لبنان
07 كانون الأول 2020, 06:00

البطريرك الرّاعي: الشّعب هو البداية والنّهاية وهو الّذي سيحسم بالنّتيجة مصير لبنان

تيلي لوميار/ نورسات
"يوحنّا، الّذي يعني بالعبريّة "الله رحوم"، هو الإسم الّذي نقله لزكريّا الملاك جبرائيل من عند الله، للدّلالة أنّ الله يرحم شعبه. فقد نعم بهذه الرّحمة زكريّا وأليصابات اللّذين تقدّما في السّنّ، ولم يكن لهما أمل بولد. فعندما وَلَدَت أليصابات "فرح معها جيرانها لأنّ الله أكثر رحمته إليها" (آية 58).

ولمّا كتب زكريّا الأبكم إسم يوحنّا، انحلّت عقدة لسانه، فتكلّم وبارك الله، وهذا دليل على رحمة الله له. يوحنّا هو علامة رحمة الله الّتي ستظهر وتأخذ جسدًا واسمًا بشخص يسوع المسيح، إبن الله الأزليّ الّذي صار بشرًا. نصلّي لكي تكون الرّحمة ثقافتنا وثقافة كلّ الشّعوب. فهي حاجة لكلّ جيل. فالله "الغنيّ بالرّحمة" (أفسس 2: 4) يريدنا أن نعكس وجهه، وجه الرّحمة في العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة. فلا يمكن أن تعيش جماعة بسلام وطمأنينة من دون الرّحمة."

بهذه الكلمات استهلّ البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي عظته خلال قدّاس أحد مولد يوحنّا المعمدان الّذي ترأّسه في بكركي، وتابع قائلاً:

"إنّني أحيّيكم وكلّ المشاركين معنا روحيًّا في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، عبر تيلي لوميار- نورسات والفيسبوك. وأحيّي عائلة المرحومين صبحي ونديمة فخري في الذّكرى السّادسة لاستشهادهما أمام منزلهما في بتدعي على يد عصابة مجرمين من المنطقة. وما زال القضاء ينظر في هذه الجريمة بحيث بعض منهم موقوف فيما آخرون فارّون، وهم معروفون بأسمائهم. وقد أبى أولاد الضّحّيّتين اللّجوء إلى الثّأر، احترامًا للدّولة والقضاء، ومنعًا لمزيدٍ من التّوتّر في المنطقة. نصلّي لراحة نفسيهما وعزاء أسرتهما.

ليست الرّحمة أمرًا اختياريًّا بل هي واجب لكي ننعم برحمة الله: "طوبى للرّحماء، فإنّهم يُرحمون" (متّى 5: 7). هذه مادّة من دستور الحياة الإنسانيّة، المعروف بإنجيل التّطويبات. نصلّي في المزمور( 85: 11 ) ملتمسين الرّحمة الّتي هي "القبلة المطبوعة على جبين العدالة". وفيما العدالة تعني المساواة في الحقوق والواجبات، فإنّ الرّحمة تعني المشاعر الإنسانيّة والحنان واحترام الشّخص البشريّ وكرامته والمغفرة. لكنّ العدالة والرّحمة مجتمعتين تشكّلان الإنصاف. إنّ لفظة "إنصاف" في الكتاب المقدّس تعني رحمة الله وحنانه تجاه الإنسان، وتعني أمانته لهما. فمهما ابتعد الإنسان عنه أو أساء إليه أو أنكره، يبقى "الرّبّ إلهنا رحيمًا رؤوفًا، طويل الأناة، كثير الرّحمة والوفاء، يحفظ الرّحمة لألوف الأجيال، ويحتمل الألم والمعصية والخطيئة، لكنّه لا يترك شيئًا من دون عقاب" (خروج 34: 7).

يتكلّم بولس الرّسول عن "إنصاف المسيح" (2 كور 10: 1) الظّاهر في وداعته وحلمه وهو ملك السّماوات (فيل 2: 11)، ويدعو كلّ صاحب سلطة لأن يتّصف بالإنصاف (أعمال 24: 4). ويصف الإنصاف بأنّه "عدالة طبيعيّة" أيّ الشّريعة المكتوبة في الضّمائر والقلوب بمعزلٍ عن الدّين (راجع روم 2: 14-15).

أين المسؤولون السّياسيّون عندنا من فضائل الرّحمة والعدالة والإنصاف؟ لكي يوفّروا المساعدات لشعبنا المتزايد فقرًا وعوزًا يومًا بعد يوم بسبب سياستهم وفسادهم، وهو يحتاج إلى غذاء ودواء ومحروقات؟ فإنّا بعيدًا عن بقاء نظام الدّعم أو إعادة النّظر فيه، نجدّد اقتراحنا باعتماد "البطاقة الاجتماعيّة الإلكترونيّة"، فيتمكّن شعبنا من الصّمود بانتظار الفرج. كما لا بدَّ للمجلسِ النّيابيّ الّذي أقرَّ قانونَ "الدّولار الطّلّابيّ" من أن يتابعَ وضعَ المراسيمِ التّطبيقيّةِ للقانون بالتّفاهمِ مع الهيئاتِ المصرفيّة ليُصبحَ نافذًا فعلاً ويَخرجَ من إطارِ المزايداتِ السّياسيّة. إنّ أهالي الطّلّاب وهؤلاء يعيشون مأساةً بسببِ ارتفاعِ الدّولار وينتظرون الفرج. إنّ الكنيسة من جهتها تنظّم وتنسّق المساعدات على كامل الأراضي اللّبنانيّة من خلال مؤسّساتها، ومن خلال البطريركيّة والأبرشيّات والرّعايا والرّهبانيّات والأديار والمنظّمات والجمعيّات والمؤسّسات الخيريّة والإنمائيّة. وإنّا نحيّي الشّباب والشّابّات وجميع المتطوّعين العاملين في قطاع المحبّة الاجتماعيّة.

ونحيّي الأربعين دولة ومؤسّسة الّتي شاركت في مؤتمر باريس "لدعم الشّعب اللّبنانيّ" المنعقد الأربعاء الماضي، شاكرينهم ورئيس فرنسا وأمين عامّ الأمم المتّحدة. وقد لاحظنا بأسفٍ كبيرٍ غيابَ حكومةِ لبنان لأنَّ لا حكومةَ عندنا. إنَّ أخطرَ ما نتعرّض له اليوم هو تَخطّي العالمُ لبنانَ كدولةٍ، وبالمقابل تعاطيه مع شعبِ لبنانَ كشعبٍ منكوبٍ تُوزَّعُ عليه الإغاثات. يَحزُّ في نفوسِنا وفي كرامتِنا أن نرى مُعدَّلَ الفُقر قد ارتفع من 28% إلى 55% خلالَ سنةٍ واحدة. فأين لبنانُ الازدهارِ والبحبوحة والعزّة؟ ويَحُزُّ في نفوسِنا أيضًا أنَّ البيانَ الختاميَّ لمؤتمرِ باريس تحاشى ذكَرَ كلمةِ "الدّولةِ اللّبنانيّةِ"، وتوجّه إلى الشّعبِ اللّبنانيِّ دون سواه. ألا يَشعُر المسؤولون في لبنان بالخجل؟

وهل من مبرّر لعدم تشكيل حكومة جديدة تنهض بلبنان الّذي بلغَ إلى ما تحت الحضيض والانهيار اقتصاديًّا وماليًّا ومعيشيًّا وأمنيًّا، وتعيده إلى منظومة الأمم؟ أين ضميرهم الفرديّ وأين ضميرهم الوطنيّ؟ ماذا ينتظرون أو يضمرون في الخفاء؟ وفي كلّ حال لبنان وشعبه وكيانه فوقهم جميعًا، وصامد بوفائه وكرامته!

