العراق
15 حزيران 2020, 11:50

البطريرك ساكو: بعد كورونا لا بدّ من نهج جديد للتّنشئة الدّينيّة

تيلي لوميار/ نورسات
عبّر بطريرك بابل للكلدان الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو عن تطلّعاته لمرحلة ما بعد كورونا، على ضوء الظّروف الاستثنائيّة الّتي مرّ فيها العالم بعد تفشّي الوباء، فكتب نقلًا عن موقع البطريركيّة الرّسميّ:

"نمّر منذ عدة أشهر في ظروف قاسية، سبّبها تفشّي وباء كورونا الفتَّاك، الّذي ضرب معظم دول العالم،  مع ما رافقه من مشاعر العزلة والخوف والقلق وعدم الثّقة و"الوسواس"، وتداعيات طالت الصّحّة والعلاقات الاجتماعيّة، والثّقافيّة والاقتصاديّة والدّينيّة. هذه قراءة لمستجدّات واقع غير مسبوق مع ما نستوحي منها من تطلّعات!

متغيّرات تحت الحجر المنزليّ

وإذا بنا أمام واقع استثنائيّ. فللحماية من هولِ الوباء، أجبِرنا على ملازمة البيت. وغيَّر "الحجر المنزليّ" حياتنا ورؤيانا وخططنا وتعاملنا. صرنا نعمل ونتعامل "عن بعد". بات الإنسان "من البيت" يواصل عمَلَه إلكترونيًّا، والطّالب دراسته إلكترونيًّا. ومن البيت يتابع المؤمن صلاته، عبر البثّ الإلكترونيّ للصّلوات والقداديس، لأنّ الصّلوات في الكنائس تمّ تعليقها خشية تفشّي الفيروس بسرعة بين المُصلّين. هذه الحالة شملت جميع البشر والدّيانات. فالدّيانة الإسلاميّة علَّقت صلاة الجماعة في المساجد، حتّى في شهر رمضان والاحتفال بعيد الفطر، فراح الفرد المسلم يصلّي في بيته، ويصوم ويحتفل بالعيد. وعلى الأرجح أنّ المملكة العربيّة السّعوديّة سوف تلغي موسم الحجّ هذا العام بسبب فيروس كورونا. وهذا يشكّل منعطفًا جديدًا. بعد تخفيف الحجر المنزليّ، هناك إجراءات وقائيّة جديدة لأداء الصّلاة، كتحديد عدد الحضور، والتّباعد الاجتماعيّ. ورؤساء الدّول يعقدون اجتماعاتهم عبر الدّائرة التّلفزيونيّة المغلقة بسبب شبه استحالة السّفر، ولربّما نحن في الكنائس الشّرقيّة إذا استمرّ الأمر على هذا المنوال سنعقد سينودسنا عبر الدّائرة الإلكترونيّة! لقد أحدثت جائحة كورونا انقلابًا في حياة الفرد وفـي حياة المجتمع. وقد صرّح الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب أنّ: بعد كورونا انتهت العولمة وانتهى النّظام العالميّ الجديد. أجل لم يعد العالم كما كان.

الفرد يتحمّل مسؤوليّة نفسه

"الحجر المنزليّ" جعل الفرد يتحمّل مسؤوليّة نفسه وبناء إنسانيّته. وخلق ذلك عند المؤمن اشتياقًا إلى الرّوحانيّات، وحالة من الصّلاة. هذا ما لمسناه من مئات التّعليقات على الفيسبوك البطريركيّ، الّذي نبثّ عبره احتفالنا بالقدّاس اليوميّ، منذ تعليق الصّلاة الجماعيّة في كنائسنا. لقد ولَّد هذا البثّ المباشر عند المشاركين، كنيسة بيتيّة، ورسَّخ عندهم الرّجاء بالخلاص من وباء كورونا.

كذلك خلقت جائحة كورونا حالة إيجابيّة من التّضامن الإنسانيّ، وتمتين العلاقات، فالنّاس راحوا يحاربون أسباب الألم في حياتهم وحياة المجتمع. هذا ما نشاهده في تفاني الأطبّاء والكهنة، والمتطوّعين وجماعات الخدمة، الّذين عرّضوا حياتهم للخطر كي يوفّروا المستلزمات الضّروريّة للنّاس لمعالجتهم أو للتّخفيف من معاناتهم. إنّهم يستحقّون الشّكر والتّقدير، ولا بدّ من توثيق هذه المرحلة لتخلّد ذكرهم.

