البطريرك الرّاعي من أمّ المراحم في مزيارة: الرّحمة هي حاجة جيلنا
"1. في بيت إليصابات أنشدت مريم العذراء "رحمة الله الظاهرة من جيل إلى جيل". وقد رأتها في البشارتَين: بشارة الملاك لها الّذي هنّأها بالنّعمة المعطاة من الله بأن تكون، وهي عذراء، أمّ الإله المتجسّد، يسوع المخلّص شعبه من خطاياهم؛ وإعلامها بأنّ إليصابات العاقر حبلى بابن في شيخوختها، وهي في شهرها الّسادس. وسيكون اسم المولود يوحنّا أيّ "الله رحوم". وكون مريم أمَّ الإله، فقد سمّتها الكنيسة "أمّ الرّحمة" و"كنز الرّحمة". وشاء المرحوم مرسيل الشّاغوري، مؤسّس هذا المزار والمجمَّع الروحيّ والاجتماعيّ أن يخصّصه لتكريم "أمّ المراحم". فكان تدشينه في 6 ايلول 1992 بمباركة المثلَّث الرّحمة المطران أنطون جبير، راعي أبرشيّة طرابلس آنذاك. فإحياءً لذكرى التّأسيس، تعيَّن عيد أمّ المراحم في السّادس من أيلول. وها نحن نحتفل في هذه السّنة باليوبيل الفضّيّ لمرور خمس وعشرين سنة على تأسيسه. وإنّنا نذكره وعائلته في صلاتنا.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بقدّاس العيد، ومعنا نيافة الكاردينال Giuseppe Versaldi، رئيس مجمع التّربية الكاثوليكيّة، الذي شارك صباح اليوم في افتتاح المؤتمر السّنويّ الرّابع والعشرين للمدارس الكاثوليكيّة، بموضوع "الرّاعويّة المدرسيّة: رؤيا ومسارات"، فألقى كلمة توجيهيّة. ثمّ عقد اجتماعًا مع رؤساء الجامعات الكاثوليكيّة. وشاء أن يشارككم معنا في هذا العيد، وفي يوبيله الفضّي.
3. هذا المكان هو الأحبّ على قلوب أبناء مزياره والمنطقة العزيزة وسواهم من اللّبنانيِّين والأجانب. فيزوره سنويًّا حوالى مئة وخمسين ألف مؤمن ومؤمنة، لِما يشمل من مؤسّسات وأماكن عبادة ونشاطات روحيّة وجمالات.
ففيه الكنيسة والمزار، وبيت الرّاحة للمسنّين، وتماثيل ولوحات من الإنجيل، تجسّد محطّات من حياة يسوع ومريم، ومزار سيّدة فاطيما، وحديقة مزيَّنة بمختلف أنواع الزّهور، وقد أنشأ كلّ ذلك من ماله الخاصّ المرحوم مرسيل الشّاغوري، وتواصل عائلتُه، بشخص نجله العزيز رامي، المحافظةَ على هذا المجمّع، وتطويرَه وإنماءه، وفقًا لإرادة المرحوم الواقف.
4. إنّنا نحيّي أفراد هذه العائلة، شاكرين إيّاهم على الاعتناء بالإدارة، وتأمين الدّعم الماليّ. ونحيّي سيادة أخينا المطران جورج بو جوده، راعي الأبرشيّة، السّاهر على تعزيز الحياة الرّوحيّة فيه، وكاهن المزار الخوري جان صعب الّذي يؤمّن النّشاطات اللّيتورجيّة والرّوحيّة المتنوّعة الّتي توفّر لوفود المؤمنين إمكانيّة الاستفادة منها، فيعودوا إلى بيوتهم حاملين ثمار زيارتهم التّقوية.
ونحيِّي راهبات القربان الأقدس المرسلات مقدِّرين خدمتَهنّ في المزار وبيت الرّاحة والتّنشيط الرّوحيّ. ونثني على عمل الأطبّاء والممرّضين والممرّضات، وسائر الموظّفين في مختلف قطاعات هذا المجمّع.
