البطريرك الرّاعي في افتتاح اجتماع المدارس: من أجل توحيد الموقف لبناء خير المجتمع
"قدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات،
اتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة، إلهيئة التّنفيذيّة للأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة،
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
1 - يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، ونحن نجتمع من بعد أن أحدث صدور القانون46/2017، بتاريخ 21 آب 2017، المختصّ بسلسلة الرّتب والرّواتب والدّرجات الاستثنائيّة السّتّ، من إشكاليّات فرّقت بين مكوّنات الأسرة التّربويّة في المدرسة وهي: الإدارة والهيئة التّعليميّة وأهالي التّلامذة. فتقرّر اجتماعنا اليوم بعد التّشاور مع الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة وهيئتها التّنفيذيّة والمطارنة والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات المكلّفين من مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وبعد التّشاور مع اتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة الّذي يضمّ مدارس مسيحيّة كاثوليكيّة وأرثوذكسيّة وإنجيليّة، ومدارس إسلاميّة سنّيّة وشيعيّة ودرزيّة، وغيرها مدنيّة. الغاية من الاجتماع توحيد الموقف الّذي يحمي التّعليم الخاصّ وأهمّيّته الّتي لا بديل عنها، ويحافظ على حقوق المعلّمين، ويضمن للأهل حقّهم في اختيار المدرسة من دون إرهاقهم بأقساط تفوق طاقاتهم، وحماية حرّيّة التّعليم المنصوص عليها في الدّستور، وجعل المدرسة الخاصّة في متناول جميع المواطنين، لا حكرًا على الأغنياء والقادرين. وهو موقف يأتي بحلول تساعد الجميع وترضيهم. أمّا مشاركة رؤساء الكنائس والطّوائف فتهدف إلى مساندة مؤسّساتنا التّربويّة في مطلبها الموحّد، وهي ذات منفعة عامّة تعنينا كلّنا، وذلك تلبية لمطلب القيّمين عليها.
2 - لقد أخذت هذه الإشكاليّات المستحدثة شكل نزاع مثلث:
أ- فإدارات المدارس تؤكّد عجزها عن تطبيق كامل القانون 46 من دون رفع أقساطها، وهي لا ترغب في ذلك لأنّ الأهل غير قادرين بسبب أوضاعهم الاقتصاديّة والمعيشيّة المتردّية. وتؤكّد أنّ عددًا منها لا يُستهان به سيضطرّ على الإقفال، وهذا ما لا تتمنّاه لأنّه يعني زجّ عدد من المعلّمين والموظّفين في حالة البطالة. وأولى هذه المدارس تلك الجبليّة وتلك المتواجدة في الأطراف، ما يعني إرغام الأهالي على النّزول إلى المدينة وهجر بيوتهم وممتلكاتهم.
ب- والمعلّمون يتمسّكون بتطبيق القانون 46، ويعلنون عن عدم تراجعهم عمّا أعطاهم هذا القانون من حقوق قد ناضلوا في سبيلها لسنوات. ويصرّحون بأنّهم مستعدّون للتّفاهم مع كلّ مدرسة، وإيجاد السّبل معها لكيفيّة دفع المستحقّات بموجب هذا القانون. وهم يستعملون للمطالبة بتطبيق هذا القانون، ولرفض أيّ تعديل عليه، سلاح الإضراب. وهو في اعتقادنا بغيض وخطير لأنّه يولد لهم عداوة من الأهل، وقلّة احترام من التّلامذة، وإشكاليّة مع إدارة المدرسة.
ج- لجان أهالي التّلامذة تتأرجح بين رافضين لرفع الأقساط بالمطلق، ومشكّكين في إدارات المدارس الّتي تربّي أولادهم لجهة موازناتها، وغير مجارين للمعلّمين في كلّ مطالبهم، ومطالبين الدّولة بتحمّل جزء من العبء المفروض.
3 - في كلّ هذه الإشكاليّات والنّزاعات، يدفع التّلامذة الثّمن الغالي، بسبب توتّر الأجواء في البيت والمدرسة والمجتمع، وبسبب الإضرابات وإقفال المدارس، وتعطيل سير الدّروس بشكله الطّبيعيّ السّليم، بالإضافة إلى المشاكل الأخرى المطروحة يوميًّا عبر وسائل الإعلام. وكلّها تترك أثرًا سلبيًّا في نفسيّة أجيالنا الطّالعة، لا أحد يعرف إلى أين ستؤدّي بهم.