يشير البابا فرنسيس في كتابه "الحياة بعد الوباء" الّذي صدر قبل أيّام في الفاتيكان، إلى نقطتين أساسيّتين هما: الأولى، أهمّيّة بناء عالم أفضل عقب الأزمة الّتي نعيشها بسبب الوباء، والثّانية، زرع الرّجاء الّذي يغذّيه الإيمان في القلوب وسط مشاعر الضّياع الكبيرة.

نحن أمام حالة مختلفة عن المألوف

نحن في مطلق الأحوال أمام وضع جديد يختلف عن المألوف. لقد جعلت جائحة كورونا والحجر المنزليّ والتّباعد الاجتماعيّ، ووسائل التّواصل الاجتماعيّSocial media   النّاس أكثر حرصًا على حياتهم وحياة عائلاتهم، وإنسانيّتهم وإيمانهم. وصاروا أكثر تفكيرًا وتحليلاً وشجاعةً في التّعبير والنّقد والمطالبة بإصلاحات. أصبحوا، كما يلاحظ الآن، أكثر من أيّ وقت مضى، لا يقبلون بسهولة أن يُفرض الدّين عليهم بالقانون والإكراه، بل يريدونه نابعًا من قناعة داخليّة، وحرّيّة شخصيّة، تجعلهم يُحبّون ما يقتنعون به.

إنّ التّعافي من وباء كورونا، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ يوفّران لنا أفقًا رحبًا للتّحليل، وإعادة النّظر في نمط تفكيرنا وطريقة قراءتنا للنّصوص الدّينيّة المختارة، وشرحنا للمصطلحات اللّاهوتيّة المستعملة، ومراجعة أسلوب تعليمنا وعملنا الرّاعويّ، واحتفالنا بالأسرار كالقدّاس والعماد والرّسامات وبركة الزّواج. هذا التّغيير يحتّم علينا إيجاد لغة جديدة، وعبارات قصيرة، وبسيطة ومفهومة تثير الدّهشة لدى المتلقّي لقبول البشارة، والشّغف في عيشها، ممّا يعزز جاذبيّة الكنيسة والثّقة بها.

في فترة كورونا الطّويلة نسبيًّا، اشتركت معنا في القدّاس راهبات البطريركيّة الأربع مع الأسقفين المعاونين وكاهن الأرشيف، وعلى الأغلب، في كلّ قدّاس ثمّة مزمور جديد بدل المزمور المعيّن، وترتيلة للتّقادم وأخرى لرتبة السّلام جديدة بدل المُعتمدة، وأنتيفونات جديدة للرّوح القدس. وهكذا بالنّسبة للموعظة القصيرة (دقيتان أو ثلاثة) والطّلبات خصوصًا المتعلّقة بالخلاص من كورونا، وذكر النّوايا الّتي يطلبها المشاركون عبر الفيسبوك للصّلاة من أجل موتاهم ومرضاهم، وتزيين الكابيلا. إنّها أمور منعشة. لماذا لا!  فالقدّاس احتفال بموت المسيح وقيامته، وليس مجرّد فعل عبادة. إحتفال بحضوره بيننا، لذا تحرّك الصّلاة فكرنا وجسدنا وقلبنا كرفع اليدين والسّجود، ورسم إشارة الصّليب والوقوف والجلوس. جسدنا يصلّي!

ضرورة التّجديد

نحن آباء ورعاة، ولسنا منظّرين، ولا موظّفين في مكاتبنا. نحن باحتكاك متواصل مع مؤمنينا، خصوصًا أنّنا نعرف حاجاتهم الّتي يعبّرون عنها. وندرك جيّدًا أنّ الكاريزما الّذي لدينا هو لمساندتهم ومرافقتهم في صعوباتهم ومسيرتهم عبر صلاتنا واحتفالنا بالأسرار، وشرحنا لكلام الله، وإجابتنا على أسئلتهم باهتمام ومتابعة وتواضع.

قال لي أحد أساقفتنا في أميركا أنّه بعد احتفاله بالقدّاس في دير للرّاهبات في زمن كورونا، سأل أثناء الفطور الرّاهبات، عن معنى الكلمة  السّريانيّة- الكلدانيّة "رهووناRahouna   (العربون بالعربيّة)، الّتي وردت في صلاة القدّاس، وهي تعبير لاهوتيّ مهمّ في الرّوحانيّة المسيحيّة. أجابت الرّاهبات أنّنا لا نعرف! تعجَّب الأسقف كيف أنهنَّ يصلّين كلمات لا يفهمنها. فأخذ يشرح لهنّ معنى الكلمة.

