البابا يطلق نداءً مع قادة الأديان: لنتحلّ بالجرأة للسّلام!
البابا الّذي وصل إلى الكولوسيوم قبل السّاعة الرّابعة والنّصف عصرًا بقليل، بتوقيت روما، استقبله ستّة من قادة الكنائس والطّوائف المسيحيّة ودخل معهم في موكب، منضمًا إلى "رسالة المصالحة" الّتي أطلقها المشاركون خلال هذه الأيّام الثّلاثة. وكانت له كملة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "لقد صلّينا من أجل السّلام كلٌّ وفقًا لتقاليدنا الدّينيّة المختلفة، والآن اجتمعنا معًا لإطلاق رسالة مصالحة. إنّ الصّراعات موجودة حيثما وجدت الحياة، ولكن ليست الحرب هي الّتي تساعد على مواجهتها أو حلّها. السّلام هو مسيرة مصالحة دائمة. أشكركم لأنّكم جئتم إلى هنا لتصلّوا من أجل السّلام، مُظهرين للعالم مدى أهمّيّة الصّلاة. على القلب البشريّ في الواقع أن يتهيّأ للسّلام وأن ينفتح في التّأمّل، ويخرج من ذاته في الصّلاة. عودة إلى الذّات للخروج من الذّات. هذا ما نشهد له، عندما للإنسانيّة المعاصرة الكنوز الهائلة للرّوحانيّات القديمة.
إنّ العالم متعطّش للسّلام: إنّه بحاجة إلى حقبة حقيقيّة وثابتة من المصالحة، تضع حدًّا للتّعدّي، واستعراض القوّة، واللّامبالاة بالحقّ. كفى حروبًا، بما تخلِّفه من أكوام مؤلمة من الموتى والدّمار والمنفيّين! نحن اليوم، معًا، لا نعبّر فقط عن إرادتنا الثّابتة للسّلام، بل وأيضًا عن إدراكنا بأنّ الصّلاة هي قوّة عظيمة للمصالحة. إنَّ الّذي لا يصلّي يستغلّ الدّين، حتّى للقتل. إنَّ الصّلاة هي حركة الرّوح، وانفتاح القلب. ليست كلمات نصرخها، ولا سلوكيّات نستعرضها، ولا شعارات دينيّة نستخدمها ضدّ مخلوقات الله. لدينا إيمان بأنّ الصّلاة تغيّر تاريخ الشّعوب. لتكن أماكن الصّلاة خيامًا للّقاء، ومزارات مصالحة، وواحات سلام.
لقد دعا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، في ٢٧ تشرين الأوّل ١٩٨٦، القادة الدّينيّين في العالم إلى أسيزي للصّلاة من أجل السّلام: ألّا يكونوا أبدًا الواحد ضدّ الآخر، بل الواحد بجانب الآخر. لقد كانت لحظة تاريخيّة، نقطة تحوّل في العلاقات بين الأديان. بروح "أسيزي"، استمرّت لقاءات الصّلاة والحوار هذه عامًا بعد عام، وخلقت جوًّا من الصّداقة بين القادة الدّينيّين وأجابت على العديد من نداءات السّلام. يبدو أنّ العالم اليوم قد سار في الاتّجاه المعاكس، ولكنّنا نبدأ مجدّدًا من أسيزي، من ذلك الوعي بمهمّتنا المشتركة، ومن تلك المسؤوليّة عن السّلام. أشكر جماعة سانت إيجيديو وجميع المنظّمات، الكاثوليكيّة وغيرها، الّتي تحافظ، في كثير من الأحيان بعكس التّيّار، على هذه الرّوح حيّة.
إنَّ الصلاة بروح "أسيزي"، بالنّسبة للكنيسة الكاثوليكيّة، تقوم على الأساس الصّلب الّذي عبّر عنه البيان "Nostra aetate" الصّادر عن المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، حول تجديد العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكيّة والأديان. وبهذه المناسبة، نحتفل اليوم بالذّكرى السّتّين لإصدار وثيقة "علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة" بالتّحديد: الّتي صدرت في ٢٨ تشرين الأوّل ١٩٦٥.
