البطريرك الرّاعي يقلّد مي شدياق وسام القدّيس غريغوريوس الكبير
وألقى راعي أبرشيّة بيروت للموارنة المطران بولس مطر كلمة بالمناسبة قال فيها: "بِفرحٍ يملأُ القلبَ، واعتزازٍ يُلامِسُ سحرَ الوجودِ، نَجيءُ إليكم اليومَ يا صاحبَ الغبطةِ، ورفيقةُ الدَّربِ مُؤمنةٌ من أبرشيَّتِنَا البَيروتيَّةِ، قدَّمَت للعالَمِ مِثَالاً رائعًا بعشقِ الحرِّيَّةِ وبالرُّوحِ الوطنيَّةِ الصَّادقةِ صِدقِ الدِّماءِ وبالتَّمسُّكِ بالحقِّ المُمتشقِ لأَحلَى سيُوفِ النُّورِ والبَهاءِ. إنَّها الإعلاميَّةُ الدكتورة مي شدياق، المُعلِّمةُ والكاتبةُ الَّتي تَخطَّت حُدُودَ الوطنِ لِتُصبحَ عالميَّةَ القَدرِ والحضورِ، والَّتي تَربَّعت في لُبنانَ على عَرشِ المحبَّةِ لها والاحترامِ، إلى أن صارَت شبهَ أيقونةٍ للوطنِ الجميلِ الَّذي ما بَخلَت عليه بشيءٍ حتَّى لو كلَّفَها الأمرُ حياتَهَا. مَن لا يذكرُ هذا الوجهَ المُنيرَ الَّذي تَعوَّدَ النَّاسُ إطلالَتَهُ على الشَّاشاتِ ورأَوا فيه مَصدرَ عزَّةٍ وكرامةٍ لا يَنضبُ مُعِينُهُ وقوَّةَ صمودٍ في وجهِ الأعاصيرِ مهما كانت رياحُهَا عاتيةً ومهما اشتدَّتْ عليهم وَطأتُهَا والأَنواءُ."
وتابع مطر: "لقد كانت وردةً في عزِّ الوردِ يومَ ضرَبَتْها يَدُ الظُّلمِ. والظّلمُ، كما قِيلَ: «لهُ يدٌ وليس له فؤاد، يُدخلُ خنجرًا من خناجِرِهِ في قلبٍ من قلوبِ النَّاسِ فلا يَستشعرُ لذلكَ أَلَمًا». إنَّها الجريمةُ الكُبرَى والاعتداءُ المُطلَقُ. إرادةُ الموتِ تَتحدَّى إرادةَ الحياةِ، لكنَّ الَّذينَ يَقُومُونَ بمثلِ هذا الفعلِ غيرِ المَوصُوفِ في قامُوسِ الحضارةِ يُحاولُون عَبثًا بِفعلتِهِم أن يُجهِزُوا على النُّورِ بِالعَتمةِ وعلى الحبِّ بِسمُومِ البَغضاءِ دُونَ أن يُدرِكُوا أنَّ الحبَّ قد يُصلَبُ، ولكنَّهُ لا يُغلَبُ. عندما وَقعَت الواقعةُ وانتشرَ خَبرُهَا في أَرجاءِ الوطنِ وإلى آخرِ الأرضِ، أُعطِيَت عنها قراءاتٌ زمنيَّةٌ وبشريَّةٌ جُلَّى. وراحَتْ خيوطُ البطولةِ تَنتسجُ فوقَ رأسِهَا المكلَّلِ منذُ ذلك الحينِ بِنُورِ الشَّهادةِ. وكانت من جِراحِهَا المَفتُوحَةِ تُكملُ القراءةَ الَّتي يبدأُ الحديثُ عنها مع كلِّ زائرٍ لها جديدٍ. فكانت الصُّمودَ كلَّهُ، والذِّراعَ الَّتي لا تُلْوَى والأسطورةَ بينَ أَساطيرِ المجدِ الوطنيِّ الَّتي تَستقرُّ في البالِ إلى أن يَنتهِي الأَبطالُ، إذا انتَهَوا."
