البطريرك ساكو: مسيحيّو العراق إلى أين؟
"تراجع مُقلق
المسيحيّون مُكوَّن أساسيّ وأصيل في العراق. ولقد دافعوا عن قيم المواطَنة والأخوَّة الإنسانيّة، وشكَّلوا أنموذجًا فاعلاً لها، وحافظوا على بلداتهم وكنائسهم وأديارهم، منذ فجر المسيحيّة وحتّى سقوط النّظام 2003، حيث طالتهم يد الإرهابيّين فخطفتهم وقتلتهم وفجّرت كنائسهم، كما حدث في كنيسة سيّدة النّجاة للسّريان الكاثوليك عام 2010. وفي عام 2014 احتلّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش) الموصل وبلدات سهل نينوى، وهُجِّر المسيحيّون من بيوتهم وأحرقت أو فُجِّرت معظم كنائسهم الّتي يعود بعضها إلى القرن الرّابع والخامس والسّادس والسّابع الميلاديّ. هذه الكنائس كانت تعبِّر عن وجود مسيحيّ متجذّر ومزدهر. واليوم بالرّغم من تحرير مناطقهم إلّا أنّهم لم يلقوا أيّ دعم من الحكومة العراقيّة لإعمار بيوتهم وإصلاح البنى التّحتيّة، بل اشتدّ الصّراع على أرضهم لتغيير ديموغرافيّتها وهذا ما يقلقهم ويخيفهم.
ما الّذي يحدث؟
المسيحيّون العراقيّون الحاليّون يتوزّعون على أربعة عشرة كنيسة (طائفة) أكبرها عددًا وأكثرها أهمّيّة هي الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة، كما شكَّل المسيحيّون أحزابًا وتنظيمات سياسيّة لم تفعل شيئًا نافعًا لهم. فتقلَّص عددهم بشكل كبير بعد سقوط النّظام سنة 2003، فضلاً عن تدهور الوضع الأمنيّ، وظهور التّطرّف الدّينيّ كالقاعدة، وبدء مسلسل التّهديد والخطف والقتل حتّى بين رجال الدّين، وهيمنة الفساد والوساطات والفئويّة (الطّائفيّة والمحاصصة) على مؤسّسات الدّولة وإقصاء الكفاءات الوطنيّة ومجيء حكومات ضعيفة غير قادرة على فرض القانون وهيبة الدّولة. لذلك هُمِّشَ دور المسيحيّين، وشُّرعت قوانين مجحفة بحقّهم. وكانت ذروة الظّلم احتلال الموصل وبلدات سهل نينوى من قِبل تنظيم الدّولة الإسلاميّة وتهجير المسيحيّين قسرًا والاستحواذ على ممتلكاتهم، وفقدان الثّقة وفرص العمل وحتّى الأمر الوزاريّ بالوظائف التّعويضيّة لم يُنفَّذ، فهاجر الكثير منهم إلى بلدان الانتشار لضمان مواصلة تعليم أولادهم ومستقبلهم. وتُشير التّقديرات إلى بقاء نحو نصف مليون مسيحيّ من أصل مليون ونصف قبل السّقوط في عام 2003.
الهمّ والأمل
ينبغي على المسؤولين في الحكومة وأيضًا المرجعيّات الدّينيّة المسلمة والكتل السّياسيّة، أخذ مخاوف المسيحيّين وهمومهم على محمل الجدّ وطمأنتهم وتشجيعهم على البقاء في أرضهم ومواصلة حياتهم مع مواطنيهم بثقة وسلام وتعاون مثمر.
1. همُّ المسيحيّين، أن يُرفَع عنهم الظّلم والمعاناة وأن تحقَّق العدالة والقانون والمساواة لهم ولجميع المواطنين، فيستعيدوا ثقتهم ودورهم الوطنيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ، ويساهموا مع الآخرين في رفع الوعي عند العراقيّين بقِيَم المواطَنة، والتّسامح والاحترام، وترسيخ العيش المشترك، فيدركوا أنّ ثمّةَ مستقبل آمن ومستقرّ لهم ولأولادهم على هذه الأرض.
2. هذا يتمّ عندما تكون ثمّة رؤية مستقبليّة في دولة وطنيّة، تقوم على أسس الدّيمقراطيّة وحكم القانون والمساواة واحترام التّنوّع، فيعمَّ في أرجاء العراق السّلام والازدهار.
3. في هذه الأثناء، يتطلّب من السّياسيّين العراقيّين أن يرتقوا إلى مستوى المسؤوليّة في الحفاظ على المنجزات الّتي تحقّقت، وخصوصًا تفادي الانزلاق في حرب بالنّيابة أمام التّأزّم الحاليّ بين جمهوريّة إيران الإسلاميّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، الّتي إن حصلت لا سمح الله، تلحق بالمنطقة برمّتها المزيد من القتلى، والخراب والدّمار والتّشظّي، وتدفع النّاس إلى الهجرة والتّشرّد.
لذا، أدعو العراقيّين إلى فتح حوار سياسيّ شجاع، لوضع استراتيجيّة واضحة تتفق عليها كافّة الكتل السّياسية، وتكون بمثابة وثيقة وطن، وتعمل من أجل تنفيذها للخروج من الأزمات والمصائب المتكرّرة. على العراقيّين أن يثقوا بأنفسهم وقدراتهم ووحدتهم، ويتَحدَّوا الواقع المؤلم، بالاتّحاد والعمل والأمل فيُنجزوا أشياء عظيمة ودائمة لبلدهم ومواطنيهم".