ومع ذلك، مهما كانت الأسباب الحقيقيّة الّتي تؤخّر إعلانَ حكومةٍ جديدة، فإنّا ندعو رئيسَ الجمهوريّةِ والرّئيسَ المكلَّفِ إلى تخطّي جميع هذه الأسباب، واتّخاذ الخطوة الشّجاعة وتشكيلِ حكومةِ إنقاذٍ استثنائيّة خارج المحاصصة السّياسيّة والحزبيّة. لا تَنتظِرا اتّفاقَ السّياسيّين فهم لن يتّفقوا، ولا تَنتظِرا انتهاءَ الصّراعاتِ الإقليميّة فهي لن تنتهيَ. ألِّفا حكومةَ الشّعب، فالشّعبُ هو البدايةُ والنّهاية، وهو الّذي سيحسم بالنّتيجة مصير لبنان.

وأين العدالة تُظهر حقيقة انفجار مرفأ بيروت في الرّابع من آب الماضي، وأين إنصاف أهالي الضّحايا والمنكوبين والمتضرّرين؟ مرّت أربعة أشهر ولم يَعرف اللّبنانيّون شيئًا عن نتائجَ التّحقيق. وكلّما تأخّرت الحقيقةُ كلّما ازدادت التّساؤلاتُ والشّكوكُ، خصوصًا وأنَّ هذا التّأخيرَ ترافقه من جهة تصفياتُ أشخاص أمنيّين وآمنين في ظروف مشبوهة، كان آخرها في قرطبا منذ ثلاثة أيّام، ومن جهة أخرى إشكاليّاتٌ حول الصّلاحيّاتِ القضائيّة، كأنّ المعنيّين بالتّحقيقِ يَرمُون المسؤوليّةَ على بعضِهم البعض فيما الشّعبُ يَنتظر، ويكاد يفقد الثّقة بقضاء حرّ وشجاع، حريّ به أن يعطي جوابًا للشّعب وللعالم. إنّ مِن حقِّ اللّبنانيّين أن يَعرفوا مَن فَجّر مرفأَ بلدِهم، مَن دَمّرَ جُزءًا من عاصمتِهم. مَن قَتل أبناءَهم وأطفالهم وأباءَهم وأمّهاتِهم. مَن شرَّدهم وأفْقرَهم ورماهُم في الشّارع؟ إنَّ الصّمت أحيانًا رديفُ الرَّيْبة، والتّأخير رديف الكِتمان.

وممّا يعزّي الشّعب اللّبنانيّ ويشجّعه على الصّمود، قرب قداسة البابا فرنسيس منه، وقد أُسعدت بلقائه السّبت الماضي. فشعرت بمدى اهتمامه بلبنان وقضيّته وشعبه، وبحرارة صلاته وعاطفته، وبعميق حزنه لانهيار لبنان الحاصل ولمآسي الشّعب عامّة والمسيحيّين خاصّة من جرّاء انفجار مرفأ بيروت. ورفعت له تقريرًا مفصّلًا عن كلّ هذه الأمور، وعمّا تقوم به الكنيسة على مستوى خدمة المحبّة الاجتماعيّة، وتنسيقها عبر هيئة "الكرمة". وقدّمت لقداسته اقتراحات حلول، وفي مقدّمتها أن يكون لبنان بلدًا حياديًّا بعيدًا عن الصّراعات الإقليميّة والدّوليّة ومجتمعًا متضامنًا يلعب فيه الجيل الجديد دوره في صناعة المستقبل. وفي هذا المجال أكّد قداسة البابا استعداده للقيام بما يلزم مع الدّول المعتمدة لدى الفاتيكان والمؤسّسات الدّوليّة لدعم لبنان والحفاظ على دوره ورسالته في هذا الشّرق. ونأمل أن يعبّر عن قربه وتضامنه بزيارة إلى وطننا الحبيب لبنان، ونرجو أن تكون قريبة.

فيا إله الرّحمة، إرحم شعبك، وعلّمنا ثقافة الرّحمة، لنربّي عليها أجيالنا الطّالعة، بعيدًا عن الحقد والتّفرقة، فوطننا قائم بهويّته على التّعدّدية الثّقافيّة والدّينيّة، والعيش معًا بروح الأخوّة والتّضامن والتّعاون. لك المجد والتّسبيح أيّها الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."