البطريرك الرّاعي في التّنشئة المسيحيّة: الإيمان أساس شفائنا
"الصّوم الكبير هو زمن الشّفاء الرّوحيّ من خطايانا، بل من حالة الخطيئة. نجد رمزها في المرأة الّتي تعاني من نزيف دم منذ اثنتَي عشرة سنة. هذا النّزيف يرمز إلى نزيف القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة الّتي يصاب بها الإنسان عندما يعيش في حالة الخطيئة الدّائمة، من دون توبة ومصالحة مع الله والذّات والكنيسة، جماعة المؤمنين. في مناسبة شفاء المرأة النّازفة، أقام يسوع من الموت ابنة يائيروس للدّلالة على أنّه قادر أن يقيم الإنسان من موت الخطيئة ولو قضت على جميع آمال النّهوض والإصلاح".
وبعد قراءة الإنجيل، شرح البطريرك الرّاعي النّصّ متأمّلاً:
1. يسوع في بيت بطرس في كفرناحوم. الجميع ينتظرونه وقد استقبلوه (الآية 40). هذا الواقع يذكّرنا بيوم الأحد "بيت بطرس" حيث يقيم يسوع هو اليوم "كنيسة الرّعيّة"، فيها جماعة المؤمنين تنتظر الرّبّ يسوع وتستقبله بالأناشيد والصّلاة الفرديّة والجماعيّة. هو هنا حاضر على رأس الجماعة المصلّية: "حيث اثنان يلتقيان باسمي للصّلاة أكون أنا الثّالث فيما بينهما" (متّى 18: 20)؛ وحاضر في كلمته الإنجيليّة؛ وحاضر في ذبيحة الفداء، وفي وليمة جسده ودمه.
إليه أتى يائيروس رئيس المجمع وارتمى على قدميه يطلب الشّفاء لابنته وحيدته المريضة والمشرفة على الموت. وسط الجماعة أتى، متّكلاً على وساطتها وتشفّعها والتّوصية به. إيمانه بيسوع، ويقينه أنّه قادر على شفاء ابنته قاداه إلى يسوع. بهاتين الفضيلتين نقارب يسوع. عندما تسقط جميع الآمال البشريّة يبقى الرّجاء بالمسيح هو الأثبت. "ارتمى على قدميه" هذه هي صلاة الجسد نعبّر عنها بالسّجود للرّبّ. فالصّلاة هي في آن صلاة العقل والقلب نعبّر عنها بالكلمات والتّأمّل الدّاخليّ، وصلاة الجسد نعبّر عنها بالسّجود على ركبة أو على ركبتين وبالانحناء.
2. يسوع يستجيب للحال لطلب يائيروس ويسير على الفور معه نحو بيته (راجع الفقرة). ضحّى الرّبّ براحته بعد عناء السّفر. إنّ عمل الخير لإنسان في حاجة هو الأهمّ. إنّه يعلّمنا بذلك فضيلة الجهوزيّة للخدمة، وفضيلة التّضحية في سبيل الغير. هو الخروج من الأنانيّة والرّاحة الشّخصيّة، عندما يقتضي الواجب القيام بخدمة ما، لأنّ فيها إسعاد الإنسان.
الخير يستجلب الخير. في الواقع، فيما هو ذاهب مع يائيروس إلى بيته، والجموع المرافقة لرؤية ما سيفعل، "اذا بامرأة مصابة بنزيف دمّ منذ اثنتي عشرة سنة"، لم يقدر أحد أن يشفيها، تنسلّ بين الجمع، وفي نفسها شعلة إيمان بأنّها إذا استطاعت أن تلمس ولو طرف ردائه، تشفى. وهكذا حصل (راجع الآية 42-43).
3. امرأة حالتها عصيّة على قدرة البشر، بالرّغم من كلّ المحاولات على مدى اثنتي عشرة سنة. خلاص البشر من المسيح وحده. فمعه لا يأس ولا إحباط ولا قنوط. العودة إليه سهلة أيًّا تكن طرقها ووسائلها وظروفها. يائيروس جاء يتوسّل إليه جاثيًا على قدميه. المرأة النّازفة أتته بإيمانها الصّامت إنّما النّاطق في لمس طرف ردائه. المهمّ هو اللّقاء بالمسيح، أمّا الطّريقة والوسيلة فشكليّتان. يجب التّمييز بين الجوهر والشّكل. الله يعنيه الجوهر وهو قلب الإنسان: "يا بني أعطني قلبك" (أم 23: 26). جاءته بقلبها المؤمن المتألّم الصّارخ بصمت إلى الرّحمة الإلهيّة المتجلّية في يسوع. بلمسها طرف ردائه والجماهير تزحمه من كلّ جانب، قرأ يسوع مكنونات قلبها. فنالت مبتغاها من دون حوار. "عندما لمست طرف ردائه، توقّف للحال نزيف دمها" (الآية 44).
