البطريرك يوحنّا العاشر: نحن مغروسون في الشّرق
"في موسم القيامة المجيد ترسو قلوبنا على أوجّ الرّجاء المتمثّل بالسّلام الفصحيّ: المسيح قام، حقًّا قام. ولعلّ هذا السّلام الفصحيّ يختصر كلّ معنى العيد الحاضر. قيامة المسيح لبنةٌ أولى وأساسٌ لقيامة الإنسان. قيامته قيامة الخليقة وفصحه فصح النّفوس الّتي لا تلين أمام رهبة الصّليب لا بل تجوز إلى عتبات القبر الفارغ. قيامته منبضُ الرّجاء في حلكة كلّ محنةٍ ووميضُ النّور في حياة كلٍّ منّا.
قام المسيح فشدّد خطانا. قام فأقامنا وجلّلنا بالنّور. قام المسيح وشتّل الرّجاء في حياتنا. قام المسيح وهو المفتقر ليغنينا، وقمنا به ونحن المُغتنون بمراحمه. كُلّل بالشّوك فكلّلَنا بالملكوت. استقى الموت، فسقانا الحياة. عانقناه مصلوبًا فضمّنا قائمًا. سُقي مرارة موتٍ فسقانا سلاف حياةٍ. رقّي صليبًا فرقّانا فردوسًا. بيد العذراء ضممناه ابناً فضمّنا على الصّليب بنين. مُشح آلامًا فمشحنا أنوارًا. زُنّر بظلمة لحدٍّ فزنّرنا بفيض ضياء. لُفّ بالكفن فلفّنا بالمجد. أُودع قبرًا فأودعنا حضن الله السّماويّ.
قام المسيح فسمّر محن محبّيه على صليبه ودفن تحت عتبة قبره أحزان الزّمن الحاضر. قام المسيح ليقول لكلٍّ منّا: منْ بعد الصّليب قيامةٌ ومن بعد الشّدّة بصيص نورٍ. نحن نفخر بصليبه لأنَّ منه بشائرَ القيامة. وكم من صليب خبّيء في درب حياة كلّ منّا! وكم من جلجلة ضيقٍ في حياة الإنسان والمجتمع والوطن تمحوها قيامة المسيح في النّفوس! وهذي النّفوس هي الّتي انغرس هو فيها مدماكًا وانصبّ رجاؤه عزّةً وانسكب عزاؤه عزمًا يزيح سحابة الضّيق ويشقّ عنان السّماء بعزاءٍ دائسٍ كلّ كَرَبٍ ومتسامٍ على كلّ ألمٍ ومستمدٍّ من وجه المسيح قوّة النّفس لتصرخ ومن علياء صليبها وصليبه وتهتف إلْف الملائك: قام المسيح.
يوافينا عيد الفصح المجيد والضّيق يعتصر قلب هذا الشّرق. يوافينا والاضطراب يتسيّد أكثر من مكان، لكنّ كلَّ هذا ليس له أن يزيح ناظرنا عن المسيح. نحن نعلم أنّ الأيّام صعبة وأنّها لم توفّر دينًا أو مذهبًا أو إنسانًا أو كنيسة أو مسجدًا، لكنّ كلّ هذا ليس له أن يُنيخنا تحت صليب شقاء هذه الدّنيا، لأنّنا من صليب يسوع نتلمّس فجر قيامتنا بقيامته وبحربة جلجلته نزيل حراب ضيقنا.
نحن مغروسون في الشّرق بقوّة اسمه القدّوس. وراسخون في هذي الأرض رغم مرارة التّاريخ، نضع نُصب أعيننا أنّ أرض أنطاكية، أرض المشرق، بما فيها أرض سوريا ولبنان هي جرن المعموديّة الأوّل الّذي صبغ أتباع الرّبّ يسوع بلقب المسيحيّين. إذا كان مزود بيت لحم هو المهد الّذي احتضن الرّبّ المولود وقدّمه للدّنيا، فإنّ أرضنا، أرضَ كنيسة أنطاكية هي المهد الّذي احتضن إنجيله وقدّمه للمسكونة نورًا لفّ الدّنيا وزنّرها ببشارة الرّبّ القائم.
في يوم القيامة المجيد حريٌّ بنا أن نتأمّل كمسيحيّين كيف وصلتنا بشارة المسيح وكيف عبرت الزّمن ومخرت عباب ألفي عام من التّاريخ. نحن لسنا زوّارًا في هذه الأرض، نحن من شرايين جذورها. نحن دماؤها وعروقها. نحن لم ننطو يومًا ولم نخف لأنّنا أصحاب قضيّة وأبناء وطن. ونحن مع الوطن سليلاً كان أم معافى. من هذي الأرض نحتنا حجر كنيستنا ومن أقاحيها جَبَلْنا ميرون عمادنا بالمسيح وبزيتونها استقبلناه في عيد الشّعانين. لقد علقنا أجراسنا في أيّام لم تكن أفضل بكثير من زمننا الحاضر. نحن لم نتغنّ بالأرض فحسب لا بل جبلنا دمنا بجداولها وهي منّا هويّةٌ وكينونة.
