لبنان
16 آب 2016, 07:16

البطريرك الراعي: الصلاة ترتكز على قاعدة التواضع

ألقى غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، يوم السبت 14 آب 2016، التنشئة المسيحية للأحد السادس عشر من زمن العنصرة في دير سيدة قنوبين تحت شعار "التواضع قاعدة الصلاة" (لو18: 9-14)، جاء فيها:

 

زمن العنصرة، وهو زمن الكنيسة، يضعنا اليوم أمام إحدى ميزاتها الأساسية وهي الصلاة التي ترتكز على قاعدة التواضع. فالصلاة قبل أن تكون كلمات هي وقوف في حضرة الله القدّوس والكلّي الكمال، وأمامه تظهر حقارة كلّ إنسان وضعفه ومحدوديّته مهما علا شأنه الاجتماعي.

أولاً، شرح نصّ الانجيل

من إنجيل القديس لوقا 18: 9-14

قالَ الرَبُّ يَسُوعُ  هذَا الْمَثَلَ لأُنَاسٍ يَثِقُونَ في أَنْفُسِهِم أَنَّهُم أَبْرَار، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرين: «رَجُلانِ صَعِدَا إِلى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، أَحَدُهُما فَرِّيسيٌّ وَالآخَرُ عَشَّار. فَوَقَفَ الفَرِّيسِيُّ يُصَلِّي في نَفْسِهِ وَيَقُول:  أَللّهُمَّ، أَشْكُرُكَ لأَنِّي لَسْتُ كَبَاقِي النَاسِ الطَمَّاعِينَ الظَالِمِينَ الزُنَاة، وَلا كَهذَا العَشَّار. إِنِّي أَصُومُ مَرَّتَينِ في الأُسْبُوع، وَأُؤَدِّي العُشْرَ عَنْ كُلِّ مَا أَقْتَنِي. أَمَّا العَشَّارُ فَوَقَفَ بَعِيدًا وَهُوَ لا يُرِيدُ حَتَّى أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ إِلى السَمَاء، بَلْ كانَ يَقْرَعُ صَدْرَهُ قَائِلاً:  أَللّهُمَّ، إِصْفَحْ عَنِّي أَنَا الخَاطِئ! أَقُولُ لَكُم إِنَّ  هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا، أَمَّا ذاكَ فَلا! لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع».

 

 يشجب الربّ يسوع تصرّف الذين يعتدّون في أنفسهم أنّهم أبرار، وغيرهم خطأة. هذا النوع من التصرّف يعطّل قيمة صلاتهم. هذا إذا صلّوا. فيصبح مثل هذا التصرّف، المتمثّل بصلاة الفرّيسي في الهيكل، مرادفًا لعدم الصلاة. ذلك أنّ شرّ ما فيه هو الاعتداد بالنفس أمام الله. وهذا تكبّر على الله وليس فقط على الناس، كما هو ظاهر في صلاة الفريسي وفيه احتقار وإدانة للغير وإساءة (راجع لو8: 1-12).

 ويثني يسوع على صلاة العشّار، لأنّه يقرّ في حضرة الله القدّوس بأنّه خاطئ، ولا يستحقّ الدنو من قدس أقداسه، وراح يلتمس رحمة الله وغفرانه (الآية 13). فكان حكم الربّ القاطع: "إنّ هذا نزل إلى بيته أبرّ من ذاك". وأرفق قوله بقاعدة الصلاة: "لأنّ كلّ مَن يرفع نفسه يتّضع. ومَن يضع نفسه يرتفع" (الآية 14).

 كلّ إنسان أمام الله خاطئ. هذه ميزة القدّيسين، إذ كانوا يعدّون أنفسهم أكبر الخطأة، لأنّهم يعيشون في حضرة الله واتّحاد دائم معه، وتشعّ أمام تأمّلاتهم قداسة الله التي لا توصف، وكأشعّة خارقة كانت تكشف لهم مكنونات ضعفهم وأخطائهم ونواقصهم. فكانوا يلتمسون رحمة الله ومغفرة خطاياهم بالصلاة والتقشف وأفعال الإماتة، واللّجوء المتواتر إلى سرّ التوبة، وأعمال المحبة والرحمة. وكانوا يفعلون ذلك باسمهم وباسم جميع الناس.