توفّي أحد كهنتنا، فنشر موقع البطريركيّة الخبر بهذه الصّيغة: "إنتقل الأب… إلى الأخدار السّماويّة…، ونسأل الله أن يُسكِنه فسيح جنّاته!"، كتبت إليّ سيّدة تسأل عن معنى هذه التّعابير الجغرافيّة الغامضة؟ وقالت: أين هي الأخدار السّماويّة، والجنّات الفسيحة؟ فطلبتُ تغييرها بعبارة أخرى معروفة: رقد (فلان) على رجاء القيامة وهي الأنسب. كما سألني شخص آخر: أين نار جهنّم الّتي نصلّي إلى العذراء مريم لكي تخلّصنا منها؟ وكذلك مخاطبة المؤمنين بعبارة "غنم مرعاك" ألا يمكن استبدال الأولى بـ"لكي تخلّصنا من الشّرّير"، والعبارة الثّانية  بـ"بناتك وأبنائك". من المؤكّد أنّ هناك لغة رمزيّة  لهذه التّعابير، لكن ينبغي أن نكون حذرين من استعمالها كونها لا تساعد على التّوضيح والهضم والقبول والتّعزية. كذلك نقرأ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ بعض انتقادات لأشخاص من الدّيانات الأخرى حول بعض التّقاليد والعادات والممارسات الظّرفيّة الّتي انتفت الحاجة منها، ويطالبون بالتّخلّي عنها! لا بدّ من مقاربات جديدة!

خطاب للإنسان المعاصر  

على سبيل المثال، غالبًا ما تستجدّ حالة مع سكرتيرة البطريركيّة، وهي ذات ثقافة عالية، عندما أراجع معها مقالاً ما، وتقرأه بعيون المتابعين، تلحّ بأسئلتها: ماذا يعني هذا؟ إشرح لي. أنفعلُ أحيانًا، لكن أرجع وأقول: الحقّ معها، أنا أفهم ما أكتب، لكن ليس بالضّرورة أن يفهمه الآخرون! فلا بدّ لي أن أعبّر لهم بوضوح عمّا اُريد إيصاله اليهم بمفردات بسيطة، واضحة ومفهومة.

الكنيسة ومرجعيّات الدّيانات الأخرى معنيّة بهذه المراجعة الضّروريّة والمتمعّنة، بإرادة واثقة ورؤية واضحة، انطلاقًا من مشاعر الأبوّة والرّعاية المسؤولة.

التّجديد ينبغي ألّا يكون كما يفعل بعض رجال الدّين، بالتّلاعب بالكلمات في مواضيع  بهذه الخطورة، بل في مواجهتها بمنتهى الدّقّة والوضوح. لماذا يتردّد القول هنا وهناك (في أوساطنا)، بأنّ الله غاضبٌ على البشر لذلك عاقبهم بكورونا، أو أنّ الله سمح به ليتوب البشر إلخ. هذا التّفكير يتعارض مع القيم المحوريّة لرسالة المسيح الّتي تُشدّد على أنّ الله محبّة وكلّيّ الرّحمة والصّلاح، وأنّ الله يحترم الطّبيعة ولا يتدخّل في حرّيّة الإنسان، وتلك فرصة للنّاس أن يتآلفوا ويتقاربوا خصوصًا في مثل هذه الأحوال.

في حال أردنا أن يفهم النّاس الدّين، لا بدّ أن نُطوِّر الهيكليّات ونجعلها أكثر فعاليّة، كذلك نصوص التّعليم، وطريقة التّنشئة الإيمانيّة، وذلك بالبحث عن مفردات وعبارات بسيطة ومفاهيم إنسانيّة وروحيّة وأخلاقيّة  مقبولة تساعدهم ليكونوا أكثر قُربًا من المسيح وروحانيّة الإنجيل، وأمينين له، وأكثر تآلفًا مع بعضهم البعض. أمّا المعترضون المعاندون، فهم موجودون في كلّ زمان، كما كانوا في زمن يسوع الّذي تجاوزهم.

تجديد البشارة عبر تاريخ الكنيسة

هذا التّجديد لتعزيز "البشارة"، هو ما فعلته الكنيسة عِبر تاريخها، في حقبة الآباء Church Fathers اللّاهوتيّين، والعصر الكلاسيكيّ، والثّورة الصّناعيّة، وفي عصرنا هذا من خلال المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في السّتينيّات من القرن الماضي وسينودسات الأساقفة بروما كلّ ثلاث سنوات ورسائل البابوات. الكنيسة كونها "أمّ ومعلّمة" تشدّد دومًا على التّأوين والتّجديد وإصلاح القوانين والنّظم، بعقليّة أكثر انفتاحًا وتجاوبًا مع الزّمن، ومن دون خوف أو عقد.

