البطريرك الطوال في خميس الأسرار : نحن مدعوون كي نبذل أنفسنا حتى النهاية في ممارسة الرحمة مهما كانت التكلفة
الكهنة الأعزاء، أتمنى لكم عيداً سعيداً مع بركتنا وتقديرنا.
ايها الإخوة والأخوات
أيها الحجاج القادمين من شتى أقطار العالم.
في هذا اليوم تدعونا الكنيسة أن نتذكر سرَّ القربان الأقدس، وتاسيس الكهنوت إحياءً لوجود السيد المسيح بيننا وتلبية لرغبته ان نخدم إخوتنا.
إن أسرار التوبة، والقربان الأقدس، والكهنوت هي الركائز الثلاثة لايماننا المسيحي تقوم على حقيقة واحدة، المتمثلة بحبنا لله الآب الذي يريد أن يفدينا والذي من خلال الأسرار الثلاثة هذه “لن يتركنا يتامى” (يوحنا 14، 18)، ويبقى بيننا حتى نهاية الأزمان” (متى 28، 20). هذه الأسرار الثلاثة هي إشارات الرحمة الالهية، “وهو عمل سامي ورفيع ومن خلاله يأتي الرب لملاقاتنا”. إنها إشارات حيّة عن رحمة الله الذي لا يكّل من انتظارنا، يبحث عنا لملاقاتنا.
إن غسل الأرجل ما هو إلا تعبير عن رحمة السيد المسيح وتواضعه عندما ينحني واضعاً نفسه عند أقدامنا حتى يغسلنا ويشفينا من ضعفنا وخطايانا.
الله نفسه ينحني ويتضع، إنها إشارات زاخرة بالمعنى، معنى لا يستوعبه بطرس، ولا نستوعبه نحن.
“أتفهمون ما عملته لكم؟ ” يسأل يسوع. (يوحنا 13، 12). دون انتظار جواب، يفسّر نفسه مغزى العمل. “وإذا كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أرجل بعض. وأنا أعطيتكم ما تقتدون به، فتعملوا ما عملته لكم”. (يوحنا 13، 14-15).
بهذه الخطوة التي لا تتناغم مع أي اجراء بروتوكولي، يسوع يظهر جلياً رحمة الاله اللامتناهية. جنون الحب الذي لا يعرف حداً له، والذي لا يتوانى عن الشفقة وعن الغفران. وإن تنازل الاله وقبل أن يغسل أرجلنا، فكم هو حريص أن يغسل أيضاً قلوبنا!
ايها الإخوة والأخوات،
في سنة الرحمة هذه، لنلتقي مع الله ولنتقرب دون خوف من سرّ التوبة. الله يطرق باب قلوبنا (رؤيا 3، 20). لنتقبل غفران الله ونسير في صومنا حتى القيامة لنصبح بدورنا أدوات هذه الرحمة، “إعملوا ما عملته لكم” (يوحنا 13، 15).
غسل ارجل إخوة لنا هو عمل صعب، ويجسد كافة أعمال الرحمة التي يتعين علينا القيام بها.
غسل الأرجل يعني أن نقبل بالانحناء والتواضع، وان نشفق على اخوة لنا متألمين يعانون من الصعاب والعزلة والوحشة، وهم في أمس الحاجة للعون والمساعدة.
غسل الأرجل هو العزوف عن رؤية الذات ولو لدقيقة للنظر الى الآخر الذي ينتظرني، والذي هو بأمس الحاجة لي.
حب الله والقريب ليس بالأمر السهل. إذ ان الحب الحقيقي له ثمن. لا يوجد حب دون تضحية، دون تقديم الذات “لأن الحب قوي كالموت. والغيرة قاسية كعالم الموت، لهيبها لهيب نار وجمرها مُتقد” (نشيد الأناشيد 8، 6).
أن نحيا حبا حقيقياً يعني ان نقبل ان يُنقي الله ما بداخلنا ونتخلّى عن انساننا القديم: “كل ما يثمر ينقيه ليكثر ثمره” (يوحنا 15، 2-6). اتركوا سيرتكم الأولى بترك الانسان القديم الذي أفسدته الشهوات الخادعة (أفسس 4، 22).
سوف نقوم الآن بغسل أرجل بعض تلاميذ الاكليريكية إعراباً عن رغبتنا أن نتبع تواضع المعلم وتعاليمه. لا نظن أننا اتممنا وصية المحبة حتّى لو كررنا هذا المشهد كل عام، لأننا نبقى بعيدين عن الولاء المطلق لتعليمه، الخاص بالخدمة، والرحمة والتسامح تجاه بعضنا البعض. لنتذكر مئات الآلاف من الفقراء والمرضى واللاجئين الذين ينتظرون لفتة تضامن، وسياسة عادلة وسليمة.
