لبنان
13 نيسان 2019, 13:32

البطريرك بدروس: إنّه لبناننا، لبنان الجميع، لبنان المحبّة ولبنان السّلام

أزاح بطريرك الأرمن الكاثوليك لبيت كيليكيا كريكور بدروس العشرون السّتارة عن النّصب التّذكاريّ للصّداقة اللّبنانيّة - الأرمنيّة الذي نفّذه النحّات بوغوص طاسلاكيان؛ وتمّ وضعه على أوتوستراد جونيه في إتّجاه الشّمال، بحضور وزير السّياحة أفيديس كيديان، وزير الشّؤون الاجتماعيّة ريشار قيومجيان، السّفير البابويّ المونسيور جوزف سباتيري، المطران سمير مظلوم ممثّلًا البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، ولفيف من الكهنة ورؤساء بلديات المنطقة ومخاتيرها والنّواب وممثّلي الأحزاب والجمعيّات المدنيّة وألاهليّة بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام".

بعد تلاوة الصّلاة، انتقل الجميع الى دار بلديّة جونيه حيث أُقيم احتفال استهلّ بالنّشيدين اللّبنانيّ والأرمنيّ، ثم كلمة ترحيبيّة لعريف الحفل كريكوار كالوست. 

وألقى النّائب البطريركيّ لجمعيّة كهنة بزمّار البطريركيّة والنّائب البطريركيّ العام لأبرشيّة بيروت، المونسيور غبريال موراديان كلمةً جاء فيها: "إحتفال أردناه أرمنيّ التّعبير لما للشّعب اللّبنانيّ الأرمنيّ من حضور فاعل وفعّال على أرض لبنان وفي تاريخ لبنان المعاصر، وطن القيم الحضاريّة والثّقافيّة والإنسانيّة والدّينيّة.

وإنّ اجدادنا وآباءنا الذين اضطهدوا، وجدوا في لبنان ملاذًا آمنًا لحريّة العيش والمعتقد. فأرمن لبنان ليسوا جالية أم تابعيّة، هم مواطنون لبنانيّون من أصل أرمنيّ، تمسّكوا بهذا الوطن وبذلوا ما في وسعهم من أجل تطوير لبنان وبنائه وازدهاره، فأمسوا شركاء كاملين في المواطنة على كافّة الصُّعد الرّوحيّة والثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والصّناعيّة والإعلاميّة والفنّيّة والرّياضيّة.

إندماج الأرمن في المجتمع اللّبنانيّ هو واقع أساسيّ وجوهرّي في ازدهار لبنان. ويأتي هذا الإندماج من قناعة كلّ مواطن أرمنيّ بضرورة الالتفاف حول الوطن والابتعاد عن كلّ الاصطفافات الحادّة والتّحالفات الخارجيّة غير البنّاءة والمصلحة الفرديّة الضيّقة والتّركيز على جميع المقوّمات التي تنهض بهذا البلد. إنّ تاريخ الشّعب الأرمنيّ المعاصر هو تاريخ لبنان نفسه في بعض فصوله (شارل الحلو). هي قضيّة وجود وإيمان. فقد عرف الشّعب اللّبنانيّ والأرمنيّ معاناة مشتركة ومسارًا جدًّا متقارب من الاضطهاد على يد السّلطنة العثمانيّة الرّجل المريض، اضطهاد لم يرحم مليون ونصف المليون من الشّعب الأرمنيّ بواسطة المجازر والتّنكيل، وآلاف من الشّعب اللّبنانيّ على مدى 400 عام.

إنّ الشعب اللّبنانيّ والأرمنيّ اللّبنانيّ يستمدّان قوّتهما للاستمرار في هذا الشّرق من قدّيسيهم وشهدائهم. شعبان يعرفان جيّدًا معنى الصّداقة الحقيقيّة. صداقة تسمو إلى درجة الأخوّة الإنسانيّة. وهذه الأخوة الإنسانيّة مصدرها الله الخالق. صداقة تختلف بشكل كبير عن المصالح الآنيّة والمكاسب الماديّة والسلّطة الدّنيويّة. صداقة إرادتها متجزّرة عند الرّبّ ومحلقة إلى الأبديّة.