إنّ المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني دعا إلى الانفتاح المستمرّ على إصلاح الذّات، أمانةً للمسيح الّذي يدعوها للاستمرار في الإصلاح، عبر مسيرتها، لأنّها بحاجة إليه (قرار في الحركة المسكونيّة، 6). كذلك دعا البابا فرنسيس في الإرشاد الرّسوليّ "فرح الإنجيل" كلّ مسيحيّ إلى أن يكون جريئًا وخلّاقًا في عمليّة إعادة التّفكير في أهداف الأنجَلَة وهيكليّتها وأسلوبها وطرقها، داخل جماعته الخاصّة. بإتّحاد الواحد مع الآخر، كإخوة وأخوات، بقيادة الأساقفة، في تمييز راعويّ واقعيّ وفطن" (فرح الإنجيل 33).

هكذا فإنّ قوّة الكنيسة هي في مواجهة كذا تحدّيات بشجاعة ووضوح، ولا يمكن أن تستمر في الطّريقة التّقليديّة وكأنّ كلّ شيء بديهيّ، وكأنّه صالح لكلّ زمان ومكان، ومعتمد عليه بنحو مطلق.

اليوم، الأساقفة مدعوّون بالأحرى، والجماعات الكنسيّة خصوصًا "النّخبويّة" أن يلتفتوا إلى الضّرورة الملحّة في تشجيع البحث عن وسائل فعّالة ومناسِبة للتّقدّم اللّاهوتيّ واللّيتورجيّ والرّوحيّ والقانونيّ والعمل الرّاعويّ، على ضوء رسالة المسيح الّتي كان محورها الإنسان، وتعزيز كرامته، والعيش الإيجابيّ المشترك. هنا لا بدّ أن نقرأ نحن المسيحيّين قراءة معمّقة للتّطويبات، وليس قراءة غيبيّة، فالتّطويبات مشروع إنسانيّ وروحيّ حيويّ، يُعبّر عن السّعي للانتصار على الظّلم والتّمييز والألم وتحقيق التّغيير المرجوّ ممّا يمنح تعزية لكلّ هؤلاء المظلومين. التّطويبات ليس مشروعًا لما وراء الموت، وإلّا ما معنى طوبى للسّاعين إلى السّلام فإنّهم أبناء الله يُدعوون (متّى 5/ 9).

دور العلمانيّين المؤمنين

أليس هذا هو دور الرّوح القدس أن يذكّرنا بأقوال المسيح ويرشدنا إلى الحقّ (يوحنّا 16/ 13) لكي نُعبّر عنها بأسلوب مناسب، بالتّعاون مع المؤمنين، كلٌّ حسب اختصاصه. إذ لا يمكن أن يحتكر رجال الدّين كلّ ما هو دينيّ، ويعدّون المؤمنين تابعين لهم كالقطيع، وهذه العبارة لا تزال تتردّد في ليتورجيّاتنا الشّرقيّة.

يتكلّم مار بولس عن تنوّع المواهب (1 قورنثية 12/ 27). ثمّة مواهبيّون علمانيّون رائعون يمكن أن يتحمَّلوا مسؤوليّات كبيرة في الكنيسة، ويُسهموا في تقدّمها. نذكر على سبيل المثال كيارا لوبيك، مؤسّسة حركة فوكولاري، وكيكو أركويلو و كارمن مؤسّسي جماعة الموعوظين الجدد، وأندريا ريكاردي مؤسّس جماعة سانت إيجيديو، وراوول فوليرو مؤسّس جماعة خدمة المصابين بالبرص، والأمّ تيريزا، ومن شرقنا نذكر الأخ نور مؤسّس حركة إيمان ونور وقنوات نورسات، وملحم خلف مؤسّس جماعة فرح العطاء. وفي العراق، عماد حسيب مؤسّس جماعة محبّة وفرح، والمرحومة ألحان نهّاب مؤسّسة بيت عنيا، الأختان خالدة وشميرايتا وبيت الرّجاء…

عسى أن تعود إلينا الحياة بعد كورونا أكثر انسانيّة وحماسة، والإيمان أكثر نضوجًا وعمقًا، فلا نعود كما كنّا."