4 - لقد أعرب المسؤولون الكبار في الدّولة عن تفهّمهم لهذا الوضع بمجمله: أعني فخامة رئيس الجمهوريّة، وكلًّا من دولة رئيس مجلس النّوّاب ورئيس الحكومة، ووزير التّربية. وتراوحت مواقفهم بين أن تتحمّل الدّولة كلفة التّعليم الخاصّ، وتتولّى مراقبة الأقساط المدرسيّة وضبطها، مع حفظ خصوصية المدرسة في مشروعها التّربويّ والتزامها بالتّشريعات التّربويّة والتّعليميّة والقانونيّة والتّنظيميّة؛ وبين مؤيّد لهذا الطّرح مع بعض التّحفّظ بسبب وضع الخزينة العامّة؛ وبين توزيع المستحقّات الجديدة الصّادرة في القانون 46، بالتّساوي علّ الفئات الأربع: الدّولة والمدرسة والأهل والمعلّمين، بنسبة 25% لكلّ فئة؛ وبين تقسيط دفع المتوجّبات والدّرجات السّتّ مع مفعولها الرّجعيّ على ثلاث سنوات.
5 - وتظهر مشكلة المدارس المجانيّة الّتي تضمّ أكثر من 142 ألف تلميذ من الطّبقات الفقيرة، ومن ذوي الحالة العائليّة والاجتماعيّة الخاصّة، وهم من أولى مسؤوليّات الدّولة، وفي طليعة رسالة المؤسّسات الرّوحيّة، المسيحيّة والإسلاميّة. هذه المدارس مهدّدة بالإقفال التّامّ إذا طُبّق القانون 46 عليها، من دون أن تتحمّل الدّولة تغطية موجباتها الماليّة. ولسنا نفهم كيف تسمح الدّولة لنفسها بإهمال المدرسة المجانيّة، وبعدم تسديد مساهماتها المتأخّرة منذ ثلاث وأربع سنوات. وينبغي عليها ربط احتساب المساهمات بسلسلة الرّتب والرّواتب، لا بالحدّ الأدنى للأجور، كما هو حاصل حاليًّا. أمّا القول إنّ "ثمة مدارس مجانيّة وهميّة"، فيجب على الدّولة تشغيل أجهزة الرّقابة واتّخاذ ما يجب من تدابير. فنحن هنا لا نغطّي أيّة مخالفة وأيّ هدر للمال العامّ.
6 - وتأتي مشكلة صندوق التّعويضات لأفراد الهيئة التّعليميّة في المدارس الخاصّة، وقد فصلها محضر اجتماع اللّجنة الماليّة لهذا الصّندوق بتاريخ 3/10/2017، وتشمل المشكلة: المدارس الّتي تتأخّر عن تسديد المستحقّات عن العامّ الدراسي 2016-2017، وتطلب التّأجيل، وعدم دفع الغرامات المستحقّة والإعفاء منها؛ وعن تسديد سندات مستحقّة وتطلب تأجيلها أو الإعفاء من الغرامات المترتبة عليها. لقد اتّخذت اللّجنة الماليّة التّدابير اللّازمة بهذا الشّأن، فمن الواجب على المدارس المعنيّة أن تسدّد مستحقّاتها القانونيّة الملزمة.
وتشمل المشكلة بعض المعلمين الّذين يمتنعون عن توقيع البيانات الواجب تقديمها إلى كلّ من صندوق التّعويضات، والصّندوق الوطنيّ للضّمان الاجتماعيّ، ودوائر ضريبة الدّخل. وتشمل نقابة المعلّمين الّتي ترفض صرف حقوق المستحقّين وفقًا للجدول 17، المرفق بالقانون 46، بانتظار بتّ الإشكاليّات المطروحة. وتشمل لجان الأهل الّتي تتمنّع عن التّوقيع على الموازنات المدرسيّة للعامّ الحالي 2017-2018. فكان طلب اتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة تمديد المهل القانونيّة بسبب تأخّر المعالجات السّياسيّة والإداريّة والقانونيّة والماليّة للقانون 46.
7 - لقد أمّ هذا الصّرح البطريركيّ، في هذه الأيّام الأخيرة وعلى التّوالي، لجان الأهل في المدارس الخاصّة، والهيئة التّنفيذيّة في الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة مع اللّجنة المعيّنة من مجلس البطاركة والأساقفة، واتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة، ونقابة المعلّمين، مقدّمين كلّهم مذكّرات تفصيليّة ومطالبين منّا التّدخّل، مع المرجعيّات الرّوحيّة الأخرى، للمساعدة في إيجاد حلول عادلة ومنصفة ومتوازنة. وقالوا لنا: "إنّ أولياء الطّلّاب هم أهلكم، والمعلّمين أبناؤكم، والمؤسّسات التّربويّة بيتكم ومجال خدمتكم ورسالتكم".
