البطريرك العبسيّ: إنّ شهادة الدّمّ من شأنها أن توقظ ضمائرنا حتّى نتخطّى كلّ عقبة تحول دون التفافنا حول يسوع الواحد
وألقى العبسيّ كلمة، قال فيها: "إنّها لسعادة غامرة أن أزور اليوم مع إخوتي السّادة الأساقفة وأبنائنا الكهنة هذا الدّير العامر المقدّس، هذا الصّرح الّذي طالما قصدته منذ أيّامي الكهنوتيّة الأولى وصلّيت فيه وتعرّفت على أخوات راهبات فاضلات نذرن أنفسهنّ للرّسالة الخالصة لله وللنّاس في حياة قشفة ونمط متجرّد وروح وثابتة للخدمة أينما كان.
إنّها لسعادة حقّة أن نلتقي كلّنا معًا حول السّيّد المسيح لنحتفل به، بسرّ موته وقيامته، في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، مجسّدين وحدتنا فيه، لاسيّما ونحن في أسبوع الصّلاة من أجل وحدة المسيحيّين، معلنين مع الرّسول بولس: "إنّ الجسد واحد والرّوح واحد، كما أنّكم بدعوتكم، قد دعيتم إلى الرّجاء الواحد. وإنّ الرّبّ واحد والإيمان واحد والمعموديّة واحدة والإله واحد والآب واحد وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع" (أف 4: 5-6).
أضاف: "عندما نسمع بولس يردّد علينا هذا الكلام منذ ألفي سنة، وعندما نرى اليوم بعد ألفي سنة أن مسيحيّين من مختلف الكنائس والطّوائف يقتلون أو يضطهدون من أجل إيمانهم بالسّيّد المسيح، لا من أجل كاثوليكيّتهم ولا من أجل أرثوذكسيّتهم ولا من أجل بروتستانتيّتهم، فيما كنائسهم بعيدة بعضها عن بعض، يصيبنا شيء من الخجل لاسيّما ونحن نقيم هذا الأسبوع منذ أكثر من مئة سنة من دون أيّة نتيجة. إنّ المسيحيّين الّذين نراهم يذبحون في هذه الأيّام من أجل اسم يسوع ألّا نجمع كلّنا، على الأقلّ في داخل ضميرنا وقلبنا، على اعتبارهم شهداء؟ إلّا إذا كان أولئك الشّهداء ماتوا من أجل مسيح آخر! لا بل إنّهم شهداء وشهادتهم الّتي أدّوها هي الّتي سوف تجمعنا نحن المسيحيّين وهي الّتي تعضد صلاتنا وضعفنا. إنّ شهادة الدّمّ الّتي نراها اليوم والّتي لا تفرّق بين كنيسة وكنيسة من شأنها أن توقظ ضمائرنا حتّى نتخطّى كلّ عقبة تحول دون التفافنا حول يسوع الواحد والّذي هو هو أمس واليوم وغدًا وإلى الدّهور. وبهذا الضّعف عينه نصلّي اليوم إليهم بنوع خاصّ من أجل وحدة الكنيسة قائلين: "مغبوطة الأرض الّتي أخصبتها دماؤكم يا شهداء الرّبّ الظّافرين ومقدّسة الأماكن التّي وطئتها أقدامكم". فلتوحّدنا دماؤكم الّتي جبلت مع دم يسوع الفادي.
وإنّنا إذ نصلّي في هذه الأيّام من أجل وحدة المسيحيّين نذكر بالصّلاة رجلاً سعى إليها كثيرًا في حياته حتّى إنّها صارت "همّه الأكبر" على حدّ قوله. إنّه السّعيد الذّكر المثلّث الرّحمة البطريرك مكسيموس الرّابع الصّايغ مؤسّس هذه الرّهبانيّة المحبوبة الّذي انقضى على انتقاله خمسون سنة. إنّ قضيّة الوحدة المسيحيّة كانت في الواقع صارت "همّه الأكبر" لأنّها تمسّ كنيستنا في حياتها، في قلبها وفكرها. وقد قال يومًا عن هذا الموضوع من داخل حاضرة الفاتيكان: "إنّ اتّحاد الكنائس قد يكون للكثير من أساقفة العالم معضلة هامّة وحيويّة، ولكنّهم لا يشعرون بها إلّا شعورًا نظريًّا فقط. أمّا نحن فإنّ جرح الانفصال نشعر به شعورًا حسّيًّا داميًا... فمسألة الوحدة هي همّنا الأكبر وأوّل مشاغلنا وأشهى رغائب قلبنا. إنّها الغاية الّتي نرمي إليها بكلّ جوارح نفسنا... وإنّه ليبدو لنا أنّ السّعي في سبيل اتّحاد الكنائس هو علّة وجودنا والرّسالة الأساسيّة الّتي ألقتها العناية الإلهيّة على كاهلنا جماعة وأفراداً" (المسرة، 1967، ص 744).
بعد مضي أكثر من خمسين عامًا على هذا الكلام الّذي أعتقده خطيرًا جدًّا إذ يجعل من "السّعي في سبيل اتّحاد الكنائس علّة وجودنا"، حين نستعرض مراحل هذا السّعي والأعمال الّتي عملت في سبيله، تواجهنا أسئلة لا بدّ في رأيي من التّصدّي لها لكي نجد حلّاً ما عاد يسعه الانتظار إلى ما لا نهاية له: هل أصبح وجودنا في خطر؟ هل صار أمرًا يستغنى عنه؟ هل نبقى عالقين فوق الجسر الّذي بنيناه لأنفسنا، إن بقي جسر إذ بات الطّرفان يتخاطبان مباشرة، أم حان الوقت لأن نضع أقدامنا على هذه أو تلك من ضفّتيّ النّهر؟ هل نقضي العمر في البحث عن هويّتنا؟
قيل وكتب الكثير في مدح البطريرك مكسيموس الرّابع، في مدح مآثره وخصاله ودوره في المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. لا مجال الآن للوقوف على كلّ ذلك. إنّما لا بدّ من القول إنّ تأسيسه، بالتّعاون مع الآباء البولسيّين، للرّاهبات مرسلات سيّدة المعونة الدّائمة، كان مأثرته وإسهامه الكبير في خدمة كنيستنا الرومية الملكية. إن تطلعه وتشوقه إلى اتحاد الكنائس ما كان ليمنعه لا بل على العكس دفعه إلى أن يبني كنيسة ملكيّة قويّة على جميع الأصعدة. وراهبات سيّدة المعونة الدّائمة كنّ أحد الحجارة الكبيرة في هذا البناء. راهبات مرسلات انتشرن سريعًا في بلادنا ونشرن كلمة الإنجيل بروح المؤسّس، بروح بولس الرّسول، بالنّار الّتي كانت تشتعل في قلب كلّ منهما: "إنّ محبّة المسيح تحثّنا والويل لي إن لم أبشّر". فالشكر لله تعالى على هذه النّعمة والشّكر لكنّ أيتّها الأخوات الفاضلات على رسالتكن وعلى شهادتكن.
سمعنا الكنيسة تتلو علينا إنجيل الفرّيسيّ والعشّار في هذا اليوم الأوّل من مرحلة التّهيئة لزمن الصّوم الأربعينيّ، وهي فعلت ذلك لأنّه يتكلّم عن التّواضع، لتعلّمنا أنّ التّواضع هو أوّل ما يطلب من المسيحيّ للشّروع في زمن الصّوم والدّخول إلى الملكوت. يقول الإنجيليّ لوقا الّذي أورد المثل إنّ يسوع "ضرب هذا المثل لقوم مقتنعين في أنفسهم أنّهم أبرار ويحتقرون الآخرين" (لوقا 18: 9)، تاركًا لنا أن نكتشف من هم هؤلاء القوم، وأن نأخذ العبرة لأنفسنا.
رجلان صعدا إلى الهيكل لكي يصلّيا. رجل يعتقد في نفسه أنّه مستقيم صالح يتمّم الشّريعة، والثّاني جاب للضّرائب يرى نفسه خاطئا وسارقًا يخالف الشّريعة.
أمّا الأوّل، الفرّيسيّ، فيقول عنه لوقا إن "انتصب"، أيّ وقف أمام الله شامخًا برأسه، ليدلّ على كبريائه وعجرفته وقلّة احترامه لله تعالى، فكأنّه وهو في حضرة الله، لم تأسره عظمته ولا جلال قداسته، وكأنّه، وهو قائم في بيت الله، لم ير الله بل رأى ذاته وأضحى همّه أن يراه النّاس. لذلك بات من أولئك المرائين الّذين حذّرنا الرّبّ يسوع أن نتشبّه بهم، "الّذين يحبّون أن يصلّوا قيامًا (أيّ وقوفًا) في المجامع وفي ملتقيات الطّرق لكي يظهروا للنّاس" (متّى 6: 5)، الّذين قال عنه السّيّد: "متى صنعت صدقة فلا تبوق بها قدامك كما يفعل المراؤون في المجامع والشّوارع لكي يمجّدهم النّاس" (متّى 6: 1-2)، "ومتى صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرائين فإنّهم ينكرون وجوههم لكي يظهروا للنّاس صائمين" (متّى 6: 16).
أمّا العشّار الخاطىء فكان في الخلف وفي الزّاوية مطرقًا برأسه إلى الأرض خجلاً منسحقًا، لأنّه كان يشعر، وهو في حضرة الله وفي هيكله، بعظمته تعالى وقداسته. موقفه هو موقف المحبّ الّذي يشعر بأنه مهما فعل فهو من دون أن يفي المحبوب ما يجب. ففي الحبّ نحن دومًا فقراء مقصّرون، ولا ينبغي بالتّالي أن نربح من نحبّ منية على غرار الفرّيسيّ. وهذا هو الإقرار بالخطايا. ليس الإقرار بالخطايا شعورًا بالذّنب بمعناه السّلبيّ، أيّ الّذي يضع الإنسان في حالة من اليأس والذّلّ والتّعب، بل هو الّذي، في هدوء ووداعة ورجاء، يريد ويسعى أن يرتفع إلى مستوى المطلوب منه في علاقته مع من يحبّ، وهنا مع الله تعالى.
يختم يسوع المثل يقول إنّ الفرّيسيّ لم يبرّر، أيّ لم يغفر له. أمّا العشّار فقد برّر وغفر له. لماذا؟ ما هي مشكلته؟ هذا السّؤال هو لبّ الموضوع وأمثولة المثل: لماذا لم يبرّر الفرّيسيّ بالرّغم من أنّه يصلّي ويصوم ويتصدّق؟ الجواب هو لأنّه لم يأت إلى الهيكل ليسمع كلام الله بل ليكلّم الله، لم يأت ليمدح الله بل ليمتدح نفسه، فكان أنّه، في أعماله هذه الّتي ظاهرها حسن، لم يكتشف الله، لم يعرف الله، لم ير الله.
أخواتي راهبات سيّدة المعونة الدّائمة أشكركنّ على استقبالكن الدّافئ ولأنّكنّ أتحتن لنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. بارككنّ الله وأنماكن قداسة ودعوات. أشكر الحضور الكريم على مشاركته. أشكر من تعب في التّحضير لهذا الاحتفال المقدّس. أشكر شكرًا خاصًّا إخوتي الأساقفة الموقّرين على مشاركتهم، على محبّتهم وتضامنهم ورفقتهم الّتي يغمرونني بها بسخاء كبير. شكرًا لأبنائي الكهنة والرّهبان والرّاهبات على حضورهم. وفي الختام الشّكر الكبير لله تعالى على كلّ عطيّة منّ بها علينا وعلى كنيستنا، ومنها البطريرك مكسيموس الرّابع والرّاهبات مرسلات سيّدة المعونة الدّائمة.
ومع الشّكر نصلّي من أجل هذه الرّهبانيّة الكريمة لكي يكون حضورها علامة حضور يسوع وعربون الملكوت الآتي. نصلّي من أجل بعض بعضًا لكي يكون زمن الصّوم القادم زمن تنقية لقلوبنا وعقولنا حتّى يشرق فيها نور القيامة، ولكي يحفظنا الله بمحبّته في وحدة الإيمان والرّجاء والمحبّة حتّى نكون شاهدين لإنجيله الواحد بالفرح والسّلام.".