البطريرك إسحق في الميلاد: للتّآخي ونبذ التّفرقة والاعتراف بالتّنوّع والاختلاف
وللمناسبة، وجّه إسحق رسالة ميلاديّة إلى إكليروس كنيسته وعلمانيّيها في مصر وبلاد المهجر، قال فيها بحسب "مكتب الإعلام الكاثوليكيّ بمصر":
"النّعمة والسّلام في ربّنا يسوع المسيح، مولود بيت لحم.
معكم أشكرُ اللهَ الّذي مكّننا أن نجتمع هذه اللّيلة لنصلّيَ معًا ونحتفلَ بعيد الميلاد. مرّةً أخرى يذكّرنا الاحتفال بميلاد السّيّد المسيح، أنّ الله معنا يُرافقنا ويباركنا، ويقدّسنا.
"تَبارَكَ الرَّبُّ لأَنَّهُ افتَقَدَ شَعبَه وَافتَداه" (لوقا1/ 68):
كلماتٌ وردت على لسان زكريّا الكاهن، بعدما انفتح فمه، وانطلق لسانه، ليباركَ الرّبَّ على خلاصه ورحمته لشعبه على مرّ التّاريخ.
إختبرَ زكريّا وزوجتُه أليصابات حنان الله، وعبّرا عن ذلك في اختيار اسم ابنهما يوحنّا، والّذي يعني "الله يتحنّن". فقد تجلّى حنان الله في المسيح، وأنار حضوره الحياة، فملأ الكون فرحًا وسلامًا.
أتامّل معكم حول التّجسّد كحضور الله و تضامنه مع الإنسان وهو شركه وحياة لجميع البشر.
أوّلًا التّجسّد حضور وتضامن
"في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله.... فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ... والكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا" (يوحنّا 1/ 1-14).
صار كلمة الله إنسانًا وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطيئة وحدها... صار إنسانًا لكيما يُشركنا في حياته الإلهيّة. فليس هناك شرحٌ لسرّ التّجسّد إلّا محبّة الله للإنسان.
وُلِد المسيح فاتّحدت السّماء بالأرض، افتقد الله شعبه في واقعه وأزماته. تضامن الله مع الإنسان، وكشف محبّتَه الشّاملة لكلّ البشر.
تضامن الرّبُّ يسوع مع الإنسان المتألّم والمرفوض، كما فعل مع مرضى البُرص المرفوضين من المجتمع، وكذلك العشّارين والخطأة.
أسّسَ عالمًا يسودُه الحبّ لا الاستغلال، وعلّمَ أنّ وصيّة المحبّة تُلخّصُ كلَّ الوصايا.
أسّسَ عالمًا يغمُرُه السّلام لا الحرب، وعلّم "طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون." (متّى5/9).
أسّسَ عالمًا تملؤه الوداعة لا العنف، وعلّم وعاش "طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض" (متّى5/ 4).
أسّسَ عالمًا تميّزُه الخدمة لا التّسلّط، وعلّم "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا" (مرقس10/ 43)، وهو المُعلّم والسّيّد الّذي غسل أرجل تلاميذِه.
هكذا أسّسَ المسيح عالمًا يحترم ويُقدّر كرامة الإنسان لا إهانته أو تشويهه. وحقّقَ بحياته قبل كلامه المعنى الحقيقيّ للحضور الحيّ والفعّال والمنتبه.
في السّنوات الأخيرة، كشفت لنا أزمة كورونا الّتي عشنا فيها خبرة الخوف والتّباعد، أنّ لا أحدَ يعيشُ أو يَخلِصُ بمفردِه. وأعلنت أنّ التّضامنَ البشريّ على المستوى الإنسانيّ والرّوحيّ والاقتصاديّ، هو المخرجُ الوحيد لهذه الأزمة.
كما أنّ الحضور الإنسانيّ الشّخصيّ لا غنى عنه، ولا يمكن استبداله بأيّة وسائل أخرى. ومهما تقدّمت وسائل التّواصل الاجتماعيّ، لن يمكنها أن تعوّضَه.
هكذا نجدُ أنّ التّجسّد هو فعلُ حبٍّ إلهيّ، بفضله نستطيعُ أن نَلْمُسَ حضور الله في أدقّ تفاصيل حياتنا اليوميّة.
ثانيًا التّجسّد شركة وحياة
"ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح" (1 يوحنّا1/ 3).
فاضتِ المحبّةُ الإلهيّة في المسيح يسوع، فكشف شركة الحياة الإلهيّة، وأسّسَ العائلة الإنسانيّة القائمة على أبوّة الله، حتّى استردّ المؤمنون سلطان البنوّة الإلهيّة، فكلّ "الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه، مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يوحنّا1/ 12)؛ كذلك أخوّة البشر فيما بينهم، على مثال صورته ليكون هو "بِكْرٌ لإِخَوةٍ كَثيرين" (رومية8/ 29).