4. لماذا فعلت هكذا تلك المرأة إذ جاءت من وراء يسوع ولمست طرف ردائه؟
قامت بفعل إيمان جريء وشجاع. فالمرأة النّازفة، بحسب الشّريعة اليهوديّة، هي امرأة نجسة؛ بل تنجّس كلّ من يحتكّ بها، إذ قد يصيبه شيء من دمها النّازف. لذلك، كان محرّم عليها أن تدخل وسط الجماعة؛ لئلّا تنجّسها. وإن فعلت، كان على الجميع الابتعاد فورًا عنها وانتهارها على تصرّفها المخالف للشّريعة، وتوجيه الإهانة لها وتعييرها باللّعنة الّتي أصابتها: "لو لم تكوني امرأةً سيّئةً لما أصابك هذا النّزف. ولو كنت تبت عن أفعالك السّيّئة لكان النّزف توقّف". لم تدع هذه المرأة الخوف يغلبها. استفادت طبعًا من الزّحام. اعتقدت أنّ أحدًا لن ينتبه إليها من بين هذه الجموع الغفيرة. تسلّحت بشجاعة نبتت من عمق ألمها ورغبتها في الحياة وقرّرت أن تخاطر، بكلّ شيء: فإمّا حياة كاملة وإمّا موت يكتمل، بدل نزف بطيء ومؤلم. يرينا الإنجيل مرّات عديدة كم يمتدح الرّبّ يسوع شجاعة النّاس وإصرارهم على الحياة. لم يردّ يومًا واحدًا منهم خائبًا.
أتت من الوراء ولمست طرف ردائه. خافت أن ينظرها أحد أو يحسّ بوجودها، فتكون النّهاية المحتومة. الرّداء هو من قماش أبيض، رمز للطّهارة. وعلى أطرافه الأربعة أهداب طويلة ترمز إلى شريعة الرّبّ الّتي يلتزم بها المؤمن، وهي بدورها تحميه من الشّرّ. مسّت تلك المرأة طرف الرّداء فشفيت. ليس لأنّ الرّبّ غير قادر هو على شفائها، أو لأنّه لا يريد أن يشفيها. إنّما يغتنم يسوع هذه الفرصة ليعطي العالم النّازف درسًا منقذًا، ليدّله على ما ينقصه، يدلّه على "الطّريق". إنّه الكتاب المقدّس المرموز إليه في أهداب ثوبه. يسوع بكلّ قوّته الشّافية حاضر فيه، ونحن بنور كلمة الله نهتدي يومًا فيومًا إلى منابع الحياة الأبديّة.
كلّنا اليوم مدعوّون إلى التّمسّك بالكتاب المقدّس على أنّه "حياتنا". ليس مجرّد كتاب روحيّ ولا كتاب صلاة. بل هو حياة وهبنا إيّاها الرّبّ بروحه القدّوس. منابع حياتنا هي كلمة الله والأسرار، ونجد الاثنين في الاحتفال الإفخارستيّ. زمن الصّوم هو الزّمن المميّز للدّخول أكثر فأكثر في رحاب الكتاب المقدّس، إن من خلال الرّياضات الّتي تقام في الرّعايا أم من خلال السّهرات الإنجيليّة، أم بواسطة دورات التّنشئة وسواها.
"فجأة توقّف نزف دمها" (الآية 44). إنّ كرَم الله ورحمته وإرادته الخلاصيّة لا حدود لها. وكذلك قدرته الّتي تجعل كلّ شيء جديدًا، تخلق من جديد. إنّنا نصلّي مع صاحب المزمور: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرّبّ" (مز 34: 8).
