البطريرك العبسيّ في رسالة الميلاد 2017: يأتي عيد الميلاد ليبيّن لنا أنّ الله حاضرٌ إلى جانب شعبه، يسير معه ويرافقه ويهتمّ لما يُصيبه
01- يخبرنا الكتاب المقدّس، في سفر دانيال النبيّ (5: 1-9)، أنّ الملك بَلْشَصَّر صنع وليمة دنّس في أثنائها المقدّساتِ، بشربه الخمرةَ في آنية الهيكل، مستخفًّا ببيت الله وبشعبه، وأنّه، فيما كان المدعوّون جالسين إلى مائدة الخِزي وشركة الظلم، إذا بأصابعِ يدِ إنسان تخطّ نُبوءةً، فسّرها النّبيّ دانيال بأنّ الله يُعلن انتهاء عهد الملك المستخفّ وانقسامَ مملكته، وبأنّها إشارة إلى تدبير الله الخلاصيّ وإلى مرافقته لشعبه وحضوره إلى جانبه.
02- اليوم، فيما تغزو التيّارات الإلحاديّة المتنوّعة روح العالم، وتسيطر مبادئ الرّبح التّجاريّ والمصالحِ الخاصّة، وفيما يحصل الاستخفاف بحياة الإنسان، بتفشّي العنف بشتّى مظاهره وبالتّلاعب بمصير الشّعوب الفقيرة والمستضعفة، وفيما تُداس أرض الشّرق بالحرب والتّهجير وتُدنَّس كرامة الإنسان ومقدّساته الرّوحيّة، يتساءل أبناؤنا بحيرة وألم، وفي بعض الأحيان بغضب، عن حضور الله وعن دوره في حياتنا ومصيرنا. ويأتي عيد الميلاد، عيد التّجسّد الإلهي، ليكشف لنا أنّ إصبع الله تَظهر وترافقنا، لا سيّما في المراحل الصّعبة من حياتنا، وتخطّ مصيرنا، منبئةً بقرب انتهاء زمن الاستهتار بكرامة الإنسان وبمقدّساته، وزمنِ تسلّط أسياد التّجبّر والحرب ودعاة العنف والتّطرّف. "اليوم وُلد لكم مخلّصٌ وهو المسيح الربّ". يأتي عيد الميلاد ليبيّن لنا أنّ الله حاضرٌ إلى جانب شعبه، يسير معه ويرافقه ويهتمّ لما يُصيبه ويستمرّ في التّدبير الذي ارتآه منذ الأزل، أعني دعوةَ الإنسان إلى الشّركة في حياته الإلهيّة، المأدبةِ الحقيقيّة التي تصنع الفرح الصّحيح الكامل.
03- يكشِف سرّ التجسّد أيضًا أنّه بالمسيح، "صورةِ الله الآب وضياءِ مجده"، تحقّق سرّ القصد الإلهيِّ بأكمله، معلنًا محبّة الله اللّامتناهيةَ للإنسان. في الميلاد، لا يكتفي الله بأن يكتُب على حائط التّاريخ البشريّ نُبوءةً بشأن مستقبلنا ومصيرنا، بل يصير واحدًا منّا، عمّانوئيل، إنسانًا يذهب إلى ملء الإنسانيّة حبًّا بكلّ واحدٍ منّا، ليقضي بموته على الموت ويحقّق الخلاص ويُعلن الانتصار الأبديّ على الشّرّ والخطيئة والموت. إصبع الله ظهرت بالميلاد بشخص طفلٍ تجلّت في تواضعه وفقره قدرةُ المسيح المنتظر، المخلّصِ الذي يقود البشريّة إلى الآب، إلى ملء الحياة الأبديّة. غالبًا ما ينتظر الناس من الله أشياء وأشياء لحياتهم الأرضيّة المادّيّة فقط، لأنّهم لا يدركون البعد الأساسيّ لتجسّد ابن الله ألا وهو أن يخلّصنا من خطايانا التي هي في أساس الشّرّ الذي في العالم بكلّ أشكاله. يقول يوحنّا الذهبيُّ الفمّ معلّقًا على كلام الملاك للعذراء في البشارة لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم: "يظهر العجب من هذه الأقوال، إذ إنّ الوعد ليس بالتّحرّر من حروب، من برابرة، بل من شيء أهمّ بكثير: بالتّحرّر من الخطايا. لم يستطع أحد حتّى الآن أن ينجز مثل هذا الأمر [...] لاحظ كيف يُظهر بهذه الطّريقة سلطانه، لأنّ الكلام لا يبرهن عن شيء إلاّ عن أنّ المولود ابن الله وملك السّماوات، إذ لا يوجد أحد غير الله يستطيع أن يغفر الخطايا".
04- في الميلاد يتمثّل الرّوح القدس بالنّجم الذي يقودنا إلى حيث يُولد المسيح، والذي يُذكّرنا بالخلاص ويجدّده فينا اليوم بلقاء المسيح الآتي إلينا طفلًا، لكي نتابع السّير وراءه، والسّعيَ معه إلى تحقيق ملكوت الله، ملكوتِ العدل والمحبّة والسّلام. يقودنا الرّوح القدس إلى مغارة قلبنا، إلى عمق حياتنا، حيث يتجلّى لكلّ واحدٍ منّا حبُّ الله من خلال الخلاص الذي حقّقه بالمسيح. الرّوح القدس عينه الذي أرسله الله إلى قلوبنا يصيّرنا إخوة للابن المتجسّد وأبناءً لله الآب بالتّبنّي: "الدليل على أنّكم أبناء الله أنّ أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ [فيها] أبّا! أيّها الآب! فأنت إذًا لست بعد عبدًا بل أنت ابن" (غلا 4: 6-7).