8 - أمام هذه الواقعات كلّها، نحن الّذين لبّينا الدّعوة ترانا ملزمين بتأدية هذه المساعدة، بعد سماع العروض العلميّة الّتي تقدّمها الهيئة التّنفيذيّة في الأمانة العامّة للمدراس الكاثوليكيّة، واتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة، وما يدلي به المشاركون في هذا الاجتماع الّذي يراد له أن يكون صوتًا واحدًا، وموقفًا واحدًا بناء لخير الجميع، تجاه الدّولة المسؤولة في الدّرجة الأولى، لأنّ المدرسة الخاصّة، مثل الرّسميّة، ذات منفعة عامّة ولأنّ وحدة التّشريع تستوجب وحدة التّمويل.
9 - لا يحقّ للمسؤولين السياسيّين عندنا التّذرّع بأنّ "الخزينة فارغة". فهذه إدانة لهم، لكونهم يشهدون هم أنفسهم على أنفسهم، مؤكّدين مسؤوليّتهم عن إفراغ الخزينة، وعجزهم في ممارسة الحكم وتدبير الشّأن العامّ. كيف بإمكانهم أن يملأوا الخزينة من دون أيّة مكافحة للفساد المتنامي بالشّكل الظّاهر في هدر مال الخزينة والسّرقة والرّشوات وفرض الخوات والتلكؤّ عن جمع الضّرائب والمستحقّات من جميع المواطنين؟ وكيف يملأون الخزينة من دون السّعي الجدّيّ، تخطيطًا وتنفيذًا، إلى إجراء النّهوض الاقتصاديّ في كلّ قطاعاته، صناعة وزراعة وتجارة وإنتاجًا خدماتيَّا وسياحة وتسويقًا؟ وكيف يملأون الخزينة بمشاريع إنمائيّة واقتصاديّة وصناعيّة تؤمّن فرص عمل وإنتاج، فيما التّشريع عتيق، والمعاملات الإداريّة مملّة ومرهقة ماليَّا، والنّافذون في المناطق يفرضون حصصهم اللّاشرعيّة مخالفين القانون والعدل ومعطّلين الأحكام القضائيّة؟ وكيف السّير بالبلاد تعاونًا مع الدّول الصّديقة، من أجل أن يملأوا الخزينة، وهم فاقدو الثّقة والتّعاون فيما بينهم، يواصلون يومًا بعد يوم خلافاتهم السّياسيّة، الشّخصيّة والحزبيّة والمذهبيّة، وإساءاتهم المتبادلة، وانتهاك الكرامات، واستعمال لغة الشّارع بقطع الطّرقات وحرق الإطارات وإشهار السّلاح والاستفزاز بالدّراجات النّاريّة والبروز بالشّارات الحزبيّة والعسكريّة، وتعظيم الأمور، وتوتير الأجواء، ورفض المصالحة، وفرض شروط وشروط، لأهداف مبيتة. والكلّ على حساب الخير العامّ وسير المؤسّسات، وقهر الشّعب وإفقاره. والأخطر من ذلك شخصنة الدّولة والمؤسّسات والدّين والمذهب. بمثل هذا الجوّ المعيب استقبلوا ضيفًا كريمًا صديقًا، رئيسًا لدولة صديقة مهتمّة بمساعدة لبنان، هي ومؤسّساتها غير الحكوميّة، اقتصاديًّا وتجاريًّا واجتماعيًّا. ليس هكذا تبنى دولة تحترم نفسها، وتسعى إلى استعادة مكانها ومكانتها وسط الأسرتين العربيّة والدّوليّة. وليس هكذا نستعدّ لإجراء الانتخابات النّيابيّة المنتظرة منذ سنوات، ولا هكذا يستعدّ الطّامحون إليها. فليترشّح كلّ من يحسب نفسه قادرًا على الخروج من هذا "العجز"، ومتحلّيًا بالقيم الأخلاقيّة والوطنيّة. وليصوّت النّاخبون للقادرين الأسخياء الفعّالين المتجرّدين.
مطلوب من مؤسّساتنا الدّينيّة والرّوحيّة، بذل المزيد من الجهود للحفاظ على رسالتها وخدماتها، ولسدّ الكثير من الحاجات والفراغات، وزرع الرّجاء في القلوب بمجتمع لبنانيّ أفضل، ومستقبل زاهر لأجيالنا الطّالعة.
10 - نسأل الله أن ينير أعمالنا، ويباركها، ويكلّلها بالنّجاح، لمجده تعالى وخير الأسرة التّربويّة بكلّ مكونّاتها".