، وتابع قائلاً:

 

"في مثل هذا اليوم 11 أيلول من العام 2001 خُدع أناسٌ وأعميت بصيرتهم فخطفوا طائراتٍ بركّابها وضربوا بطائراتهم في الولايات المتّحدة الأميركيّة إرهابًا يندى له جبين البشريّة من كلّ الأعراق. واليوم وبعد ستة عشر عامًا بالضّبط نجد أنّ هذا "الأخطبوط" يضرب في كلّ العالم ويتستّر في أكثر من مكان. نجتمع اليوم في هذا المكان وفي ذات التّاريخ لنؤكّد، ومن كلّ نسيجٍ اجتماعيّ ودينيٍّ، توقنا إلى غصن الزّيتون. يومها خُيّل إلى البعض أنّ قلبه يطرق باب الجنّة عندما ارتطمت طائرته بناطحات السّحاب، ولم يحسب أنّه يطرق قعر الهاوية لأنّه يزهق أرواح الأبرياء الّتي جدلها الله من جلاله ومحبّته.

واليوم ويا للأسف نرى هذا الوباء متفشّياً في أكثر من منطقة. ونرى دولاً كبرى وصغرى تتلوّى تحت سندانه أو تَسْتثمر باسمه أو، للأسف، تتوسّله ومجتمعاتٍ وأناساً تذوق لوعة الموت والتّهجير والعنف وويلات الحرب تحت مسمّيات باهية لا تمتّ إلى حقيقة كونها بِصلة.

قد يبدو بطريرك أنطاكيا متشائماً في كلماته هذه. لكنّها مجبَرةٌ أن تخرج بهذه اللّوعة لا محالة لتنقل زفرات قلوب أبنائه في هذا الظّرف. في مطلع سنة 2011 قام ما سمّاه البعض ربيعاً عربيّاً. وأنا هنا لأؤكّد أنّنا كمشرقيّين وكمسيحيّين عموماً لم نرَ من هذا "الرّبيع" إلا حمرة شقائق النّعمان من دم أبنائنا وشيبنا وشبابنا وشهدائنا الّذين قاسوا ومن لحظاته الأولى ويلاتِ الحرب عنفاً وتهجيراً وخطفاً وموتاً على شواطئ البحور وإرهاباً وأصوليّةً وهدمَ كنائسٍ واستهداف آمنين وتفكيك دولٍ وأنظمةٍ. وكلّ ذلك والعالم يتغنّى أو يغضّ الطّرف عمّا يجري بمعرفة أو بغير معرفة. كلّ ذلك والعالم الخارجيّ يكبو تارةً أو يجاري تارةً أخرى. يحاصرُ بالمؤن ويدفق السّلاح. يبكي أحياناً ويتباكى أخرى.
إن الدّور الفريد لكنيسة أنطاكيا في قلب هذا الشّرق الجريح، والّذي نعتبره قطعة من قلبنا، يكمن في أنّها جسر التّواصل الأوّل بين الشّرق والغرب. نحن كمسيحيّين أنطاكيّين تشرّبنا المسيحيّة من أفواه الرّسل واصطبغنا باسم المسيح أوّلاً وصبغنا العالم به في أنطاكيا وجوارها. نحن شربنا المسيح وحفظناه في القلب لا من تيّارات ولا من فلسفات بل من قوّة إرادةٍ وعتاقةِ وأصالةِ تاريخٍ. واعتنقنا المسيحيّة قبل أن تغدو تلك الأخيرة دين إمبراطوريّةٍ. لقد ارتشفنا إيماننا من صدور أمّهاتنا وارتشفنا كينونتنا المسيحيّة مقرونةً بأرضٍ عشقناها ونعشقها حتّى الثّمالة. وكمسيحيّين أنطاكيّين تكلّمنا فيما بعد اللّغة العربيّة. واللّغة هذه كانت بالإضافة إلى الجغرافيّة خير من أطلعنا على الحضارة العربيّة وعلى فهم الإسلام وإخوتنا المسلمين فهماً صحيحاً.

ونتيجةً لهذه العوامل تعتبر كنيسة أنطاكيا والمسيحيّون الأنطاكيّون عموماً جسر اللّقيا والتّناغي بين الشّرق والغرب، بين أوروبا وآسيا، بين المسيحيّة والإسلام وسائر الديانات والشّاهد الأوّل على أخوّةٍ صادقة مع مجمل الأطياف رغم كلّ صواعد ونوازل التّاريخ الّتي عصفت ببوتقة هذا الشّرق العريق. هذا هو الدّور الفريد لكنيسة أنطاكيا وللوجود المسيحيّ في الشّرق الأوسط. وهذا ما نلفت نظر العالم إليه في هذه الأيّام الّتي يُستنزف فيها جنب المسيح بحربة الإرهاب الّتي تضرب في الشّرق الأوسط وتسبّب نزيفاً وتهجيراً للمسيحيّين ولغيرهم ناهيك عن العنف والويلات الأخرى، والّتي ومع كلّ جسامتها، لن تقتلعنا ولن تجتثّنا من أرضنا الأولى لأنّها منّا القلب والكيان. 
أنا هنا لأضع في آذان سامعيّ ومن كلّ الأطراف والأقطاب وفي قلب أوروبا زفرات شعبي وناسي. ولأطلق معكم يا أحبّة دعوةً صادقة وحقيقيّة من أجل السّلام، دعوةً أضعها في آذان ساسة العالم وكبار هذا الدّهر. يكفي سوريا حروباً على أرضها.

ويكفيها أيضاً تعامياً من الجميع وتجاهلاً لواقع الأمور واكتفاءً بزيفٍ إعلاميّ جيّش القلوب.

أنا هنا لأضع برسم الجميع وفي آذان أوروبا المسيحيّةِ الجذور نذراً يسيراً من معاناة مسيحيّي هذا المشرق وأخوتهم من كلّ الأطياف والأديان، الّذين أعْملَ فيهم الزّمن الحاضر قتلاً وتشريداً، وهذا النّذْرُ هو قضيّة أخوينا مطراني حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي للسّريان والرّوم الأرثوذكس واللّذين مضى على خطفهما أكثر من أربعة أعوام من دون أيّة معلومةٍ عنهما ووسط صمت دوليّ مُريب.

دعوتنا اليوم من أجل السّلام في سوريا والاستقرار في لبنان وفي المشرق والعالم بأسره، والّذي يدفع ويا للأسف فاتورةً باهظة ثمناً لإرهاب متنقّلٍ متطاير.

أعطنا يا ربّ روح سلامك الحقّ، بلسماً لسلامٍ أرضيّ نتوق ونسعى إليه".