5. لكنّ يسوع أراد أن يعلن إيمانها أمام الجموع ويمتدحه. لأنّه تأثّر جدًّا به. وأراده نموذجًا لإيمان القلب الصّامت الّذي ينير العقل والإرادة في ما يجب قوله وفعله وطريقة التّصرّف والمبادرات.
فوجّه سؤالاً خافت منه المرأة وارتعدت: "مَن لمسني"، فأنكر الجميع وبرّر سمعان بطرس ذلك بكثرة الجمع الّذي يزحمه من كلّ جانب. أمّا يسوع فقال مؤكّدًا: "إنّ واحدًا لمسني، لأنّ قوّة خرجت منّي" (الآية 46).
"واحدًا" ليس كالباقين. يسوع لا يُؤخذ بالجموع، بالأعداد. لا يتعاطى معنا كأعداد. بل لكلّ فرد منّا قيمته عند الله. من بين كلّ اللّمسات، وحدها لمسة تلك المرأة جعلت يسوع يقف. أنا أيضًا يشعر بي الرّبّ ويراني في كلّ لحظة. وكلّما تقدّمت إليه بصدق، يقف. لسنا بحاجة إلى لفت نظره إلينا. فهو يرانا وكأنّنا وحدنا على وجه الأرض. الله يعامل كلّ واحد منّا وكأنّه ابنه الوحيد.
نحن نتعامل في صلاتنا مع يسوع وكأنّنا نريد إقناعه بأن يلتفت إلينا، نشدّد عليه بالقول: "دخيلك يا ربّ اطلّع فيّي". ونكرّر هذه العبارة مرارًا ونغيّرها بمثيلاتها. طبعًا الإلحاح في الصّلاة طلبه يسوع نفسه منّا. ولكن الإلحاح لا يفيد إن لم يكن بالأساس "صلاةً". والنّصّ يعلّمنا هنا أنّ الصّلاة هي قلب واثق وشجاع. المهمّ أن تكون كلماتنا نابعة من قلب مؤمن ومحبّ لله وواثق به. حينها تتحوّل تلك الكلمات، مهما كانت، إلى صلاة تجعل الرّبّ يقف. صلاة هذه المرأة كانت مجرّد لمسة، تحمل كلّ المعاني المطلوبة؛ فأوقفت الرّبّ. لذلك،عليَّ أنا أيضًا، قبل أن أسأل الرّبّ عن موقفه من صلاتي، أن أسأل نفسي عمّا في قلبي بالحقيقة. الأمر متعلّق بي أنا. الآن يمكننا أن نفهم تمامًا أنّ الرّبّ لا يردّ الصّلاة الصّادقة. هذه حقيقة ثابتة؛ وكم من كلام يراد به أن يكون صلاةً، إلاّ أنّه ليس كذلك.
هذه المرأة لم تقل شيئًا، لم تطلب شيئًا من يسوع، بل لمست فقط طرف ثوبه. هي تريد الرّبّ وتسعى لأن تتقرّب منه. وهو يعرف حاجتها ويفعل ما يلزم. حصلت على كلّ ما كانت تحتاجه، بل أكثر، حصلت على أن يكون اسمها مكتوبًا في سفر الحياة في الملكوت. وحصلت على أن تكون شخصًا يُذكر مدى الدهور من قبل كلّ المؤمنين. ونحن أيضًا، لندع الربّ يفعل بنا ما يريده هو. لا تحدّوا من رحمة الله في أمور صغيرة تبحثون عنها. دعونا ننفتح على الله وعلى قدرته اللّامحدودة وعلى مشروعه الّذي هو أرحب من توقّعاتنا وانتظاراتنا. لنقترب منه هو، تاركين له أن يفعل هو ما يريد: "ربّي أنا ورقة بيضاء، أكتب عليها كلّ ما تشاء".
6. وإذ أدركت أنّ فعلتها لم تخفَ عليه، ارتمت على قدمَيه، وأعلنت جهارًا أمام الشّعب كلّه، لماذا لمسته، وكيف شفيت للحال (الآية 47).
بما أنّ أمرها لم يخفَ عليه، لم يعد هناك من مجال للإنكار. أتت لتعترف، وهي تعتقد أنّها تعترف أمام القاضي الديّان. وتتمنّى أن يرحمها وأن يغفر لها سرقتها للشّفاء. ولكنّ الحقيقة أنّ يسوع يستفيد من بطولة هذه الضّعيفة فيجعلها فورًا مبشّرةً باسمه. أعلنت أمام الجمع قدرة الله العظيمة.