على هذا الأساس نشأت في كنيستنا المارونيّة ممارسة النسك والتوحّد، بدءًا من أبينا القديس مارون، وصولًا إلى القديس شربل، وحاليًّا مع الحبساء الثلاثة من الرهبانية اللبنانية المارونية: الحبيس الأب يوحنا الخوند في دير مار أنطونيوس قزحيا، والحبيس الأب انطوان رزق في المحبسة التابعة للدير على اسم القديس بولا،والحبيس الأب داريو اسكوبار الكولومبي الأصل، في محبسة سيدة فوقا، التابعة هي أيضًا للدير المذكور.

 لنا في الكتاب المقدّس حدثان عن انكشاف ضعف الإنسان وخطاياه في حضرة الله.

الحدث الأوّل مع أشعيا النبي: "رأيتُ السيد جالسًا على عرش عالٍ رفيع... ومن فوقه سارافون قائمون... وكان هذا ينادي ذاك ويقول: قدّوس قدّوس قدّوس، ربّ الجنود، الأرض كلّها مملوءةٌ من مجده. فتزعزعت أسس الأعتاب من صوت المنادين، وامتلأ البيت دخانًا فقلت: ويلٌ لي، قد هلكت لأنّي رجلٌ نجس الشفتَين، وأنا مقيم بين شعب نجس الشفاه، وقد رأت عيناي مجد ربّ الجنود. فطار إليّ أحد السرافين، وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، ومسّ بها فمي وقال: ها إنّ هذه قد مسَّت شفتَيك، فأُزيل اثمك، وكُفِّرت خطاياك. ثمّ دعاه وأرسله" (اشعيا 6: 1-9).

الحدث الثاني مع سمعان بطرس: لمّا رأى الصيد العجيب بفضل كلمة يسوع الذي وجّههم للسير إلى العمق وإلقاء الشبكة من جديد، وربّما كان بطرس مشكّكًا فيها عندما أجاب: "يا معلّم، قد تعبنا الليل كلّه ولم نضبط شيئًا. ولكن لأجل كلمتك أرمي الشبكة". فعندما رجعوا إلى البَرّ والشباك تضبط سمكًا كثيرًا جدًّا، "وقع سمعان بطرس عند قدَمَي يسوع وقال له: "أسألك يا سيّدي أن تتباعد عنّي، لأني رجل خاطي". أما يسوع فأجاب: "لا تخفْ. فمن الآن تصطاد الناس للحياة" (لو5: 4-11).

 من هذَين الحدثَين، تظهر ميزة مشتركة في الكنيسة، هي الإرسال. فالتوبة ومغفرة الخطايا والمصالحة مع الله والذات، تجعل التائب أهلًا ليحمل رسالة خاصّة من الله.

آشعيا أرسله الله نبيًّا. فكان لنا كتاب نبوآته النفيس المسمَّى بالإنجيل الخامس، لكونه تنبّأ عن تجسّد الكلمة ابن الله، عمّانوئيل، من عذراء، وعن آلامه وموته فداءً عن البشر أجمعين. وسمعان-بطرس أرسله الله راعيًا للكنيسة ورأسًا لرعاتها، حاملًا ملء سلطان الحلّ والربط.

في الصلاة والتوبة والتواضع تولد الدعوة الخاصّة بكلّ إنسان، ويتمّ الإرسال الإلهي، وتُعطى نعمة الالتزام بسخاء وفرح.

 ونذكر حادثة ثالثة، أدّت فيها التوبة إلى تغيير جذري في مجرى الحياة، وهي حادثة زكا العشّار. لم يكن زكا في حالة صلاة في الهيكل مثل ذاك العشار، بل كانت فيه صلاة داخلية تأملية، هي توقه لرؤية يسوع. وأظهر تواضعًا كبيرًا أمام المسيح. فنسي ذاته ومكانته الاجتماعية وغناه وتسلَّق جمّيزة ليرى يسوع، إذ كان قصير القامة.

الصلاة  التأملية والتواضع كانتا أساس توبته العظيمة وتغيير مجرى حياته، بفضل حضور يسوع في بيته. في المناسبة أعلن الربّ: "اليوم دخل الخلاص هذا البيت" (راجع لوقا 19: 1-9).

*   *   *

ثانيًا، الوادي المقدّس والمحابس

 الوادي المقدّس وبالسريانية وادي قاديشا، يشمل جغرافيًّا المنطقة الممتدّة من سفوح جبال الأرز في مدينة بشري، نزولًا إلى حدود كوسبا الشمالية في قضاء الكورة. يقارب طوله حوالي 10 كلم.

