البابا يصدر رسالته لليوم العالميّ التّاسع والعشرين للمريض، ومضمونها؟
"إنَّ الاحتفال بيوم المريض العالميّ التّاسع والعشرين المصادف في الحادي عشر من شباط فبراير 2021، في تذكار الطّوباويّة مريم العذراء سيّدة لورد، هو يوم مناسب لنوجّه انتباهًا خاصًّا إلى المرضى، وإلى الّذين يخدمونهم، سواء في الأماكنِ المخصّصة للعلاج، أم في العائلات، والجماعات. يتوجّه الفكر بشكل خاصّ إلى جميع الّذين يعانون من آثار جائحة الكورونا في العالم كلّه. إلى الجميع، ولاسيّما إلى الأشدِّ فقرًا وتهميشًا، أعبِّر عن قربي الرّوحيّ، وأؤكّد لهم اهتمام الكنيسة ومحبَّتَها.
يستلهم موضوع هذا اليوم من المقطع الإنجيليّ الّذي فيه ينتقد يسوع رياء الّذين "يقولون ولا يفعلون". عندما يتمّ اختزال الإيمان إلى مجرّد ممارسات عقيمة، من دون الدّخول في تاريخ الآخر واحتياجاته، تُفقَدُ المصداقيّة بين الإيمان الّذي نُعلنه والواقع الّذي نعيشه. إنَّ الخطر كبير. ولذلك يستخدم يسوع عبارات شديدة، لكي يحذِّرَنا من الوقوع في عبادة الذّات ويؤكِّد: "لأنَّ لَكُم مُعَلِّمًا وَاحِدًا وَأَنتُم جَمِيعًا إخوَةٌ". إنَّ الانتقاد الّذي يوجِّهه يسوع للّذين "يقولون ولا يفعلون" هو سليم على الدّوام وموجّه للجميع، لأنّ لا أحد محصَّن ٌضدّ شرّ الرّياء، وهو شرٌّ جسيم جدًّا. ونتيجته أنّه يمنعنا من أن ننمو ونزهر كأبناء للآب الواحد، مدعوِّين إلى عيش أخُوّة عالميّة. إزاء حالة عوز الأخ والأخت يقدّم لنا يسوع موقفًا نموذجيًّا مناقضًا تمامًا للرّياء. ويقترح علينا أن نتوقَّف، ونصغي ونقيم علاقةً مباشَرةً وشخصيّةً مع الآخر، فنتعاطف معه، ونشاركه في شعوره، ونسمح لآلامه بأن تطالنا إلى حدِّ أن نأخذها على عاتقنا في الخدمة.
تجعلنا خبرة المرض نشعر بضعفنا، وفي الوقت عينه، تجعلنا نشعر بالحاجة الطّبيعيّة للآخر. تصبح حالتنا كـ"خليقة" أكثر وضوحًا، ونختبر بشكل جليٍّ اعتمادنا واتّكالنا على الله. في الواقع عندما نكون مرضى، يسيطر على أذهاننا وقلوبنا شعور بعدم الأمان، والخوف، واليأس أحيانًا؛ ونجد أنفسنا في حالة عجز، لأنّ صحّتنا غير مرتبطة لا بقدراتنا ولا "بجهودنا". إنَّ المرض يفرضُ سؤال معنى، يُوجَّه في الإيمان إلى الله: سؤال يبحث عن معنى جديد واتّجاه جديد للحياة، ولكنّه لا يجد، أحيانًا، إجابة على الفور. حتّى الأصدقاء والأقارب لا يمكنهم أن يساعدوننا على الدّوام في هذا البحث الصّعب.
في هذا الصّدد، تشّكل شخصيّة أيّوب في الكتاب المقدّس، مثالاً لنا. لم يتمكّن أصدقاؤه وزوجته من مرافقته في محنته، لا بل، اتّهموه، فزاد فيه الشّعور بالوحدة والضّياع، ووجد أيّوب نفسه في حالة من الخذلان وسوء الفهم. ولكن من خلال هذا الضّعف الشّديد، وبرفضه لكلّ رياء، واختياره لدرب الصّدق مع الله ومع الآخرين، بلغ صراخُه الشّديد إلى الله، الّذي استجاب له في النّهاية، وفتح أمامه أفقًا جديدًا. فأكّد له أنّ معاناته ليست عقابًا أو جزاء. كما أنّها ليست حالة ابتعادَ الله عنه أو علامةَ للامبالاته. وهكذا من قلب أيّوب الجريح الّذي شُفي، تدفّق هذا الإعلان المفعم بالمشاعر: "كُنْتُ قَد سَمِعْتُكَ سَمْعَ الأُذُنِ، أَمَّا الآنَ فَعَينِي قَد رَأَتْكَ".
إنّ المرض يملك وجهًا على الدّوام، ولكنّه ليس وجهًا واحدًا فقط، إنّه وجه كلّ مريض ومريضة، وكذلك أوجُهُ الّذين يشعرون بأنّهم منبوذون، أو مُبعَدون، وضحايا الظّلم الاجتماعيّ الّذين يُحرمون من حقوقهم الأساسيّة. لقد أظهرت الجائحة الحاليّة العديد من أنواع القصور في النّظم الصّحّيّة والنّقص في رعاية المرضى. كذلك فإنّ الحصول على العلاجات ليس مضمونًا على الدّوام للمسنّين وللأشخاص الأشدّ ضعفًا، وليس مُنصفًا على الدّوام. هذا الأمر يتعلّق بالخيارات السّياسيّة، وبطريقة إدارة الموارد والتزام الّذين يشغلون مناصب المسؤوليّة. إنَّ استثمار الموارد في رعاية المرضى ومساعدتهم هو أولويّة مرتبطة بالمبدأ القائل بأنّ الصّحّة هي خير عامّ أساسيّ. في الوقت عينه، أظهرت الجائحة أيضًا تفانيَ وسخاءَ العاملين الصّحّيّين والمتطوّعين والعمّال والكهنة والرّهبان والرّاهبات، الّذين وبمهنيّة وتضحية وحسّ مسؤولية ومحبّة للقريب ساعدوا وعالجوا وعزّوا وخدموا العديد من المرضى وعائلاتهم. جوق صامت من الرّجال والنّساء الّذين اختاروا أن ينظروا إلى تلك الوجوه، وأخذوا على عاتقهم جراح المرضى الّذين كانوا يشعرون بأنّهم قريبون بسبب انتمائهم المشترك إلى العائلة البشريّة.