ويجب التمسُّك أبدًا بتربة لبنان وأرضه، فهو الوطن الذي لا بديل منه، وصيغة تعايشه لا غنى عنها مهما كبرت الإملاءات الخارجيّة وتعاقبت الصّعوبات الدّاخليّة، فلبنان كان وما زال وسيبقى لكلّ منكوب ومضطهد وطن الرّسالة، وطن الشّهادة والتّعايش.

 هذا الدّعاء نرفعه إلى سيّدة لبنان وسيّدة بزمّار العجائبيّة اللّتين نلتجئ إليهما دائمًا، ولشهداء الشّعب اللّبنانيّ والأرمنيّ، ولاسيّما المطران الشّهيد إغناطيوس مالويان.

شكرًا لبنان، إنّنا نحبُّك ونطلب منك المسامحة عن كلّ ألم سبّبناه لك، ونعدك أن نعمل على المحافظة عليك وطن الرّسالة، وطن المحبّة، ووطن العيش المشترك".


وللمناسبة، ألقى بدوره البطريرك بدروس كلمةً قال فيها: "نجتمع اليوم في موقع جغرافيّ مُميّز يُعبّر عن حال التّلاقي حيث بحر مدينة جونيه يلامس أقدام أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان وسيّدة بزمار! وللموقع عبرة ورمزيّة خاصّة، لاسيّما أنّنا نقف على بعد عدّة أمتار من شاطئ البحر! هذا البحر الذي يحمل مفهوم الرحّالة والتّنقّل والغربة من أحضان هذا البلد وإليه. هذا البلد الذي كان منطلقًا للحياة الإنسانيّة وللتّنوّع؛ فكان لبنان مركز استقطاب كما كان منطلقًا لهجرة أجيال لم تعرف سوى البحر وسيلة للانتقال إلى بلاد الله الواسعة حيث أثبت اللّبنانيّون، على اختلاف إنتماءاتهم، قدرتهم على فرض الذّات والوجود والاندماج في كيانات مختلفة لحدّ الانصهار في المجتمعات الجديدة مع حفاظهم على الهويّة والتّاريخ؛ وهذا ما عبّر عنه فخامة رئيس الجمهورية اللّبنانيّة ميشال عون خلال زيارته الأخيرة إلى أرمينيا قائلًا إنّ لبنان هو وطن كونيّ وليس بلد استيطان وذلك تعبيرًا عن واقع الاندماج الاجتماعيّ القائم بين الشّعبين اللّبنانيّ والأرمنيّ، سواء أكانت هذه الصّورة موجودة في لبنان أو معكوسة في أرمينيا حيث الوجود اللّبنانيّ يجسّد حقيقة التّقارب والتّآلف بين هذين الشّعبين.

وفي هذه المناسبة، أذكّر أنّ الوجود الأرمني في لبنان ليس وليدة الإبادة الأرمنيّة التي يمرُّ على ذكراها المئة عام، بل أنّ هذا الوجود يعود إلى عهود غابرة قديمة، لاسيّما ما يجمع الشّعب الأرمنيّ والشّعب اللّبناني هو البيئة الجغرافيّة المشتركة في الشّرق الأدنى، منذ زمن بعيد، يوم كان التّعارف والتّقارب في أشدّهما بين هذين الشّعبين، حتّى أنّهما كانا موجودين في حالة الاتّحاد وتحديدًا مع الشّعب العربيّ عامّةً، يوم كانت بلاد ما بين النّهرين وسوريا ولبنان (فينيقيا) وفلسطين، أي معظم دول الشّرق الأدنى وحتّى حدود مصر، تؤلّف قسمًا من المملكة الأرمنيّة في عهد الملك ديكران العظيم. كما كانت أرمينيا خلال القرون 7 - 9 ضمن دولة الخلافة العربيّة.