معًا، نعيد مجدّدًا التّأكيد على الالتزام بالحوار والأخوّة، الّذي أراده آباء المجمع، والّذي أعطى العديد من الثّمار. بكلمات ذلك الزّمان: "لا نستطيع أن ندعو الله أبًا للجميع، إذا رفضنا أن نتصرّف كإخوة تجاه بعض النّاس الّذين خُلقوا على صورة الله"، يعلّم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. جميع المؤمنين هم إخوة. ويجب على الأديان، كـ"أخوات"، أن تشجّع الشّعوب على معاملة بعضها البعض كإخوة، لا كأعداء. لأنّ "الشّعوب المختلفة تشكّل في الواقع، تشكّل جماعة واحدة، ولها أصل واحد".
في العام الماضي، التقيتم في باريس وكتب لكم البابا فرنسيس بهذه المناسبة: "علينا أن نُبعد عن الأديان تجربة أن تصبح أداة لتغذية القوميّات، والإثنيّات، والشّعبويّات. إنَّ الحروب تزداد ضراوة. والويل لمن يحاول جرّ الله لكي يأخذ طرفًا في الحروب!". وأنا أتبنّى هذه الكلمات وأكرّر بقوّة: الحرب ليست مقدّسة أبدًا، السّلام وحده مقدّس، لأنّه إرادة الله!
بواسطة قوّة الصّلاة، وبأيدٍ عارية مرفوعة نحو السّماء وأيدٍ مفتوحة نحو الآخرين، علينا أن نجعل هذا الفصل من التّاريخ، المطبوع بالحرب وغلواء القوّة، ينتهي قريبًا، وتبدأ قصّة جديدة. لا يمكننا أن نقبل باستمرار هذا الفصل بعد، وأن يصوغ عقليّة الشّعوب، وأن نعتاد على الحرب كرفيق طبيعيّ للتّاريخ البشريّ. كفى! إنّها صرخة الفقراء وصرخة الأرض. كفى! يا ربّ، استمع إلى صرختنا!
إنَّ المكرَّم جورجيو لا بيرا، شاهد السّلام، عندما كان يعمل سياسيًّا في أوقات صعبة، كتب إلى القدّيس بولس السّادس: نحن بحاجة إلى "تاريخ مختلف للعالم: "تاريخ العصر التّفاوضيّ"، تاريخ عالم جديد خالٍ من الحرب". إنّها كلمات يمكنها أن تكون برنامجًا للإنسانيّة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى.
إنَّ ثقافة المصالحة ستنتصر على العولمة الحاليّة للعجز، الّتي يبدو أنّها تخبرنا بأنّ تاريخًا آخر مستحيل. نعم، يمكن للحوار، والتّفاوض، والتّعاون أن يواجهوا ويحلّوا التّوتّرات الّتي تنفتح في حالات الصّراع. عليهم أن يفعلوا ذلك! فالأماكن والأشخاص موجودون للقيام بذلك. "إنّ وضع حدّ للحرب هو واجب ملحّ على جميع المسؤولين السّياسيّين أمام الله. السّلام هو أولويّة كلّ سياسة. والله سيحاسب مَن لم يسعَ للسّلام أو أجّج التّوتّرات والصّراعات، جميع أيّام وشهور وسنوات الحرب".
هذا هو النّداء الّذي نوجّهه نحن القادة الدّينيّون من صميم قلوبنا إلى الحكّام. لنردّد صدى رغبة الشّعوب في السّلام. لنصبح صوت الّذين لا يُسمَعون والّذين لا صوت لهم. لنتحلّ بالجرأة للسّلام! وإذا كان العالم أصمّ عن هذا النّداء، فنحن على يقين بأنّ الله سيصغي إلى صلاتنا وأنين الكثيرين من المتألّمين. لأنّ الله يريد عالمًا خالياً من الحرب. وهو سيحرّرنا من هذا الشّرّ!"