وتابع مطر: "لكنِّي شخصيًّا كنتُ أتابعُ مي في رحلتِهَا بينَ الموتِ والقيامةِ، كان لنا بعضُ اليَأْسِ والكثيرُ من الرَّجاءِ المُحيِي الَّذي يضعُهُ الإيمانُ في القلوبِ الخَاشِعَةِ. وقد كانَ الشَّبهُ بينها وبينَ صليبِ يسوعَ في البالِ ولا يُغادرُ. فهي مع المسيحِ مظلُومَةٌ بَينَ المَظلُومينَ، ومع المسيحِ مُسلِّمةٌ أَمرَهَا للآبِ السَّماويِّ، ومع المسيحِ مُصمِّمةٌ على عُبُورِ المحنةِ نَحوَ القيامةِ. وكانت تُردِّدُ في قَلبِهَا، «أنِّي سأعودُ إلى الشَّاشةِ ولن يَأخذُوا منِّي آمالِي وعَزمِي على الحياةِ». وكان حُضُورُ الأَهلِ والأصحابِ مِن حَولِهَا كافيًا حتَّى دُونَ الكلامِ، لأنَّ الفعلَ كان هُو الكلامُ والتَّضامنَ كان خَيرَ تعبيرٍ عن المحبَّةِ.زرتُها في فرنسا أيَّامَ هذا الصُّمودِ العجيبِ ولَمَستُ إِيمانَهَا بالرَّبِّ كمْ كانَ عظيمًا فشكرتُ اللهَ على هذه النِّعمةِ الَّتي سُكبَتْ عليها والَّتي لَولاهَا لَمَا كانَتْ لها القيامةُ. وعندما عادَتْ إِلى ساحةِ الحياةِ وإلى العملِ في سبيلِ لُبنانَ وفي سبيلِ الحقِّ وَرَفعِ المَظالمِ، وعندما كتبَتْ ما كتبَتْ حَولَ اختبارِهَا العظيمِ لِلألمِ وَلِنعمةِ الفِداءِ، راحَتْ تَنهالُ عليها مشاعرُ التَّقديرِ من كلِّ زَوَايَا الأرضِ، دُوَلاً وحكوماتٍ وأفرادًا، لِمَا كانت تُوحِيِهِ من انتصارٍ يَومَ كان الانتصارُ لأمثالِهَا حُلمًا غيرَ قابلٍ للتَّحقيقِ. فقلتُ في نفسي عن ابنةِ الكنيسةِ هذه، تلك الَّتي رَبيَتْ في جِوارِ المطرانيَّةِ في منطقةِ الرميل والَّتي صلَّتْ أمُّها لها كلَّ صلواتِ قَلبِهَا، أنَّها لَجَديرةٌ بتقديرِ الكنيسةِ لها وبالإعرابِ لها عن مَكانةٍ احتلَّتْهَا في قلُوبِ المؤمنينَ على ما يُشبهُ القِمَمَ الوَاصِلةَ بينَ مجدِ الأرضِ ومجدِ السَّماءِ. فطلبتُ لها من الكرسيِّ الرَّسوليِّ وِسَامًا رفيعًا يكونُ علامةَ محبَّةٍ واحترامٍ لهذه الشَّخصيَّةِ المُميَّزةِ في تاريخِ لُبنانَ والَّتي صارَتْ رَمزًا من رُمُوزِ إرادةِ التَّحدِّي فيهِ، وطيرًا من طُيُورِ الفينيق الَّتي إذا مَا هَبَطَت أَرضًا فإنَّها ستعُودُ إلى التَّحليقِ بما يُشبهُ الأعجوبةَ ويَفُوقُ. ولقد لَبَّى الكرسيُّ الرَّسوليُّ أُمنِيَتِي لِمَي فجاءَ مَوقفُ البابا فرنسيس عن حياةِ مَي شدياق وعن كلِّ ما تَعرَّضَتْ لهُ من أَلمٍ وعن تَخطِّيها كلِّ عقباتِ اليَأسِ نَحوَ الرَّجاءِ الشَّافِي، بركةً فَوقَ بركةٍ ونعمةً فَوقَ نعمةٍ. إنَّها شهادةُ السَّماءِ لها بعد أن مُنحَتْ كلَّ شهاداتِ الأرضِ. وإنَّكِ أيَّتُها المُشعَّةُ لأنوارِ المسيحِ المنتصِرِ بِالحبِّ على كلِّ ما عَدَاهُ لَتَستَأهلِينَ كلَّ تقديرٍ وكلَّ محبَّةٍ وكلَّ احترامٍ."
