البطريرك الرّاعي: "لا شفاء إلاّ بالتّوبة إلى الله"
"شفى الرّبّ يسوع نفسَ المشلول أوّلاً من خطاياه الّتي شلّته روحيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، ثمّ شفاه من شلله الجسديّ ليبيّن سلطانه على مغفرة الخطايا. أمّا الأساس اللّاهوتيّ في هذا الحدث فهو أنّ الخطيئة سبب كلّ شلل في الجسد والأخلاق والعلاقات. وحده الله قادر على الشّفاء من هذا الشّلل المزدوج. في الواقع، عندما دلّوا السّرير والمخلّع عليه، ورأى يسوع إيمانهم قال للمخلّع: " يا بنيّ! مغفورة لك خطاياك... قم إحمل سريرك واذهب إلى بيتك، فقام للحال ومشى تحت نظر الجميع" (مر2: 5 و 11 و 12).
يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الذّبيحة الإلهيّة، ونحن نقترب من عيد الفصح. فنأمل أن يشفينا الرّبّ يسوع من شللنا الرّوحيّ بواسطة سرّ التّوبة، المؤتمن عليه الكاهن بسلطان إلهيّ، فنتمكّن من حسن السّير الرّوحيّ نحو السّرّ الفصحيّ، والعبور إلى حياة جديدة مع المسيح الّذي مات فدًى عن خطايانا وقام لتقديسنا (روم 25:4).
وفيما أرحّب بكم جميعًا، يطيب لي أن أحيّي بنوع خاصّ بيننا السّيّد Charles de Meyer رئيس مؤسّسة SOS لمسيحيّي الشّرق، مع رئيس بعثتها في لبنان السّيّد François-Marie Boudet، والصّحافيّ Laurent Dandrieu. ونحيّي أيضًا عائلة المرحوم الياس يوسف عساكر الّذي ودّعناه منذ شهرين مع زوجته وأولاده ومن بينهم عزيزنا سمير رئيس بلديّة المجدل (العاقورة) وسائر الأنسباء؛ وعائلة المرحومة وداد الخوري أرملة الخوري فيليب زخّور، وقد ودّعناها مع أولادها والأنسباء منذ ثلاثة أسابيع. فنحيّي أولادها وكلّهم مجلّون في مختلف القطاعات ومعروفون في المجتمع. وفيما نجدّد التّعازي لهم جميعًا نصلّي في هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفسيهما، وعزاء أسرتيهما.
يعلّمنا الرّبّ يسوع في آية شفاء المخلّع أنّ الإنسان كائن جسديّ وروحيّ معًا، وخُلق أصلاً في حالة البرارة. لكنّ الخطيئة شوّهت علاقته مع الله والذّات والآخرين، وسبّبت له الأمراض والموت. ولهذا السّبب شفى يسوع المخلّع من شلل نفسه كأساس، ثمّ من شلل جسده كنتيجة. ذلك أنّ النّفس، عندما تُشفى وتتقدّس، يتقدّس بها الجسد كلّه بأمراضه وعاهاته، إذ تتّخذ قيمة فداء وخلاص، وبواسطتها تتواصل آلام الفادي الإلهيّ، كما كتب بولس الرّسول: "إنّي اتمّ في جسدي ما نقص من ألام المسيح من أجل الكنيسة"(راجع غلا 17:6) وهكذا وعاشت القدّيسة رفقا، والقدّيسة تريز الطّفل يسوع. ويعلّمنا الحدث أيضًا أنّ الرّبّ يسوع، فادي الإنسان، يستطيع وحده، وهو الإله، أن يشفي من الشّللين. أجل، عنه تنبّأ أشعيا فكتب: "يأتي زمن يغفر فيه الرّبّ كلّ خطيئة ويشفي كلّ مرض" (أش 24:33). وربّنا نفسه قال بلسان موسى: "أنا الرّبّ الذي هو طبيبك" (خروج 16:15).
عندما تكثر الخطايا الشّخصيّة، ولا أحد يتوب عن خطاياه، تتراكم هذه الخطايا في المجتمع وتتّسع لتشمل الكثيرين، فتصبح عيشًا في "هيكليّة خطيئة" كما يسمّيها القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني. أليس هذا واقعنا في لبنان، عندما نرى تدنّي القيم الأخلاقيّة والفضائل المسيحيّة والدّينيّة؟ وعندما نسمع المسؤولين من وزراء ونوّاب يتشكّون من الفساد المتفشّي في الوزارات والإدارات العامّة؟ وعندما نشهد كيف يُسرق المال العام، ويُهدر، ويُسلب، بشتّى الطّرق؟ وعندما نرى شبيبتنا متهافتة على المخدّرات بسبب عدم السّهر الكافي من الوالدين والسّلطات المدنيّة، وبسبب دعم المروّجين والتّجّار، على الرّغم من نشاطات الأجهزة المعنيّة مشكورة؟
فلا بدّ من أفعال توبة من قبل الجميع، إذ لا شفاء إلاّ بالتّوبة إلى الله. فكما أنّنا نعيش في "هيكليّة خطيئة"، يجب أن نخرج منها والوصول إلى "هيكليّة توبة" تجدّد كلّ شيء، مثلما تَجدّد مخلّع كفرناحوم روحًا وجسدًا بنعمة المسيح الإله.