يقسم الوادي المقدّس إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل في النطاق العقاري لكلّ من بشري وحدشيت وبقرقاشا وحصرون، ويُعرف باسم وادي مار إليشع، نسبة إلى دير مار إليشع القديم التابع للرهبانية المارونية المريمية. ويمتدّ من سفوح جبل الأرز نزولًا حتى النطاق العقاري لقرية وادي قنوبين. هذا القسم غنيّ بالمحابس والمغاور الحاملة اسم عدد من القدّيسين مثل مار مخايل ومار يوحنا الدمشقي ومار يعقوب المقطّع وهوّة نهر الربّ ومار بيمين ومار جرجس الأحباش ومار يوحنا ومار شليطا؛ وبقايا كنائس تحمل اسم أديار مثل دير الصليب ودير مار انطونيوس البادواني ودير مار سلوان ودير مار سركيس ودير مار بهنام، والقديسة شموني.

القسم الثاني هو وادي قنوبين، نسبةً إلى اسم الكرسي البطريركي حيث سكن البطاركة الموارنة في عهد العثمانيّين من سنة 1440 إلى سنة 1823، وهي سنة صعودهم إلى الديمان، فاستأجروا منزلًا، ثمّ بنوا الكرسي البطريركي على اسم القدّيس يوحنا مارون في عهد البطريركَين يوحنا الحلو ويوسف حبيش، إلى أن بنى البطريرك الياس الحويك الكرسي الحالي في الديمان سنة 1905، وأكمله البطريرك انطون عريضه في بعض أجزائه سنة 1938، ولاسيّما الكنيسة الكبيرة على نفقة رشيد عريضه، وجناح البطريرك.

يحوي هذا القسم قرية مأهولة هي وادي قنوبين. فيها كنيستان رعائيّتان، سيدة الكرم ومار سمعان. وكان فيها مدرسة رسميّة أُقفلت سنة 1980، بعد أن أصابت الوادي الهجرة الخارجية إلى استراليا وكندا وأميركا، والهجرة الداخلية إلى البلدات المحيطة بالوادي المقدّس.

من أبرز معالم وادي قنّوبين: الكرسي البطركي الذي أقام فيه 24 بطريركًا، ومغارة القديسة مارينا والكابلة على اسمها وهي تحتضن رفات 17 بطريركًا؛ بقايا محابس وأديار أهمّها: دير مار يوحنا مارون المعروف "بدير ابون"، ومحبسة مار سركيس، ومغارة القديسة برباره، ومحبسة مار انطونيوس.

القسم الثالث: وادي قزحيا، طوله حوالي 3 كلم ويشمل مزرعة النهر وفريديس، ويمتدّ صعودًا ليشمل حوقا وبان وكفرصغاب وإهدن وعينطورين. من أبرز معالمهدير مار أنطونيوس قزحيا. لفظة قزحيا مشتقّة من السريانيّة "الكنز الحيّ" أو "كنز الحياة" لغزارة مياهه وخصوبة أرضه، ولكثرة المحابس والحبساء والقدّيسين في محيطه؛ ومحبسة مار بولا التي أسّسها الأب عبدالله قراعلي مؤسِّس الرهبانيّة المارونيّة سنة 1716 وفيها اقتبل الرسامة الأسقفيّة؛ ومحبسة مار بيشاي على مدخل الدير؛ محبسة مار ميخائيل على مقربة من الدير؛ محبسة سيدة حوقا؛ دير سيدة حماطوره للروم الأرثوذكس، من جهة الكوره، ويتّصل به مزار مار ميخائيل (راجع كتاب جورج عرب: المسيحيون والوادي المقدس، ص102-265).

*   *   *

صلاة

أيّها الربّ يسوع، لقد علّمتنا أن الصلاة وقوف أمام قداسة الله بتواضع وانسحاق قلب، وبالتماس رحمة الله، كما صلّى ذاك العشّار الذي أقرّ بخطيئته وضعفه. إشفنا من مرض الاعتداد بالنفس، والتكبّر على الآخرين واحتقارهم، ومن رؤية نقائصهم فنسترها بمحبّتنا.

في رؤيتنا لهذا الوادي المقدّس، أعطنا يا ربّ أن نحافظ على هذا الإرث الروحي من الإيمان والتقشّف والصلاة، لكي نصون وطننا لبنان أرضَ قداسة وقيم، نجسّدها في الحياة الاجتماعية والوطنية والنظام السياسي.

وليبقَ أريج صلوات القديسين يرتفع بخور تمجيد وشكر وتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.