كما أنّه أشرك الإنسان في قيامته، فقد قام المسيح ليُقيم الإنسان من الخطيئة، فيحيا حياة القداسة الّتي هي أساس الشّركة مع الله؛ بهذا تُصبح القيامة حدثًا آنيًّا لا مستقبليًّا عند موت الإنسان، بل يحيا الإنسان حياة القائم، فيُصبح في المسيح "خَلْقًا جَديدًا (2 كورنثوس5/ 17).
هكذا أزال المسيح بتجسّده الحواجز وصالح الجميع في شخصه، وفتح الطريق للوحدة، وأراد الكنيسة لكي تكون نواة الشّركة وآية تشير وتحقّق الوحدة البشريّة.
وتسعى الكنيسة أن تحقّق ذلك وتواصل حضور المسيح الحيّ الفعّال، وأن تكون كنيسة جامعة، منفتحة على كلّ الأجناس، والثّقافات، حتّى يكونَ الجميع واحدًا في المسيح، فلا يكون فرق بين "يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع." (غلاطية 3/ 26-28).
فتح المسيح لنا الطّريق أمام الشّركة الحقيقيّة، شركة أساسها البذل والعطاء، المحبّة والتّفاني وإخلاء الذّات.
إنّ الاحتفال بالميلاد يدعونا إلى الجودِ والسّخاء، وعدم الخوف؛ إلى التّآخي الإنسانيّ، واحترام الآخر، ونبذ التّفرقة، والاعتراف بالتّنوّع والاختلاف الّذي هو عنصرُ غنىً وتكامل.
أعلن البابا فرنسيس في أكتوبر الماضي، بداية مسيرة الإعداد لسينودس الكنيسة الكاثوليكيّة الّذي سيُختَتم في عام 2023، وشعاره: "نحو كنيسة سنودسيّة: شركة، ومشاركة، ورسالة". وهي دعوة أن نعيش بانفتاح قلبٍ على عمل الرّوح القدس الّذي يقود الكنيسة ويُنمّيها.
إنّها لَفرصة لنا أن نسير معًا ونعمل معًا، ونعيش معًا بقلب منفتحٍ، حتّى نُصغي لما يقوله الرّوح للكنيسة، ونتعلّم في عائلاتنا، وكنائسنا، وفي مجتمعنا، أن يُصغي بعضنا لبعضً بحبٍّ وطول بالٍ وفهم.
فهناك خطرٌ كبيرٌ أنّ، نعيش دون أن نفكّر، نسمع دون أن نُصغي، نتواجد معًا دون أن نلتقي، نتجالسُ دون أن نتحاور، نأخُذُ دون أن نشكر ونتعانقُ دون أن نتصالح.
إنّنا اليوم نحتفل بعيد ميلاد السّيّد المسيح، لكنّه احتفالٌ بميلادِنا نحن أيضًا. فعيد الميلاد هو احتفال وحدة كلّ الخليقة في المسيح. فيجد الكون والزّمان والإنسان معنى وجودِهم فيه، ويتّحدون معًا سيرًا نحو السّموات الجديدة والأرض الجديدة.
ختامًا، نرفعُ صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس، ومع أخوتنا البطاركة والأساقفة، وكلّ المحتفلين الّليلة بعيد الميلاد، من أجل سلام العالم ووحدته.
نُهنئُ كنائسنا في مصر وبلاد المهجر. نبعثُ رسالةَ محبّةٍ وتقديرٍ إلى رئيس الجمهوريّة السّيّد عبد الفتّاح السّيسي، لإخلاصه في عطائه وبذله من أجلِ مصر؛ وإلى كلّ المعاونين له في خدمة مصرنا الغالية؛ وإلى قوّاتنا المسلّحة والشّرطة؛ وكلّ الشّرفاء الّذين يبذلون كلّ جهد من أجل رفعة مصر وكرامة المصريّين.
نصلّي من أجل عائلاتنا، حتّى تواصل الحفاظ على وحدتها، وأن يكون الإصغاء والحوار في احترام متبادل هي أدواتنا الأساسيّة في التّعامل.
نصلّي من أجل كلّ المرضى والمتألّمين والحزانى، ولكلّ من يعاني خوفًا وعدم أمان، فقرًا واحتياجًا لضروريّات الحياة.
فيا طفل المغارة، أيّها الكلّمة المتجسّد،
في قلب ليلنا، نطلبُ نورك؛
وفي وسط أخطارنا نطلبُ سلامك؛
وفي وسط أحزاننا نطلبُ فرحَك.
لأنّك أتيت لتكون لنا الحياة، وتفيض فينا.
فيا ربُّ وسّع قلبنا وحياتنا، فيشعّ الحبُّ الّذي أظهرته لجميع البشر. آمين!
كلُّ عام وحضراتكم بخير."