وأضاف مطر: "لقد قرَّرنا معًا يا صاحبَ الغبطةِ أن نَلتمسَ من مَقامِكُم السَّامِي أن تُعلِّقُوا لِمَي هذا الوِسامَ بِيَدِكُم المُباركةِ وبِوَصفِكُم قائدًا لِسفينةِ الكنيسةِ في لُبنانَ وسائرِ المَشرقِ وَمُلهِمًا لكلِّ تضحيةٍ في سبيلِ الوطنِ ولكلِّ عملٍ إنقاذيٍّ من أَجلِهِ. فَنشعرَ بالمجدِ الإلهيِّ ينزلُ مُضاعَفًا على اللَّحظةِ، ونعودَ لِنُطلقَ مع مي شدياق آياتِ الشُّكرِ للآبِ والابنِ والرُّوحِ القدسِ على إِعلانِها رَسميًّا سيِّدةً في عَددِ حامِلِي وِسامَ القدِّيسِ غريغوريوس الكبيرِ. مَبروكٌ لكِ يا مَي هذا التَّقديرُ الباباويُّ الرَّفيعُ. ومبروكٌ لكِ أن يُسلِّمكِ إيَّاهُ صاحبُ الغبطةِ مار بشاره بطرس الكلِّيُّ الطُوبى. فقلُوبُنا معهُ في هذا العطاءِ وفي كلِّ ما يَمنَحُهُ من قلبِهِ الكبيرِ للكنيسةِ والوطنِ ولِمُحبِّي الإنسانيَّةَ والأخوَّةَ والسَّلامَ."
بعدها كانت كلمة لشدياق شكرت فيها البطريرك والحضور معربة عن فرحها بهذا التّكريم ومؤكّدة أنّ نضالها كان "من أجل الله ومن أجل الوطن، فلهذا السّبب تعرّضت لمحاولة اغتيال، وتحدّيت القدر، وها أنا اليوم هنا في صرح القداسة الّذي له أُعطِيَ مجد لبنان".
ولفتت شدياق إلى أنّ عملها الاستثنائيّ الّذي استحقّت لأجله هذا التّقدير كان "إعطاء المثال الأفضل في خدمة المجتمع وإعلاء شأن المرأة والشّهادة لله وللوطن في كلّ الظّروف والأحوال، والمثال الّذي قدّمته للمجتمع كان الالتزام والشّهادة للحقّ، وقالت: "هذه هي الرّسالة المسيحيّة في العالم. رسالة المحبّة وحرّيّة وكرامة الإنسان. وهذا هو لبنان الرّسالة الّتي كرّسها البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني يوم زارنا عام 1997، وكان الزّمن زمن اضطهاد. هذا البابا الرّؤيويّ الممتلئ بالرّوح القدس، كلّمنا بالمحبّة وبالانفتاح وناشدنا أن نُوجِّه أبصارَنا نحو الشّرق ونتكلّم بلسانه كأنّه يقول لنا: هذه رسالتُكم. إنّه قدرُنا ان نَثْبُتَ في هذا الشّرق ونشهدَ للحقّ.
واليوم نحن نحصدُ ثمارَ هذا الزّرع تعزيزًا للحضور المسيحيّ في مختلف الدّولِ العربيّة عبر افتتاحِ الكنائس، وكان آخرَها وضعُ حجر الأساس لأوّل كنيسةٍ مارونيّة في الخليج. سبقتها الزّيارةُ التّاريخيّة الّتي قامَ بها غبطة البطريرك إلى المملكة العربيّة السّعوديّة تلبية لدعوةٍ رسميّة من خادم الحرمين الشّريفين والّتي نتوسّمُ خيرًا بنتائجها."
