الفاتيكان
01 تموز 2025, 06:30

البابا لاون الرّابع عشر يعلي الصّوت في وجه الجوع

تيلي لوميار/ نورسات
حذّر البابا لاون الرّابع عشر من تفاقم أزمة الجوع في العالم، مستعرضًا أبرز التّحدّيات الّتي تعيق تحقيق هدف القضاء على الجوع، مستنكرًا تحويل الموارد من التّنمية إلى صناعة الأسلحة، واستغلال الجوع كسلاح في النّزاعات المسلّحة.

كلام البابا جاء في رسالة وجّهها إلى المشاركين في الدّورة الرّابعة والأربعين لمؤتمر منظّمة الأغذية والزّراعة للأمم المتّحدة، وكتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"أشكركم من أعماق قلبي على منحي الفرصة للتّوجّه للمرّة الأولى إلى منظّمة الأمم المتّحدة للأغذية والزّراعة (الفاو)، الّتي تحتفل هذا العام بالذّكرى الثّمانين لتأسيسها. وأحيّي بحرارة جميع المشاركين في هذه الدّورة الرّابعة والأربعين لمؤتمر الفاو، وهو جهازها الأعلى المسؤول عن توجيهها، ولاسيّما المدير العامّ السّيّد كو دونغيو، شاكرًا الجهود الّتي تبذلها المنظّمة يوميًّا من أجل إيجاد حلول مناسبة لمشكلة انعدام الأمن الغذائيّ وسوء التّغذية، والّتي لا تزال تمثّل أحد أكبر التّحدّيات في عصرنا.

إنّ الكنيسة تشجّع جميع المبادرات الّتي تهدف إلى وضع حدّ لفضيحة الجوع في العالم، مُتَّحدة في ذلك مع مشاعر ربِّها يسوع، الّذي يروي الإنجيل أنّه، عندما رأى جمعًا غفيرًا يقترب منه للاستماع إلى كلمته، اهتمّ أوّلًا بإطعامهم، وطلب من تلاميذه أن يتكفّلوا بالمشكلة، وبارك بوفرة الجهود الّتي تمَّ بذلها. لكن عندما نقرأ رواية ما يُعرف عادة بـ"تكثير الأرغفة"، ندرك أنّ المعجزة الحقيقيّة الّتي أتمّها المسيح تكمن في أنّه أظهر أنّ مفتاح القضاء على الجوع لا يقوم في التّكديس الجشع، بل في المشاركة. وهذا ما يبدو أنّنا قد نسيناه اليوم، لأنّه، رغم الخطوات المهمّة الّتي تحقّقت، لا يزال الأمن الغذائيّ العالميّ يشهد تراجعًا، ممّا يجعل تحقيق هدف "القضاء على الجوع" في أجندة عام ٢٠٣٠ أمرًا بعيد المنال. وهذا يعني أنّنا لا نزال بعيدين عن تحقيق الهدف الّذي أُنشئت من أجله هذه المؤسّسة الحكوميّة الدّوليّة سنة ١٩٤٥.

هناك أناس يعانون بشدّة ويتوقون إلى تلبية احتياجاتهم العديدة، ونحن نعلم جيّدًا أنّهم لا يستطيعون حلّها بأنفسهم. إنّ المأساة الدّائمة للجوع وسوء التّغذية المنتشرَين، والّتي لا تزال قائمة في العديد من البلدان اليوم، تبدو أكثر حزنًا وخزيًا عندما ندرك أنّ الأرض قادرة على إنتاج غذاء كافٍ لجميع البشر، وأنّه رغم الالتزامات الدّوليّة المتعلّقة بالأمن الغذائيّ، من المؤسف أنّ عددًا كبيرًا من فقراء العالم لا يزالون يفتقرون إلى خبزهم اليوميّ. ومن ناحية أخرى، نشهد اليوم بحزن الاستخدام الظّالم للجوع كسلاح في الحروب. إنّ تجويع السّكّان هو وسيلة رخيصة جدًّا لخوض الحرب. ولذلك، ففي زمن لا تُخاض فيه غالبيّة النّزاعات بين جيوش نظاميّة، بل على يد مجموعات مدنيّة مسلّحة ذات إمكانيّات محدودة، أصبحت تكتيكات مثل إحراق الأراضي، وسرقة الماشية، وقطع المساعدات، وسائل شائعة يستخدمها من يسعى للسّيطرة على شعوب عُزَّل. وهكذا، تصبح شبكات إمدادات المياه وطرق المواصلات أهدافًا عسكريّة أولى في هذه الأنواع من الصّراعات. فلا يستطيع المزارعون بيع منتجاتهم في بيئات يهدّدها العنف، وتتصاعد معدّلات التّضخّم بشكل كبير. وهذا يؤدّي إلى سقوط أعداد هائلة من النّاس فريسة للجوع، فيموتون، بينما تنمو طبقات السّلطة السّياسيّة وتزداد غنًى بالفساد والإفلات من العقاب. لذلك، حان الوقت لكي يتبنّى العالم حدودًا واضحة يتمُّ الاعتراف بها والاتّفاق عليها لمعاقبة هذه الانتهاكات وملاحقة مرتكبيها ومنفّذيها.

إنّ تأجيل إيجاد حلّ لهذا الواقع المؤلم لن يُفيد؛ بل على العكس، فإنّ آلام وضيقات المحتاجين ستستمرّ في التّراكم، ممّا يجعل الطّريق أكثر وعورة وتعقيدًا. لذلك، من الضّروريّ الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، من خلال اعتماد تدابير فعّالة تُمكّن هؤلاء الأشخاص من النّظر إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة وطمأنينة، لا فقط باستسلام، وبذلك نُعلن نهاية زمن الشّعارات والوعود المخادعة. وفي هذا السّياق، لا ينبغي أن ننسى أنّنا، عاجلًا أم آجلًا، سنُضطرّ لتقديم حساب للأجيال القادمة، الّتي سترث واقعًا من الظّلم وعدم المساواة إذا لم نتحرّك الآن بحكمة.

تلعب الأزمات السّياسيّة، والنّزاعات المسلّحة، والاضطرابات الاقتصاديّة، دورًا محوريًّا في تفاقم أزمة الغذاء، إذ تُعيق المساعدات الإنسانيّة وتُهدّد الإنتاج الزّراعيّ المحلّيّ، وتحرم النّاس ليس فقط من الحصول على الغذاء، بل من حقّهم في عيش حياة كريمة ومليئة بالفرص. سيكون خطأ جسيمًا أن نتجاهل الجراح والانقسامات الّتي خلّفتها سنوات من الأنانيّة والسّطحيّة. كذلك بدون السّلام والاستقرار، لن يكون من الممكن ضمان أنظمة زراعيّة وغذائيّة قادرة على الصّمود، ولا توفير غذاء صحّيّ ومتاح ومستدام للجميع. ومن هنا تنبع الحاجة إلى حوار، لا تقتصر فيه الأطراف المعنيّة على التّحدّث، بل تتحلّى كذلك بإرادة الإصغاء المتبادل، والفهم المتبادل، والعمل المشترك. بالتّأكيد لن تخلو الطّريق من العقبات، لكن بروح الإنسانيّة والأخوّة، لا بدّ أن تكون النّتائج إيجابيّة.

تتأثَّر الأنظمة الغذائيّة بشكل كبير في تغيّر المناخ، والعكس صحيح أيضًا. وبالتّالي يجب معالجة الظّلم الاجتماعيّ النّاتج عن الكوارث الطّبيعيّة وفقدان التّنوّع البيولوجيّ من أجل تحقيق انتقال بيئيّ عادل، يضع في المحور البيئة والأشخاص. ولحماية النّظم البيئيّة والجماعات الأكثر تهميشًا، ومن بينها الشّعوب الأصليّة، هناك حاجة إلى تعبئة للموارد من قِبل الحكومات، والهيئات العامّة والخاصّة، والمنظّمات الوطنيّة والمحلّيّة، من أجل تبنّي استراتيجيّات تُعطي الأولويّة لإعادة إحياء التّنوّع البيولوجيّ وغنى التّربة. فبدون عمل مناخيّ حاسم ومنسّق، سيكون من المستحيل ضمان أنظمة غذائيّة زراعيّة قادرة على إطعام عدد سكّان العالم المتزايد. إنّ إنتاج الغذاء وحده لا يكفي؛ بل من الضّروريّ أيضًا أن نضمن أن تكون الأنظمة الغذائيّة مستدامة، وتوفّر أنظمة غذائيّة صحّيّة وميسورة للجميع. نحن مدعوّون، إذًا، إلى إعادة التّفكير وتجديد أنظمتنا الغذائيّة، من خلال رؤية تضامنيّة، تتجاوز منطق الاستغلال الوحشيّ للخليقة، وتوجّه التزامنا نحو زراعة الأرض والعناية بالبيئة ومواردها، من أجل ضمان الأمن الغذائيّ والتّقدّم نحو تغذية كافية وصحّيّة للجميع.

نحن نشهد في هذا الزّمن الحاضر، استقطابًا هائلًا في العلاقات الدّوليّة، بسبب الأزمات والنّزاعات القائمة. كذلك تتحوّل الموارد الماليّة والتّكنولوجيّات المبتكرة، الّتي كان من الممكن أن تُستخدم في القضاء على الفقر والجوع في العالم، إلى صناعة وتجارة الأسلحة. وبهذا، تُغذّى أيديولوجيّات مشبوهة، فيما يُسجَّل فتور متزايد في العلاقات الإنسانيّة، الأمر الّذي يُفسد روح الشّركة ويقضي على الأخوّة والصّداقة الاجتماعيّة. لم تكن الحاجة في أيّ وقت مضى ملحّة كما هي الآن لأن نصبح صانعي سلام، نعمل من أجله من أجل الخير العامّ، أيّ لما فيه مصلحة الجميع، وليس لفئة قليلة فحسب، وهم، في العادة، دائمًا أنفسهم. ولضمان السّلام والتّنمية- بمعناها الحقيقيّ كتحسين لظروف حياة الشّعوب الّتي تعاني من الجوع والحرب والفقر- من الضّروريّ القيام بأعمال ملموسة، تستند إلى رؤى جادّة وبعيدة النّظر. ومن ثمّ، ينبغي التّخلّي عن البلاغات العقيمة، والتّحلّي بإرادة سياسيّة حازمة، كما قال البابا فرنسيس، من أجل "تسوية الخلافات، وتعزيز مناخ من التّعاون والثّقة المتبادلة، لتلبية الاحتياجات المشتركة".

أيّتها السّيّدات والسّادة، لتحقيق هذه الغاية النّبيلة، أودّ أن أؤكّد أنّ الكرسيّ الرّسوليّ سيبقى دائمًا في خدمة الوفاق بين الشّعوب، ولن يَكِلّ من العمل من أجل الخير العامّ لعائلة الأمم، مع إيلاء اهتمام خاصّ لأولئك البشر الّذين يتألّمون أشدّ المعاناة، من جوع وعطش، وكذلك لتلك المناطق النّائية الّتي لا تستطيع النّهوض من انكسارها بسبب لا مبالاة الّذين كان ينبغي أن يكون التّضامن الثّابت والرّاسخ شعارًا لحياتهم. وبهذا الرّجاء، إذ أُعبِّر عن صوت جميع المتألّمين في العالم بسبب الفقر، أرفع صلاتي إلى الله القدير كي تثمر أعمالكم ثمارًا وافرة وتعود بالخير على المحتاجين وعلى البشريّة جمعاء."