البطريرك ساكو من باريس: المواطنة هي الطّريقة الوحيدة لتجاوز الانقسامات
"أودّ أن أشير إلى ثلاث نقاط مهمّة قبل أن أعرض موضوعي:
هناك توجّه قوي لإسلام وسطيّ معتدل ينبغي تشجيعه ودعمه أمام التّيّارات المتطرّفة. التّطرّف لا مستقبل له.
ثمّة شعور قويّ عند العر اقيّين بمشروع المواطنة الكاملة وبنظام وطنيّ مدنيّ.
صحيح أنّ المسيحيّين والإيزيديّين والصّابئة أقلّيّة، لكن لها حضور مؤثّر بسبب الثّقافة والانفتاح.
نعم يوجد اليوم حالة ذهنيّة منفتحة جديدة بين العراقيّين، لكن الانقسامات تظلّ راسخة بعمق: بعد تسعة أشهر من نهاية معركة الموصل وهزيمة داعش في العراق، تمرّ بلادنا بمفارقة مفادها: أنّ هناك شوقًا كبيرًا بين العراقيّين ألّا يعودوا يعيشون متأخّرين عن ركب الحداثة وأن يقلبوا صفحة الحروب والانقسامات، والطّائفيّة لأنّ الطّائفيّة هي ضدّ مفهوم المواطنة. ومع ذلك، يبدو أنّ المجتمع العراقيّ لا يزال يتميزّ بخطوط انكسار عميقة. لأنّ الانقسامات الّتي تشقّ المجتمع العراقيّ عديدة بالفعل. إنّها قبليّة وعرقيّة ودينيّة أو ثقافيّة أيضًا. وممّا يعقد هذا الواقع القبليّ هو الانتماء الدّينيّ: فالعديد من القبائل نفسها مقسّمة بين الشّيعة والسّنّة. هذا علاوة على الخلافات السّياسيّة الّتي ظهرت على السّطح منذ عام 2003. أؤكّد أنّه لا يمكن تنظيم حياة المدينة في القرن الحادي والعشرين كما كان ذلك يحدث في عصر المسيح أو في القرن الأوّل للهجرة. الوثائق القديمة الّتي تعود إلى 14 قرنًا، مثل وثيقة المدينة المنوّرة أو وثيقة الخليفة عمر، لم تعد قادرة على حلّ المشاكل السّياسيّة والاجتماعيّة اليوم. لذلك، فمن الضّروريّ أن نتكيّف مع الواقع كما هو وأن نأخذ في الاعتبار التّنوّع والتّعدّديّة الّتي تميّز مجتمعاتنا.
المواطنة هي الطّريقة الوحيدة لتجاوز الانقسامات: إنّ المواطنة هي الحلّ الوحيد لمستقبل العراق. ويجب أن تكون هذه المواطنة للجميع؛ أيّ تحت خيمتها ينضوي الكلّ، وتتمّ حماية كلّ شخص بغضّ النّظر عن انتمائه العرقيّ والدّينيّ. إنّ مفهوم المواطنة يساعد على وضع حدّ للتّمييز والإقصاء، كما هو الحال في الغرب الدّيمقراطيّ. فالانتماء للوطن يلغي أن يكون هنالك أغلبيّة دينيّة أو عرقيّة أو حتّى مفهوم الأقلّيّة. إذ تسمح المواطنة للجميع بالحماية لأنّ الجميع سيخضعون للقانون نفسه. مع ذلك، لكي تصبح المواطنة حقيقيّة ولا تبقى مفهوماً غامضاً، يجب أن يتمّ تجسيدها بشكل ملموس في أداء الخدمات العامّة العراقيّة. من الضّروريّ أن يطبّق العراق الدّيمقراطيّة بحيث لا تعود وظائف الخدمة المدنيّة منسوبة بحسب الرّوابط الأسريّة أو الانتماءات ولكن فقط وفق الكفاءة. حين يثق العراقيّون أنّ لأولادهم نفس الفرص للنّجاح، فسوف يشعرون بمزيد من المواطنة. وحين يعلمون أنّ الشّرطيّ الّذي يفتّشهم هو هنا لأنّه خضع للتّعيين اعتمادًا على مهاراته، فإنّهم سيحترمونه جدًّا. عندئذ ستتغيّر العلاقة بين المواطنين وممثّلي الدّولة بنحو إيجابيّ وتصبح علاقة متكاملة.