وشدّدت شدياق على أنّها ستظلّ "صوتًا صارخًا بوجه الظّلمِ والباطل، مشيرة إلى أنّه يوم تعرّضها لمحاولة الاغتيال سمعت صوت مار شربل يدعوها للنّهوض، "فلملمت نفسي وتابعت الطّريق بعزم أكبر. واليوم أيضًا أراد ربّنا من خلال هذه الميداليّة دعوتي لأشهد للحقّ وسأتابع المسيرة مع مار شربل شفيعي الدّائم ومع شفيعي الجديد القدّيس غريغوار الّذي سأستلهم منه روح الإصلاح والخدمة والدّفاع عن المظلومين."
بدوره وبعد تقليدها الوسام البابويّ ألقى البطريرك الرّاعي كلمة هنّأ في خلالها المحتفى بها وقال: "إنّك تستحقّين هذا الوسام. مبروك عليك الوسام الإلهيّ الّذي نجاك بأعجوبة من الموت واليوم وسام قداسة البابا. هذا الوسام أعطي لكلّ الشّعب اللّبنانيّ الأبيّ الصامد الّذي سيواصل مسيرته على الرّغم من كلّ شيء والّذي قيل عنه إنّه شعب لا يريد أن يموت. إنّه وسام لكلّ الشّهداء الّذين رحلوا والّذين لا يزالون أحياء وما أكثرهم اليوم وإنت تمثّلينهم جميعًا. لقد علّمتنا أن نكون دائمًا أكبر من مصيبتنا ومشكلتنا وعلّمتنا ألّا ننهزم أمام الصّعاب ولسان حالك يقول قطعوا يدي ورجلي ولكنهّم لم يقطعوا عقلي وقلبي. كلّنا نعرفك قبل وبعد وأنت اليوم أقوى بكثير وأكثر عطاء. عقلك ولسانك لا يقولان إلّا الحقيقة ولا تزالين صامدة في الحقيقة، وإرادتك مصمّمة دائمًا على الخير وكما يقول القدّيس بولس دائمًا إلى الأمام، أنسى ما ورائي وانبسط إلى ما هو أمامي، لا أتوقّف أمام جروحاتي هذه هي الإرادة الّتي لا تقهر والقلب القادر على العطاء أكثر وأكثر لأنّه يحبّ. هذا هو الإنسان عقل وإرادة وقلب أمّا الباقي فهو مجرّد أكسسوار."
وتابع: "لقد خرجت أقوى بكثير ولسانك لا يقول إلّا الحقّ. لقد اخترت هذا الصّرح البطريركيّ للاحتفال بهذا التّكريم لأنّ لهذا الأمر معاني كبيرة بالنّسبة لك. لقد أحببت بكركي لأنّه المكان الّذي نقول فيه الحقيقة ونحبّ كلّ النّاس. واليوم بالمناسبة هو عيد ميلاد صاحب الغبطة البطريرك صفير الّذي زرعته سيّدة الزّروع يوم عيدها، في 15 أيّار 1920 في أرض ريفون ولكنّه اليوم أصبح في قلب الكنيسة بأكملها ونتمنّى له العمر المديد مع دخوله عامه الـ99. هو الّذي طالما قال "لن أكون الحلقة الّتي تنكسر، فبكركي حلقة لا تنكسر وأنت حلقة لا تنكسر لذلك اخترت أن يكون الاحتفال في بكركي لتقولي للجميع إنّنا لن نكون حلقة تنكسر وعلينا متابعة رسالتنا."
وختم البطريرك الرّاعي لافتًا إلى أنّ "السّبب الثّاني الّذي لأجله أرادت شدياق أن تكرّم في الصّرح البطريركيّ في بكركي هو أنّه قبيل عمليّة اغتيالها وعلى أثر مقابلة تلفزيونيّة أجرتها معي يوم كنت راعيًا لأبرشيّة جبيل المارونيّة وتخلّلها حديث قويّ وحوار صاخب، تلقّت اتّصال تهديد لذلك أرادت أن تقول لي اليوم أنّنا سنتابع على الدّوام، فهذه هي بكركي. لن نتراجع عن قول الحقّ أو عن الشّجاعة فنحن نقول الحقيقة ونحبّ كلّ النّاس."
هذا وكان البطريرك الرّاعي قد استقبل قبل ظهر اليوم كلّ من النّائب المنتخب جان عبيد وسفيرة التّشيلي مارتا شلهوب وقائمقام جبيل نتالي خوري.