وحتّى أنّه في القرون الثّلاثة الأخيرة، يأتي تأسيس الكرسيّ البطريركيّ لطائفة الأرمن الكاثوليك وجمعيّة كهنة بزمار البطريركيّة التي مضى على وجودهما في لبنان، وتحديدًا في بلدة بزمار ما يزيد عن الـ270 عامًا، في مثابة شهادة على هذا الوجود الأرمنيّ في لبنان، وفي كسروان تحديدًا، حيث مهد البشارة بالمسيحيّة وإنطلاقة للكهنة الذين أدّوا ويؤدّون رسالتهم، بما يتماهى وينسجم مع ثقافة المجتمع اللّبنانيّ وتنوّعه ونخص بالذّكر الشّهيد الطوباويّ إغناطيوس مالويان الذي ترعرع وتتلمذ في إكليريكيّة دير سيّدة بزمّار واستشهد في صحراء دير الزّور السّوريّة!

ومن هنا نقول أنّ علاقة الشّعب الأرمنيّ بالشّعب اللّبنانيّ ليست وليدة الصّدفة، بل هي نتيجة مسار ومصير لشعوب مزجت دماءها بتراب الأرض وتعانقت أرواحها بشغف الإيمان حتّى إنصهر مفهوم المواطنة لدى هذين الشّعبين بحسّ الانتماء إلى الوطن الواحد، فكان لبنان بالنّسبة للشّعب الأرمنيّ ليس مجرد بلد استيطان، بل معقلًا لاحتضان الإنسانيّة على إختلاف أنواعها وأشكالها. وهذا الواقع يعكسه التّعدُّد الطّائفيّ والتّنوّع بين مختلف المذاهب والأديان التي وجدت في هذا البلد الحبيب موطئًا للتّآلف والاندماج بين مختلف أطياف النّسيج الاجتماعيّ.

وهذا النّسيج يبقى هو أساس وغنى هذا البلد الذي صحّ فيه قول البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني في إرشاده الرّسوليّ أنّ لبنان هو أكثر من وطن، أكثر من بلد أنّه رسالة، رسالة في العيش المشترك السّويّ بين المسلمين والمسيحيّين، وحتى بين المذاهب على إختلاف تنوعها. وليس غريبًا عنّا هذا الوصف الدّقيق والصّائب في ظلّ ما يشهده العالم من إنغلاق على الذّات والتّعصّب والحقد والكراهية، وهي جميعها عناصر تؤدّي بطبيعة الحال إلى الجرائم بحقّ الإنسان أوّلًا، وبحقّ رسالته التي هو مؤتمن عليها ككائن بشريّ خلقه الله على صورته ومثاله.

ونجتمع اليوم لنتذكّر ونذكّر ونشهد على عمق العلاقة بين الشّعبين اللّبنانيّ والأرمنيّ وأسمح لنفسي بالقول أنّ هذه العلاقة لا يحدّها مفهوم الصّداقة، بل أقل ما يُقال فيها أنّها عنوان وتجسيد لفعل المحبّة. محبة الأخوة ضمن البيت الواحد والعائلة الواحدة.

نجتمع اليوم لنرفع السّتارة عن نصب تذكاريّ يُمثّل عربون الصّداقة بمشاركتكم جميعًا، وبمشاركة العزيز السيد كريكور دجابوريان، الذي قدّم هذا النّصب إنطلاقًا من حبّه وتعبيرًا عن إيمانه بهذا الوطن الحبيب الذي يجمع في أحضانه أبناء له، بدون تمييز بين عرق أو لون أو طائفة. إنّه لبناننا، لبنان الجميع، لبنان المحبّة ولبنان السّلام، حافظوا عليه فهو أرض القدّيسين وأرض لم تقو عليه الشّياطين. إنّه أمانة بين أيدينا، علّنا نتعظ من الماضي من أجل مستقبل أفضل لأولادنا".