ما هو تأثير الدّين على المواطنة؟ المواطنة نظام مدنيّ ديمقراطيّ لا يتعارض مع القيم الدّينيّة. ففي الإنجيل نقرأ: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متّى 22/21). كما أنّ إخواننا المسلمون يكرّرون باستمرار: “الدّين لله والوطن للجميع”. بالنّسبة لنا كمواطنين مسيحيّين، إنّ المواطنة جزء لا يتجزأ من ثقافتنا اليوم. نحن نرحب بفصل الدّين عن السّياسة. ويجب أن يركز الخطاب الدّينيّ بشجاعة على الدّفاع عن حقوق الإنسان. كما أنّ على رجال الدّين أن يحافظوا بقوّة على دورهم النّبويّ الشّجاع في المجتمع للدّفاع عن كرامة الإنسان والعدالة. الله محبّة ورحمة، ومن لا يوجد الحبّ في قلبه لا يعرف معنى الدّين. أمّا الصّراع بين الأديان فهو فضيحة. بل هو جريمة أن يُضطَهَد النّاس بسبب إيمانهم، كما حدث في العراق أو سوريا أو مصر أو نيجيريا على سبيل المثال. نحن المواطنون من الدّيانة المسيحيّة والإيزيديّة والصّابئة، عانينا الكثير من الطّائفيّة والتّطرّف الإسلاميّ كذلك السّنّة والشّيعة. وهذا ما دفع بعضًا من شعبنا للهجرة بالرّغم من كوننا جزء مهم من تاريخ العراق. ومع ذلك، لا يوجد حتّى اليوم في الكتب المدرسيّة حتّى سطر واحد يتحدّث عن تاريخنا وديننا وكلّ ما قدّمناه لإخوتنا المسلمين وضحّينا به لبلدنا. من أجل أن تأخذ المواطنة كلّ مكانتها في العراق، من البديهيّ أن لا نحاول إنكار المكانة الّتي تحتلّها الأديان في تاريخ بلدنا. بل على العكس من ذلك، يجب أن تكون المواطنة وسيلة للأديان وللحركات الرّوحيّة لكي تتحرّر من ثقل السّياسة، وتتمكّن من أن تتكرّس للسّهر على ضمان مصلحة نفوس أتباعها وممارسة الأعمال الخيريّة. وبعد أن تكون الأديان قد تحرّرت من الدّور السّياسيّ الّذي قادها إليه تاريخ العراق، ستعود الأديان من جديد إلى الاضطلاع بمهمّتها الحقيقيّة.
لكي تسود مواطنة عملية في العراق، يتوجب على المسؤولين الخروج من الخطابات الإنشائية، والعمل على تطبيق الأفكار التّالية:
إن التّحدّي الرّئيس بعد داعش، هو التّعليم. وإصلاح المناهج المدرسيّة وتطهيرها من كلّ خطاب كراهيّة أو عنف أو انتقام. وهذا ممكن لأنّه حصل بالفعل في بلدان أخرى في الشّرق الأوسط، كما هو الحال في لبنان، وذلك بفضل مؤسّسة “أديان”.
من الضّروري إجراء إصلاح على الدّستور والقوانين بحيث تحترم الحياة وتشجّع على السّلام والاستقرار وتقوم الدّولة بحماية الجميع وتقف على مسافة واحدة من كلّ شخص لتطبيق القوانين. وعلى وجه التّحديد، لكي يشعر كلّ شخص بالمواطنة، من الضّروريّ إزالة ذكر الدّين من أوراق الهويّة والأعمال الإداريّة. مثل هذا القرار سيقضي على العديد من أسباب التّفرقة والتّمييز وسيفتح الباب على مصراعيه أمام الحرّيّة الدّينيّة. وسيمكّن المرأة من الاحتفاظ بدينها إذا ما، على سبيل المثال، أصبح زوجها مسلمًا. ولن يُجبر أطفال هذين الزّوجين على اعتناق الإسلام.
من النّاحية القانونيّة، نحتاج إلى سلطة لضمان التّفسير الصّحيح للقانون وإنشاء قانون محاكمات محدَّث أو حديث. هناك أيضًا حاجة إلى التّوعية بحقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة.
كلّ هذه الإجراءات، إذا تمّ تطبيقها تدريجيًّا، ستسمح بظهور الدّيمقراطيّة الحقيقيّة وسيادة القانون في العراق، كما هو الحال في الغرب. على هذه القواعد، يمكن للبلد الشّروع في مسار التّقدّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ".