أوروبا
11 أيلول 2017, 08:34

البطريرك يوحنّا العاشر من ألمانيا: "شعبنا يؤمن بالسّلام ويتوق إليه"

ألقى أمس بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر كلمة في مؤتمر "سبل السّلام" لجماعة سانت إيجيديو، المنعقد في ألمانيا، وقد قال فيها:

 

"أحمل إليكم رسالة سلام من كنيسة الرّسولين بطرس وبولس في أنطاكيا، حيث "دُعي التّلاميذ مسيحيّين أولّاً" (أعمال 11/ 26)، مع محبّة صادقة وإيمان راسخ ورجاء لا ينقطع. 
تكتنف بلادنا الجميلة نزاعات عبثيّة أتت لتفتّت مجتمعاتنا وتقضي على ما فيها من دفءٍ، وتأنٍّ، وتطلّعات. عنفٌ لم تشهد له منطقتنا مثيلاً، ولا حتّى في "عصور الظّلمة". حروب دخيلة تنفّذها جماعات دينيّة متطرّفة، لا صلة لها بالدّين كما تعرفه بلادنا، بل هي تعبير عن نزاعات راديكاليّة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الإنسانيّة والوعي والضّمير.

من تُراه المسؤول عن التّشريد المنهجيّ لأهالي قرانا ومدننا؟ هل من يرأف بالأمّهات الثّكالى؛ ويرثي للمنازل ودور العبادة الّتي هُدّمت، أو المناطق الّتي أُفرغت من سكّانها الأصليّين الّذين أقاموا فيها منذ فجر التّاريخ؟ هل مَن يفتقد المخطوفين، والمأسورين، والجرحى؟ أم أنّ العالم يغضّ الطّرف عن شقاء النّساء المسبيّات، والحوامل اللّواتي بُقرت بطونهنّ، والأطفال الّذين جنِّدوا عنوةً للقتال؟ هل من يسعى لمؤاساة ذوي المخطوفين الّذين ينتظرون أحبّاءهم من بعد طول غياب؟ لقد صدق فينا قول الكتاب المقدّس: "راحيل تبكي على أبنائها وتأبى أن تتعزّى لأنّهم ليسوا بموجودين" (متّى 2/ 18؛ أرمياء 31/ 15).

لا يسعني أن أفهم كيف أنّ المجتمع الدّوليّ يتناسى قضيّة المطرانين يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي والآباء الكهنة المخطوفين منذ أكثر من أربعة أعوام. ولا كيف يقف ساسة العالم مكتوفي الأيدي، أمام مشاهد العنف، فلا يعطون الأولويّة إلّا للمصالح الاقتصاديّة الجيوسياسيّة الّتي تخدم رؤىً ضيّقة غير إنسانيّة. يمكّنون حصارهم على شعب جائع ويفتحون أمامه باتّساعٍ سوق سلاحهم. ألم تثبت الخبرة أنّ العنف التّكفيريّ لا ينحصر في بقعة جغرافيّة ولا يستهدف شعوب المشرق وكنائسهم من دون سواهم، بل يمتدّ ليطاول كلّ زاوية في العالم؟
رغم هذا الألم، تسعى كنيستنا الأنطاكيّة إلى فتح باب الحوار على إخوتها المسيحيّين وغير المسيحيّين، وإلى المبادرة على الدّوام لملاقاة الآخر واحتضانه بمحبّة الإنجيل والرّجاء الّذي "لا يُخزي" (رومية 5/ 5). شعبنا يؤمن بالسّلام ويتوق إليه. نحن شعب سعى عبر تاريخه إلى تفادي الحروب ولغة السّلاح، إذ شهد عبر العصور أنّ منطق المواجهات العنفيّة لا يؤدّي سوى إلى الدّمار والتّشتّت والضّياع وتعميق جروح الحقد والعداوة، لا إلى بناء الأوطان والدّيمقراطيّات والحرّيّات.

يبحث مسيحيّو شرقنا اليوم عمّن يسمع هتافهم، فلا يجدون. نحن في بلادنا دعاة سلامٍ ومصالحة. وقد قلنا وما زلنا نردّد، إنّنا لا نستجدي شفقة الأقوياء في هذا العالم، بل نرفع الصّوت نحوهم هاتفين: كفانا تصريحات مزّيفة تدعو لاستقبال المسيحيّين. إنّ خير ما يفعله العالم في مشرقنا هو نشر ثقافة الحوار ومحو ثقافة السّيف. إقطعوا عن بلادنا يد الإرهاب، وأوقفوا سيل السّلاح، وردّوا سفنكم إلى موانئها. نحن لا نُحمى بسفن الحرب ولا بسفن التّهجير. نحن نُحمى بغرس السّلام في ربوعنا. نحن مغروسون ههنا، على امتداد المشرق، منذ ألفي عام. هنا ولدنا، وهنا عشنا ونعيش، وهنا سوف نموت.

الإنسانيّة اليوم في مخاض. هي بحاجة ماسّة إلى حوارٍ وتلاقٍ أصيلَين يتخطّيان حواجز السّياسات الضّيّقة وخطاياها، وإلى مقاربة سياسيّة إنسانيّة قائمة على المصالحة والوفاق، تطرح عنها الإيديولوجيّات الجامدة، والقَناعات المسبقة، لكي تكسر حواجز التّاريخ وأقنعته وعُقَدَه. لقد أتت السّاعة لنعترف أنّ مناهج السّياسة والحوارات الشّكليّة الّتي ينتهجها الكثيرون لا تؤدّي إلّا إلى عقم الجهود والمساعي في أرض عطشى تستبيحها القيم المادّيّة النّفعيّة والنّماذج المنحرفة الّتي تفرض ذاتها على مجتمعات النّاس.

لا بدّ لنا من التّصدّي لما نشهده في أيّامنا من استغلال عبثي للدّين وإخضاعه للغايات السّياسيّة. وإنّني من هذا المنبر أدعو سائر المسؤولين الدّينيّين في كلّ الدّيانات والمذاهب، ومن كلّ البلدان، لأن نرفع معًا شعار "الإيمان من أجل السّلام" فنكون دعاة سلام مسموعي الصّوت في عالم هو بأمسّ الحاجة إلى رسالة سلام.

نحن اليوم مدعوّون لأن نلتقي ونتضامن لكي نقدّم معًا للعالم نموذجًا حقيقيًّا للسّلام في العلاقات والمفاهيم ومناهج التّعامل. بهذا نمنح السّلام للنّاس ونشهد أنّ السّلام الحقيقيّ الّذي يسكن قلب الإنسان، فردًا وجماعات، هو وحده قادر أن يشفي كلّ جرح في الذّاكرة التّاريخيّة وفي العلائق بين البشر.

ما يجمع شعوبنا على اختلافات انتماءاتهم الدّينيّة والحضاريّة والثّقافيّة هو أكثر بكثير مما يفرّقها. لطالما خبرنا في شرقنا قيمة العيش المشترك مع إخوة لنا من ديانات وثقافات أخرى. خبرنا أنّ التّعدّدية هي المجال الحيويّ للغنى الإنسانيّ، للتّفاعل الحضاريّ، وللخلق والإبداع على مستويات الفكر والفنّ والجمال.

نحن بحاجة للتّحرّك معًا نحو المصالحة. ولا بدّ لنا من الدّخول في لقاء حوار وتعارف مع الآخر. فهل يدرك كلٌّ منّا مدى مسؤوليته في إزالة ثقافة الفرقة من بين الشّعوب؟ وهل نسعى لتخطّي حواجز التّاريخ وبناء مستقبل أفضل لأبنائنا؟

ما لا شكّ فيه أنّه قد آن الأوان لخبرة المعاناة أن تقرّب شعوبنا عوض أن تفرّقهم، وأن تفتح المجال أمام الإنسانيّة لتعيد التّفكير في أولويّات العمل السّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ في عصرنا الحديث. نحن بأمسّ الحاجة إلى عمل مشترك لكي نداوي مجتمعاتنا بالمصالحة والتّسامح من كلّ القلب.

ختامًا، أؤكّد لكم يا إخوتي وأخواتي، أنّنا في كنيسة أنطاكيا وسائر المشرق نحيا في رجاء كبير، ونؤمن بأنّ اللّقاء والحوار والعيش المشترك مع سائر الدّيانات والمجتمعات والثّقافات هو الأساس للمصالحة المستديمة ولصناعة سلام حقيقيّ بين البشر".