عندما نقول خطيئة، نفهم للحال خطيئة ضدّ الله، وهي كذلك. ولكنّها أيضًا خطيئة ضدّ الإنسان والمجتمع. فتتّخذ هذه الخطيئة الشّخصيّة إسم "خطيئة اجتماعيّة" بمعنى أنّها تؤثّر على جميع النّاس. فكما أنّ "كلّ نفس ترتفع، ترفع معها العالم"، كذلك "كلّ نفس تنحدر بالخطيئة تُحدر معها الكنيسة والمجتمع" (يوحنّا بولس الثّاني: الإرشاد الرّسوليّ بشأن المصالحة والتّوبة في رسالة الكنيسة اليوم، 16). وهي خطيئة اجتماعيّة عندما تكون إساءةً أو تعدّيًا بشكل مباشر على الآخر مثل التّصدّي للحياة ذاتها كالقتل والإجهاض والإنتحار؛ وانتهاك حصانة الإنسان كالتّعذيب الجسديّ والمعنويّ والنّفسيّ، وإهانة كرامته وشرفه كسلب الصّيت والدّعارة والاتجار بالنّساء والأطفال والتّحرّش بالصّغار، والاعتقال الاعتباطيّ. وهي خطيئة اجتماعيّة عندما تُنتهَك العدالة، وتُمسّ حقوق الإنسان الأساسيّة ولاسيّما الحقّ في الحياة المكتفية والسّكن والعمل وإنشاء عائلة. وهي خطيئة اجتماعيّة عندما لا يؤمَّن الخير العام ومتطلّباته على مستوى السّلطات التّشريعيّة والإجرائيّة والإداريّة، ويُهمَل السّعي للنّهوض بإقتصاد البلاد من أجل تأمين استقراره ونموّه والعيش الكريم للشّعب (الإرشاد الرّسوليّ: بشأن المصالحة والتّوبة، 16).
فكما أنّ الخطيئة الشّخصيّة ضدّ الله هي في الوقت عينه خطيئة اجتماعيّة ضد الإنسان والمجتمع، بحسب المبدأ القائل: "سلام مع الله، سلام مع الخليقة كلّها"، بات من الواجب أن تكون التّوبة الشّخصيّة إلى الله توبة اجتماعيّة إلى الإنسان والمجتمع والدّولة، وبالتّالي مصالحة مع العمل السّياسيّ كفنٍّ نبيل لخدمة الخير العام، ومع الدّولة ومؤسّساتها ومع مالها العامّ، ومع الشّعب اللّبنانيّ ومع واجب النّهوض الاقتصاديّ والماليّ.
يجب على المسؤولين في الحكومة والمجلس النّيابيّ وضع الإصبع على الجرح بشكل فعليّ لا كلاميّ. فمن غير المقبول إطلاقًا التّمادي في عدم البدء بالإصلاحات الّتي يطالب بها المجتمع الدّوليّ الحريص على لبنان أكثر من السّلطات السّياسيّة فيه، الغارقة بكلّ أسف، في نزاعاتها حول مصالحها وحساباتها وأرباحها. من غير المقبول عدم بتّ قضيّة الكهرباء وإيقاف الهدر الماليّ اليوميّ على كهرباء من دون كهرباء. من غير المقبول التّلكّؤ عن القرار الشّجاع في إعادة النّظر في القوانين الخاصّة بأجور موظّفين ومتقاعدين وخدمات تثقل الخزينة وتميل بها إلى الإفلاس. من غير المقبول عدم إنجاز موازنة 2019 وضبط نفقات الوزارات... هذه كلّها خطايا ضد الشّعب والدّولة.
لقد وصلت البلاد إلى شفير الهاوية الاقتصاديّة والماليّة، فيجب على السّياسيّين والمؤسّسات العامّة والشّعب اللّبنانيّ بأسره، وعلى كلّ واحد وواحدة منّا، العيش في حالة تقشّف منظَّم تستفيد منه خزينة الدّولة. هل عندنا مسّؤولون جريئون على اتّخاذ الخطوة اللّازمة في هذا الإطار؟ نأمل ذلك ونصلّي. إنّ مخلّع كفرناحوم هو اليوم لبنان بكيانه وشعبه ومؤسّساته. والرّجال الأربعة هم المسّؤولون في الدّولة أوّلاً وفي الكنيسة والمجتمع كمعاونين. نصلّي إلى الله كي يولّد كلامه فينا الإيمان الّذي تولَّد عند أولئك الرّجال الّذين لمّا سمعوا الكلمة، ذهبوا للحال وحملوا ذاك الكسيح إلى أمام يسوع. فلمّا رأى إيمانهم شفاه نفسًا بمغفرة خطاياه، وجسدًا بشفائه من الشّلل. للثّالوث القدّوس الرّحوم، الآب والأبن والرّوح القدس، كلّ مجدٍ وتسبيح وشكر الآن وإلى الأبد، آمين".