صلاتنا اليوم أن يعطي الرّبّ سوريا سلامًا تاقت له. صلاتنا من أجلها، وهي الوطن الواحد بكلّ مناطقه وكلّ أطيافه. صلاتنا من أجل أن يتعاون الجميع للتّصدّي لإرهابٍ لم يوفّر أحدًا. صلاتنا من أجل المخطوفين. صلاتنا من أجل جرحٍ ينزف منذ خمسة أعوام، من أجل أخوينا مطراني حلب يوحنّا ابراهيم وبولس يازجي المخطوفين وسط تعامي العالم الخارجيّ عن قضيّتهم وقضيّتنا. وهنا نقولها ومن جديد: أما آن للعالم أن يستفيق! أما آن له أن ينتقل من لغة الشّعارات إلى لغة القرار والأفعال! أبناء هذا البلد وحدهم هم الأدرى ببلدهم. أما آن لجلجلة هذا الشّعب أن تنتهي! أما آن للعالم أن يغضب! نحن لم نجبل برائحة الموت بل بنسمة الله الخالق. نحن لا نريد تباكيًا على أقلّيّات وأكثريّات. فليعلم العالم أنّ في سوريا سوريين وفقط سوريّين يجمعهم وطن واحدٌ لا يتجزّأ وعيش واحدٌ لا ينفصم وجيشٌ واحدٌ ضمّ أبناء الوطن في بوتقة البلد الواحد وقدّم الغالي والرّخيص في سبيل وحدة ترابه. وإنّ خير ما يقدّمه الخارج هو الدّفع إلى الحوار غير المشروط وتعزيز جهود المصالحة وترسيخ وتعزيز السّبل الآيلة إلى إحلال السّلام. فنحن لم نخلق لنكون سلعة في سوق المصالح. ومع كلّ ذلك، نحن هنا لندافع عن أرضنا وأرض أجدادنا. والفصح يعني العبور، ومن هنا صلاتنا أن يعبر الله بهذا الشّعب الطّيّب إلى برّ الأمان والاستقرار والسّلام.
صلاتنا من الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق من أجل بلدنا لبنان وأهلنا في لبنان. نسأل ربّ القيامة أن يقيم لبنان، الوطن والقلب، في الخير والوئام. نسأله صون استقرار هذا البلد ونسأله أن يدرأ عنه تداعيات الخارج. إنّ ملفّ الانتخابات النّيابيّة العتيدة يحمل أهمّيّة كبيرة لواقع هذا البلد ولكلّ مؤسّساته الدّستوريّة. من المعيب أن تُقايض الملفّات انتخابيًّا وأن تُعتصر المصالح من قلب الظّرف الحاليّ. نحن كأرثوذكس نبقى دومًا جسر تواصلٍ ولقيا. ونبقى أبعد من مجرّد مصالح ضيّقة تزول وتنمحي. ومن هنا دعوتنا لإجراء الانتخابات في موعدها وللحفاظ على المؤسّسات الدّستوريّة والابتعاد عن الخطاب الفئويّ والطّائفيّ المتشنّج والالتفات إلى هموم المواطن المعيشيّة. ونهيب بالجميع ونقولها بالفم الملآن إنّ اهتزاز استقرار أيّ بلد أو أيّ منطقة في العالم له آثاره وتداعياته الّتي تعبر القارّات والمحيطات.
ومن على هذا المنبر سلام قيامة وصلاةٌ من القلب من أجل هذه المنطقة بكلّ بلدانها. سلام قيامة لفلسطين الجريحة ولعاصمتها وعاصمة قلوبنا القدسِ الشّريفِ الّتي تبقى في قلبنا وذهننا كمسيحيّين معراج افتقاد الرّبّ الإله للجبلة البشريّة ومحجّتنا مسلمين ومسيحيّين إلى رحمانيّة الله وذلك مهما عبرت مؤامراتٌ وانتقلت سفاراتٌ. سلام قيامةٍ للعراق وللشّرق العربيّ ودعاءٌ من القلب أن يكون الفصح الحاضر فصح عبور هذه الأرض إلى ضفة السّلام.
ولأبناء كنيسة أنطاكية وطنًا وانتشارًا، سلامُ قيامةٍ من سدّة الرّسولين بطرس وبولس. سلام لكم يا أبناءنا في الكرسيّ الأنطاكيّ. سلام بربّنا الّذي نسأله أن يحفظكم ويبارك بنيكم. سلام قيامةٍ لأنطاكية الانتشار وأبنائها في أوروبا والأميركيّتين وأستراليا والخليج العربيّ وكّل العالم. سلام قيامةٍ لأبناء هذي الأرض الّذين يحملونها بقلبهم كلّ يوم وتحملهم في قلبها مهما بعدت المسافات.
قام المسيح فسمّر ضيقاتنا. قام المسيح ليدفن أحزاننا. قام المسيح ليرحم موتانا. قام المسيح، والخليقة تجدّدت. قام المسيح والحراب تكسّرت. قام المسيح والكنيسة تشدّدت. قام المسيح والظّلمة تهاوت. قام المسيح والنّاس تهلّلت.
كلّ عام وأنتم بخير. المسيح قام، حقًّا قام!".