إنَّ القرب من الآخر هو في الواقع بلسم ثمين، يعطي العضد والتّعزية للّذين يتألّمون بسبب المرض. وكمسيحيّين نحن نعيش القرب من الآخر كتعبير عن محبّة يسوع المسيح، السّامريّ الصّالح، الّذي اقترب بشفقة من كلّ إنسان جرحته الخطيئة. وبالتّالي إذ نتّحد به بقوّة الرّوح القدس، نحن مدعوّون لنكونَ رحماء مثل الآب ولنُحِبَّ بشكل خاصّ إخوتنا المرضى والضّعفاء والمتألّمين، ولنعيش هذا القرب بصورة شخصيّة وجماعيّة. في الواقع، إنّ المحبّة الأخويّة في المسيح تولّد جماعة قادرةً على الشّفاء، لا تتخلّى عن أحد، وتدمج وتقبل بشكل خاصّ الأشخاص الأشدّ ضعفًا. وفي هذا الصّدد، أرغب في أن أذكّر بأهمّيّة التّضامن الأخويّ، الّذي يُعبَّر عنه بشكل ملموس في الخدمة ويمكنه أن يأخذ أشكالاً مختلفة جدًّا، وموجّهة جميعها لدعم القريب. إنَّ الخدمة "تعني العناية بالضّعفاء في عائلاتنا، ومجتمعنا، وشعبنا". في هذا الالتزام، يمكن لكلّ فرد "أمام رؤية إخوته الضّعفاء، أن يضع احتياجاته وتوقّعاته جانبًا، وكذلك رغباته في السّيطرة […]. إنَّ الخدمة تنظر دائمًا إلى وجه الأخ، وتلمس جسده، وتشعر بقربه، بل، في بعض الحالات تأخذ عنه ألمه، وتسعى إلى مساندته. لهذا السّبب، فإنّ الخدمة ليست أبدًا "أيديولوجيّة": لأنّها لا تخدم أفكارًا، بل أشخاصًا.
لكي يكون العلاج ناجحًا، يلعب دورًا حاسمًا الجانب العلائقيّ الّذي من خلاله يمكن أن يتِمَّ التّعامل مع المريض بصورة شاملة. إنّ تقييم هذا الجانب يساعد أيضًا الأطبّاء والممرّضات والمهنيّين والمتطوّعين، على أن يأخذوا على عاتقهم الأشخاص الّذين يتألّمون، فيرافقونهم في مسيرتهم نحو الشّفاء، بفضل علاقة ثقة شخصيّة. يتعلّق الأمر إذًا بإنشاء عهد بين المحتاجين إلى العناية وبين الّذين يعتنون بهم. عهد يقوم على الثّقة والاحترام المتبادلَين، والصّدق، والجهوزيّة، للتّغلب هكذا على جميع الحواجز النّفسيّة، ووضع كرامة المريض في المحور، وحماية مهنيّة العاملين الصّحّيّين، والحفاظ على علاقة جيدة مع عائلات المرضى. هذه العلاقة مع الشّخص المريض تجد مصدرًا لا ينضب للدّوافع والقوّة في محبّة المسيح، كما تُظهر الشّهادة الألفيّة للرّجال والنّساء الّذين قدّسوا أنفسهم في خدمة المرضى. في الواقع من سرّ موت المسيح وقيامته تتدفّق المحبّة الّتي يمكنها أن تعطي المعنى الكامل لحالة المريض ولحالة الّذين يعتنون به. وهذا ما يؤكّده الإنجيل مرارًا، إذ يُظهر أنّ الشّفاءات الّتي قام بها يسوع لم تكن أبدًا أعمالاً سحريّةً، وإنّما كانت على الدّوام ثمرة لقاء، وعلاقة شخصيّة، يجيب فيها على عطيّةِ الله الّتي يقدّمها يسوع إيمانُ الشّخص الّذي يقبلها، كما تُلخِّص العبارة الّتي كان يسوع يكرّرها غالبًا: "إيمانك خلّصك".
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إنّ وصيّة المحبّة الّتي تركها يسوع لتلاميذه تتحقّق بصورة ملموسة في العلاقة مع المرضى. يكون المجتمع إنسانيًّا بقدر ما يعتني بأفراده الضّعفاء والمتألّمين، ويقوم بذلك بكفاءة تحرّكها المحبّة الأخويّة. لنسعَ إلى هذا الهدف، ولنعمل لكي لا يبقى أحد وحده، ولا يشعر أحد بأنّه مُبعَدٌ أو مخذول. إلى مريم العذراء، أمّ الرّحمة وشفاء المرضى، أُوكِلُ المرضى والعاملين الصّحّيّين وجميع الّذين يضحّون في سبيل المتألّمين. من مغارة لورد ومزاراتها العديدة المنتشرة في العالم هي تعضد إيماننا ورجاءنا، وتساعدنا لكي نعتني ببعضنا البعض، بمحبة أخويّة."