فإن كان فينا مَن يشبه المجوس، ملوك فارس، قبل اهتدائهم إلى الرّبّ، فليترك بُعده عن الرّبّ، تغرّبه عن الحقيقة والنّعمة، وليتخلَّ عن المجوسيّة الوثنيّة المتّشحة بهالة الغنى والعنفوان، والعظمة والكبرياء، والسّيطرة والتّعالي، وليتبع الرّوح، "فليتبع الكوكب إلى حيث يسير مع المجوس ملوك المشرق" (صلوات العيد)، وليأتِ إلى المذود متواضعًا تائبًا متشوّقًا، فهنالك "القديم الأيّام يصير طفلًا، والجالس على عرشٍ عالٍ يُضجع في مغارة، والبسيط غير المركَّب وغير المتجسّم يُحمل على أيدي البشر، والذي يَفكّ رباطات الخطيئة يُلفّ بالأقمطة كما شاء، مريدًا أن يحوّل ما هو مزدرًى إلى كرامة، وأن يُلبس ما لا مجد له ثوبَ المجد، وأن يُظهر ما هو حريّ بالإهانة سبيلًا للفضيلة. هكذا اتّخذ جسدي لكي أَحوي كلامه وأتقبّل روحه حتّى أحصُل على كنز الحياة عن طريق هذين الأخذ والعطاء: يأخذُ جسدي ليقدّسني ويعطي روحه ليقدّسني" (يوحنّا الذهبيّ الفمّ).
05- إصبع الله النبويّةُ التي تجلّت بإنسانٍ فريدٍ هو يسوعُ المسيح، لا تزال تتجلّى من خلال كلّ إنسان قَبِل الخلاصَ وتَبعَ المسيحَ ودخل في الشَركة معه، وجلس إلى مائدته وتناول خبز الحياة، ويسعى إلى العدل والسّلام والمحبّة. من أجل هذه الغاية "لبسنا المسيح"، لكي تَظهر أعمال الله فينا (يوحنّا 9: 3)، ولكي "تَظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا" (2كور 4: 10). من أجل هذه الغاية لُقِّب المسيحيّون بأنّهم "حاملو المسيح"، "لابسو المسيح". هذان اللّقبان لا يحدّدان هَويّتنا وحسب بل يحدّدان أيضًا رسالتنا: أن نَحمل ونُظهر يسوعَ للعالم الذي نحن فيه. هذا ما فعله الرّعاة الذين أتوا من "ضواحي" بيتَ لحمَ السّطحيّةِ ولياليها المظلمة إلى "قلب وجوهر" بيتَ لحم، إلى عمق روحانيّة المذود الذي، باتّساعه للنّعمة، "صار محلاًّ شريفًا"، يتّكىء الرّبّ فيه بمجد، و"لمـّا شاهدوا ذلك أَخبروا بما قيل لهم في هذا الطّفل" (لوقا 2: 17).
أن نكون في خضمّ ما يحصُل لنا في بلادنا كلّها، وأن نتابع مع ذلك المسيرة مع المجوس والرّعاة، هو بلا شكّ من قبيل المعجزة، معجزة الرّجاء الذي نستقيه من يسوعَ نبعِ الحياة، من الإله الصّائر إنسانًا. هذه هي رسالة الميلاد الرّوحيّة، رسالةُ رجاء يتخطّى كلّ الآمال البشريّة. لذلك هي رسالة فرحٍ انطلاقًا مِن وعد الله الذي يبقى أمينًا ولا يخيّب آمالنا. فلنكتب بأصابع الله البشريّة تاريخًا جديدًا من الأخوّة والسّلام والعدل والمحبّة، ليعود الفرح إلى قلب كلّ إنسان والسّلام إلى أرضنا ويتمجَّد الله في العلى.
06- ظهور يسوع المسيح في جسدنا أمر خارق معجز، لا يدانيه إدارك ولا فهم، إنّما نتقبّله بالإيمان كما فعلت مريم. في يسوع المسيح هذا الظّاهرِ في الجسد يأخذ كلّ شيء معنًى، حتّى خطيئتُنا التي استحقّت لنا رحمة الله العظمى. ما أجمل عندئذ عيدَ الميلاد الإلهيّ إذا ما كان احتفالنا به ناجمًا عن هذا الإيمان القويّ الرّاسخ الذي يجعلنا نعلن، لذواتنا أوّلاً ومن ثمّ للملأ، أنّ "الرّبّ هو الله، وقد ظهر لنا". في هذا اليوم الذي تلد فيه العذراءُ الفائقَ الجوهر، تقَدَّم لنا فرصةٌ ثمينة لكي نعود ونتساءل هل كانت ولادتنا تستحقّ أن تكون، أن تحصل؟ ماذا فعلنا بحياتنا؟ هل أعطيناها قيمتها بأن عشناها كما عاش يسوع حياته مقتدين به؟ وإلاّ فقد يفوتنا القطار ونبقى قابعين في ظلمة اليأس والموت لا يشرق علينا نور الحقّ.
أتقدّم من الجميع، في هذه المواسمِ الخلاصيّة، بأحرّ التهاني وأحلى الأماني، سائلًا الرّبّ الإله، الابنَ الوحيد الذي في حضن الآب وكلمتَه الأزليّة، أن يسكُب فينا روحه القدّوس، ينبوعَ الفرح والسّلام، وأن نكون من النّاس الذين فيهم مسرّةُ الله الآب ومرضاتُه، بشفاعة مريمَ العذراءِ التي ولدته اليوم لنا مخلّصًا. آمين.