ونحن أيضًا علينا أن لا نملّ ليل نهار عن شكر الله على إحساناته، لا لأنّه يريدنا أن نشكره، بل لأنّ ذلك هو بشارتنا الأساسيّة أمام النّاس. نشجّعهم من خلالها أن يأتوا هم أيضًا إلى خلاصهم المعدّ لهم منذ إنشاء العالم. علينا أن لا نستحي بإيماننا، بل ندرك أنّ كلّ واحد وواحدة منّا رسول في مجتمعه ليشهد أمام النّاس عن الخلاص الّذي ناله من الرّبّ يسوع.
أعلن يسوع عظمة إيمانها الّذي أراده نموذجًا للجمع كلّه، وهو الّذي سبّب نعمة شفائها، وأعلن أن سلامه سكن قلبها، إلى جانب شفائها من نزيف دمها (راجع الآية 46). بفعلتها أدّت أكبر شهادة لعظمة الإيمان بالمسيح، فكانت هي رسولة هذه الحقيقة من جيل إلى جيل، عبر الإنجيل، حتّى نهاية الأزمنة.
7. لم يقل الإنجيل شيئًا عن واقع حال يائيروس المضطرب لجهة مصير ابنته، فيما الرّبّ يتباطأ ويضيّع الوقت مع حادثة المرأة النّازفة، وتوقعه وحواره مع الجمع ثمّ معها. فأتى المرسال بأنّ الابنة ماتت، ولا مجال لإزعاج المعلّم (الآية 49). شعر يسوع بصدمة الوالد وألمه. فسارع وبادره بالقول: "لا تخف! يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك" (الآية 50). آمن يائيروس ولم يفُه بكلمة. إنّه أمثولة لنا، فنحن غالبًا ما ننظر إلى كلّ أمر لا يحصل "حسب رغبتنا" على أنّه "خسارة". أمّا حسابات الله فمختلفة. ما نراه نحن أسودًا قد يراه الله أبيضًا، لا بل فرصةً فريدةً للخلاص. لذلك، علينا أن نثق بالله وأن نسلّمه حياتنا وأن نقبل منه كلّ شيّء، حتّى ما نراه نحن سيئًا، لا لأنّنا نقبل السّيّئ، بل لأنّنا نُدرك أنّ الله قادر على تحويل كلّ شيء لخيرنا، تمامًا كما حوّل الصّليب، وهو قمّة الأمور السّيّئة، إلى اداة فداء وخلاص.
"لا تزعج المعلّم"، قد تُظهر هذه العبارة كثيرًا من الاحترام. إلاّ أنّ فيها الكثير من نقص في الإيمان. يرى هذا الرّسول في يسوع مجرّد شافي الأمراض. صيدليّة متنقّلة. وكان للنّازفة حظّ أن تجد دواءها عنده. أمّا الصّبيّة فماتت، وانتهى الأمر. هذا مثال عن التّعلّق الأرضيّ بيسوع. هذا ليس بإيمان. إن فحصنا ضميرنا قليلاً لوجدنا أنّنا نشبه هذا الرّجل. تقف حدود صلواتنا عند حدود هذا العالم المادّيّ. أمّا الملكوت، فنتركه إلى حينه.
8. لم يخف يائيروس لأنّه رأى بأمّ العين شفاء النّازفة، ولأنّ بسبب ابنته شفيت، إذ التقت يسوع في طريقه إلى بيته. فاطمأنّ ولم يطلب من يسوع عدم متابعة السّير إلى البيت كما شاء الرّسول الّذي حمل له خبر وفاة ابنته، وقالوا: "لا تزعج المعلّم". كان على يقين من أنّ يسوع سيقيمها من الموت فكلمته بدّدت حزنه ومخاوفه ومسحت دموعه، إذ تردّد في صدى نفسه كلام الربّ: "يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك" (الآية 50). وأدرك أن يسوع الّذي شفى النّازفة بقوّة إيمانها، سيقيم ابنته من الموت بقوّة إيمانه. أمثولة رائعة في الإيمان الّذي يدعونا لنصدّق كلام الله. فهو يفعل ما يعني. نحن نعاني من المسافة الفاصلة بين القول والعمل، أمّا الله فما يقوله يفعله، لأنّه بكلمته خلق وصنع كلّ شيء.