1-القربان الأقدس
الركيزة الثانية لايماننا هو سر القربان الأقدس. وهذا العمل السامي لا يمكن فصله عن العمل الأول، أعني غسل الأرجل. انه فعل محبة لا متناهي، وتواضع ورحمة. في الذبيحة التي نكررها في كل قداس “إلى أن يعود” (1 قور 11، 26). يتضع ربنا السيد المسيح ويسكن فيما بيننا.
كم هو عظيم هذا السر! على مسافة قريبة من هنا، عند الجلاجل، ذُبح جسد يسوع الأقدس، وبذل دمه صفحاً عن خطايانا. هذا الجسد وهذا الدم الذي نتناوله في كل ذبيحة.
ونحن نتواجد في هذه اللحظة في المكان عينه، حيث بذل المسيح حياته من أجلنا.
في كل ذبيحة قداس، يعطى الله جسده ودمه ويطلب منا أن نبذل أنفسنا من أجل الإخوة. حياتنا كلها يجب ان تصبح “تقدمة مقبولة لدى الله” (فيليبي 4، 18).
وفي ختام كل قداس، يدعونا الرب ان نتحول من مائدة الاحتفال الليتورجي الى مائدة الخدمة، في احيائنا ورعايانا ومخيمات اللاجئين والمشردين المنتشرين على وجه الأرض.
في نهاية المطاف، محبتنا هي مقياس الحكم علينا، لنغتنم فرصة يوبيل الرحمة حتى نتوقف عن التفكير بذاتنا لنتوجه لبعضنا البعض ونحمل ضعف ومشاق إخوة لنا. وعلى خطى المعلم، نحن مدعوون كي نبذل أنفسنا حتى النهاية في ممارسة الرحمة مهما كانت التكلفة.
2- الكهنوت
“افعلوا هذا لذكري” (لوقا 22، 19).
ايها الكهنة الأعزاء! عيد سعيد. هذا هو يومكم، هذا هو عيدكم. نفكر بكم ونصلي من أجل جميع الكهنة في الأرض المقدسة.
لا يغيب عن بالكم أنكم مدعوون لتجسيد رحمة الاله، وهو أب محبّ، إله لا ينفك عن تجميع خرافه الضالة، وابنائه الخطأة الضالين.
من خلال الكهنوت رُسمتُم خدام الله وخدام اخوتكم. أنتم مدعوون على مثال المعلم لاطعام الجموع الجائعة للخبز وللسلام والعدالة. (يوحنا 6، 35).
انتم على مثال المسيح، مدعون ان تعالجوا وتضمدوا الجراح الجسدية والروحية من خلال سرّ التوبة. حياتنا كلها يجب أن تجسّد وتتحدث مراراً وتكراراً عن رحمة الله.
عندما رُسمنا كهنة، سلَّمنا المسيح يسوع كل سلطة، وأمرنا ان نكرر ما قام به من تضحية وعطاء.
في هذا اليوم، يجدد فينا يسوع الدعوة قائلاً: “أعطيكم كل سلطان أيها الكهنة تماماً كما أنتم بقدراتكم المحدودة، أعطيكم هذا السلطان، أن تحلوا مكاني، أن تعملوا باسمي، ان تغفروا الخطايا، ان تدينوا وتخلصوا!”.
يا رب، يا لها من مسؤولية تعطينا إياها، نرجوك أن تغسل ليس فقط أرجلنا بل أيضاً رؤوسنا المضطربة، أرواحنا السقيمة وقلوبنا المتحجرة!”.
الختام:
ان أفعال الرحمة الثلاثة: غسل الأرجل، تكريس الخبز والخمر، وتأسيس الكهنوت، لا يمكن لها أن تتجسد الا في محضر الجماعة أي الكنيسة، جمع يؤمن بالعدل والقيامة. دعوتنا نحن الذين خلقنا على صورة الله تعني بذل الذات والشراكة الأخوية تجاه بعضنا البعض.
سنة الرحمة هي سنة الارتداد والتقديس. انها سنة الخدمة، أن ننحني من أجل أن نخدم، أن نطعم، ان نعالج ونسعف اخوة لنا، هذا هو برنامج حياتنا. “عيشوا ما أنتم فاعلون” يقول لنا الأسقف اثناء حفل الرسامة.
المصدر : البطريركية اللاتينية في القدس