5. إنّ رحمة الله، في نشيد مريم العذراء، هي عمل الله الخلاصيّ الّذي حرَّر به الإنسان من الخطيئة والموت، وصالحه بموت المسيح وقيامته، وأشركه في سرّ الحياة والخلاص بالرّوح القدس. إنّنا بحاجة دائمة إلى الرّحمة الإلهيّة، لأنّها باب خلاصنا في كلّ ظرف من ظروف حياتنا. ورحمة الله هي عطاياه الّتي يغدقها علينا وعلى عائلاتنا ووطننا. جميلٌ أن نقرّ وندرك أنّ ما نملك، كبيرًا كان أم صغيرًا، هو من جودة الله!
6. الرّحمة في الكتاب المقدّس تتَّصف ببُعدَين: الأوّل هو أنّ رحمة الله تنبع من مشاعر قلبه الحنون المحبّ المتفاني. واللّفظة المعبِّرة بالعبريّة هي"رحاميم" المشتقّة من "رحم" الأمّ، للدَّلالة أنّ رحمة الله تنبع من أحشاء أبوّته وحبّه لنا ولكلّ إنسان. والبعد الثّاني هو أن الله أمين لذاته، فيظلّ رحومًا مهما كثرت خطايا الإنسان وإهاناته له ومخالفاته لوصاياه. اللّفظة العبريّة في الكتاب المقدّس لهذا المفهوم هي "حِسِدْ".
تدعونا أمّنا مريم العذراء، أمّ المراحم، لنلجأ بالتّوبة وارتداد القلب إلى رحمة الله، كي ننعم بالغفران والمصالحة والسّعادة والخير.
7. الرّحمة هي حاجة جيلنا. يدعونا الله "لنكون رحماء كما هو رحيم" (لو 6: 63). لا يمكن، من دون الرّحمة، أن يتعايش النّاس، لا في العائلة ولا في المجتمع؛ لا في الكنيسة ولا في الدّولة. فالرّحمة شعور إنسانيّ صادر من القلب، ولذلك ترحم ولا تظلم، تتفهّم ولا تنازع، تصبر ولا تيأس، تحاور ولا ترفض، تطوي الصّفحة وتسير إلى الأمام ولا تتحجّر، تسالم ولا تحارب، تخدم ولا تتأفّف.
الرّحمة حاجة الأزواج، كي يحافظوا على عهد الحبّ الّذي قطعوه أمام الله والنّاس. فلا يلجأوا إلى المحاكم عند أوّل صعوبة. الرّحمة حاجة الحكّام عندنا، كي يرأفوا بالشّعب الّذي أُوكل إليهم رعاية شؤونه وشؤون الدّولة. فلا يستغلّوا سلطتهم لمصالحهم ومكاسبهم غير المشروعة، ولا يستسلموا للفساد. فمن حقّ الشّعب أن ينعم من خدمات المال العام ليعيش حياة كريمة، ويؤمّن لعائلاته حاجات القوت والتّعليم والطّبابة وفرص العمل. والرّحمة حاجة حكّام الدّول، كي يوقفوا الحروب، ويحلّوا السّلام ويعيدوا اللّاجئين والنّازحين إلى أوطانهم وممتلكاتهم بحكم حقّ المواطنة، وحفاظًا على تراثهم وثقافتهم الوطنيّة وحضارتهم.
8. إلى أمّ المراحم نرفع صلاتنا، كي تملأ قلوبنا رحمةً، فيستعيد كلّ إنسان إنسانيّته، وصورة الله "الغنيّ بالرّحمة" فيه، وقد خلقه الله على صورته ومثاله. نحن على صورة الله بمقدار ما نكون رحومين. فنؤهّل لنرفع من قلوب رحومة نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".