9. لقد حصل ما كان يتوقّعه إيمان يائيروس. دخل يسوع إلى بيته وطمأن الباكين أنّ "الصّبيّة لم تمتْ بل هي نائمة" (الآية 52). فمع المسيح لم يعد الموت موتًا، بل صار نومًا واستراحة للأبرار. لقد كسر شوكة الموت.
"أمسك يسوع الصّبيّة بيدها، وناداها: يا صبيّة قومي. فعادت روحُها إليها، وفجأة نهضت" (الآيتان 54-55).
هنا ظهرت عاطفة يسوع المُحبّ، إذ "أمسك بيدها" وظهرت قوّته المبطلة للموت إذ "ناداها قائلاً "قومي". هكذا سيفعل عندما أقام لعازر من الموت. إنّه بهذه الآية استبق سرّ قيامته لحياة البشريّة جمعاء. هكذا يفعل عندما ينادينا في سرّ التوبة، من خلال خدمة الكاهن، لنقوم من موت خطايانا، وعاداتنا السّيّئة وأميالنا المنحرفة. الصّوم الكبير هو زمن القيامة من موت عتيقنا.
ثانيًا، الإرشاد الرّسوليّ فرح الحبّ
نواصل نقل مواصفات الحبّ الزّوجيّ، في ضوء نشيد المحبّة للقدّيس بولس الرّسول (راجع 1 كور 13: 4-7)، كما يكتب عنها قداسة البابا فرنسيس في الفصل الرّابع من هذا الإرشاد الرّسوليّ.
الصّفة السّادسة: "التّجرّد من الذّات" (اافقرتان 101-102).
الحبّ الحقيقيّ لا يسعى إلى منفعته الشّخصيّة، بل إلى منفعة الآخرين، ومن دون مقابل. لنا في الأمّ أجمل صورة عن هذا الحبّ. إنّه يتجاوز العدالة بحيث أنّ الّذي يحبّ ويخدم ويبذل من الذّات لا ينتظر مكافأة. أمّا المثال بامتياز فهو الرّبّ يسوع الّذي قال وفعل: "ما من حبٍّ أعظم من هذا، هو أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه" (يو13: 15).
عندما نقول إنّ الحبّ "لا يبحث عن منفعته" يعني أنّه ليس أنانيًّا. لقد أوصى بولس الرّسول: "لا يبحثنّ كلّ واحد عن منفعته، بل فليفكّر بمنفعة الآخرين" (فيل 2: 4). الكتب المقدّسة تدعو إلى عدم إعطاء الأولويّة لمحبّة الذّات، لأنّه من الأشرف هبة الذّات للآخرين.
يضيف القدّيس توما الأكوينيّ أنّ الحبّ يجد ذاته أو منفعته في أن يُحبّ لا أن يُحَبّ. ولذا، صفته الأساسيّة هي المجانيّة "وعدم انتظار شيء بالمقابل" (لو 6: 35)، حتّى بلوغ ذروة الحبّ "في هبة الذّات من أجل الآخرين" (يو 15: 13). هذا الحبّ ممكن، انطلاقًا من كلمة الرّبّ يسوع: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا" (متى 10: 8)".
رفع البطريرك الرّاعي في الختام الصّلاة إلى الرّبّ يسوع قائلاً: "لقد كشفتَ لنا في آيتَيّ شفاء المرأة النّازفة وإقامة الصّبيّة من الموت، أنّ الإيمان بك هو السّبب والأساس. نسألك أن تذكي فينا فضيلة الإيمان الثّابت والصّامد، الّذي لا يخاف بوجه المصاعب والمحن، والّذي ينمّي الثّقة بعناية الله وبإتمام إرادته عندما يشاء وكيفما يشاء. إزرعْ في قلوب الأزواج، وجميع النّاس، الحبّ المتجرّد من الذّات الّذي يجد سعادته في أن يحبّ من دون مقابل، وفي أن يُسعد الآخر. وإنّا نشكرك، أيّها الرّبّ يسوع على محبّتك الّتي بلغت ذروتها في تقديم ذاتك ذبيحة فداء عنّا. وإليك نرفع المجد والتّسبيح، وإلى أبيك المبارك وروحك القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين".