البابا في مقابلته العامّة: عن الصّلاة الإفخارستيّة
"بعد الانتهاء من تقديم الخبز والخمر، تبدأ الصّلاة الإفخارستيّة، الّتي تميّز الاحتفال بالقدّاس، وتشكّل محورَه الموجّه نحو المناولة المقدّسة. وتتلاءم مع ما فعله يسوع نفسه على المائدة مع الرّسل في العشاء الأخير، - وكما سمعنا - إذ "شكر" على الخبز وعلى كأس الخمر: إن شكْره يعيش مجدّدًا في كلّ إفخارستيّا عبر إشراكنا في ذبيحته الخلاصيّة.
تعبّر الكنيسةُ، في هذه الصّلاة الاحتفاليّة، - لأنّ الصّلاة الإفخارستيّة هي احتفاليّة- عمّا تقوم به عندما تحتفل بالإفخارستيّا وعن السّبب الّذي من أجله تحتفل بها، ألا وهو الشّركة مع المسيح الحاضر فعلاً في الخبز والخمر المكرّسَين. بعد أن يدعو الكاهن الشّعب إلى رفع القلوب إلى الرّبّ وشكره، يتلو الصّلاة الإفخارستيّة بصوت عالٍ، باسم جميع الحاضرين، متوجّهًا إلى الآب بواسطة يسوع المسيح في الرّوح القدس. "معنى هذه الصّلاة هو أن تتّحد جماعة المؤمنين كلّها مع المسيح في تسبيح أعمال الله العظيمة وفي تقديم الذّبيحة". ولكي تتّحد عليها أن تفهم، ولذلك أرادت الكنيسة أن تحتفل بالذّبيحة الإلهيّة باللّغة الّتي يفهمها النّاس، لكي يتّحدوا مع الكاهن في التّسبيح وفي هذه الصّلاة العظيمة. في الواقع "إنّ ذبيحة المسيح وذبيحة الإفخارستيّا هي ذبيحة واحدة".
توجد في كتاب القدّاس أشكال مختلفة للصّلاة الإفخارستيّة، تتألّف جميعها من عناصر مميّزة، أودّ أن أذكّر بها، وجميعها جميلة جدًّا (راجع النّظام العامّ لكتاب القدّاس الرّومانيّ، 79؛ التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، ١٣٥٢-١٣٥٤). هناك قبل كلّ شيء "المقدّمة"، وهي عبارة عن عمل شكر على عطايا الله، خصوصًا على إرساله ابنه كمخلّص، وتُختتم بإعلان الـ"قدّوس": "قدّوس، قدّوس، قدّوس الرّبّ". وهو لأمر جميل أن ننشده إذ تضمُّ الجماعة كلّها صوتها إلى صوت الملائكة والقدّيسين لتسبيح الله وتمجيده.
ثمّ هناك استدعاء الرّوح القدس لكيّ يكرّس بقوّته الخبز والخمر. نستدعي الرّوح القدس لكي يحلَّ على الخبز والخمر ليتحوّلا إلى جسد ودم يسوع. إنّ عمل الرّوح القدس وفعاليّة كلمات المسيح الّتي يتفوّه بها الكاهن تجعلان حاضرًا، تحت شكلَيّ الخبز والخمر، جسدَ المسيح ودمه، ذبيحته الّتي قدّمها على الصّليب مرّة واحدة إلى الأبد (راجع التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، ١٣٧٥). ويسوع كان واضحًا جدًّا في هذا الأمر. لقد سمعنا في البداية كيف نقل إلينا القدّيس بولس كلمات يسوع: "هذا هو جسدي وهذا هو دمي"؛ يسوع نفسه قد قال هذا، وبالتّالي لا يجب أن نسمح للأفكار الغريبة أن تُشكِّكنا مفكِّرين في أنفسنا: "ولكن كيف يكون هذا..." علينا أن نؤمِن أنّه جسد الرّبّ، في هذا الإطار يأتي الإيمان لمساعدتنا. هذا هو "سرّ الإيمان" كما يعلن الكاهن بعد التّقديس ونحن نُنشد الإعلان. عند احتفالها بذكرى موت وقيامة الرّبّ من بين الأموات، بانتظار عودته المجيدة، تقدّم الكنيسة للآب الذّبيحة الّتي تُصالح السّماء والأرض: تقدّم ذبيحة المسيح الفصحيّة، مقدّمة نفسها معه، وتطلب بقوّة الرّوح القدس أن تصبح "في المسيح جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا". إنَّ الكنيسة تريد أن تتّحد بالمسيح وتصبح معه جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا. هذه هي نعمة وثمرة المناولة الأسراريّة: نتغذّى من جسد المسيح كي نصبح، نحن الّذين نأكل منه، جسده الحيّ اليوم في العالم.
هذا هو سرّ الشّركة إذ تتّحد الكنيسة بتقدمة المسيح وبتشفّعه. في هذا السّياق "تُمَثَّل الكنيسة غالبًا في الدّياميس بشكل امرأة تصلّي وذراعاها منبسطتان، في موقف صلاة؛ إنّها الكنيسة الّتي تُصلّي. ما أجمل أن نفكِّر أنَّ الكنيسة تصلّي. هناك مقطع في كتاب أعمال الرّسل حيث نقرأ أنّه عندما كان بولس في السّجن كانت صلاة الجماعة ترتفع إلى الله باستمرار من أجله. هذه هي الكنيسة المصلّية، وهذا ما نقوم به عندما نذهب إلى القدّاس: نُكوِّن الكنيسة المُصليّة. فكما بسط المسيح ذراعيه على الصّليب، تقرّب الكنيسة ذاتها به ومعه وفيه شافعةً في جميع النّاس.
تطلب الصّلاة الإفخارستيّة من الله أن يجمع كلّ أبنائه في كمال المحبّة، متّحدين مع البابا والأساقفة، الّذين يُذكرون بأسمائهم، كعلامة على أنّنا نحتفل بشركةٍ مع الكنيسة الجامعة ومع الكنيسة الخاصّة. إنّ التّضرُّع، شأن التّقدمة، يُرفَع إلى الله من أجل أعضاء الكنيسة كافّة، الأحياء منهم والأموات، بانتظار رجاء مقاسمة الميراث الأبديّ في السّماوات، مع العذراء مريم. إنَّ الصّلاة الإفخارستيّة لا تغفل عن ذكر أحد أو أيّ شيء، إذ إنّ الله يكون مرجع الكلّ، كما يذكّر التّسبيح الّذي يختتمها. لا يُنسى أحد. وإن كان لديّ أشخاص: أهل أو أصدقاء يحتاجون للصّلاة أو قد عبروا من هذا العالم يمكنني أن أذكرهم في تلك اللّحظة بصمت في داخليّ أو أن أطلب من الكاهن أن يذكرهم على المذبح. قد يسألني أحدكم: "ولكن يا أبتي كم يتوجّب عليَّ أن أدفع لكي يُذكر اسمي؟"، "لا شيء أبدًا! هل تفهمون هذا؟ لأنَّ القدّاس لا سعر له. القدّاس هو تضحية المسيح وهو مجانيّ والفداء مجانيّ. إن أردت أن تترك تقدمة للكاهن فليكن ولكنّك لا تدفع سعر القدّاس، وهذا أمر مهمٌّ يجب أن نفهمه جميعًا.
قد نشعر أنَّ هذه الصّيغة الرّمزيّة للصّلاة، بعيدةً عنّا بعض الشّيء، - وهذا صحيح لأنّها صيغة قديمة - لكن إن فهمنا معناها جيّدًا، نشارك فيها بطريقة أفضل. إنّها تعبّر عن كلّ ما نقوم به في الاحتفال الإفخارستيّ؛ كما أنّها تعلّمنا أن ننمّي تصرّفات ثلاثة يجب ألّا تغيب أبدًا عن تلاميذ يسوع: أوّلاً، تعلُّم رفع الشّكر دائمًا وأينما وُجدنا، وليس فقط في بعض الحالات عندما يكون كلّ شيء على ما يرام؛ ثانيًا، أن نجعل من حياتنا هبةَ محبّة حرّةٍ ومجانيّة؛ ثالثًا، بناء الشّركة الملموسة في الكنيسة ومع الجميع. إذًا إنّ صلاة القدّاس المحوريّة هذه تعلّمنا شيئًا فشيئًا أن نجعل من حياتنا كلّها "إفخارستيّا"، أيّ فعل شكر".