البابا في العراق والرّجاء في لبنان
""أجل أوافيكم حاجًّا يشوقني السّلام، وأسعى خلف الأخوّة، وتدفعني الرّغبة في أن نصلّي معًا ونسير معًا، ومع الإخوة والأخوات من التّقاليد الدّينيّة الأخرى أيضًا، تحت راية أبينا إبراهيم، الذي يجمع في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين"... كلمات من رسالة وجّهها بابا روما إلى العراقيّين عشيّة زيارته التّاريخيّة إلى هذا البلد الممزّق الذي نكبته مؤامرات الدّول الكبرى بتأييد من دول الجوار، لكي يمحو تاريخه وآثاره وذاكرته في العهدين القديم والجديد. عرف العراق حضارات كثيرة خلال حقبات تاريخيّة خلّفت وراءها آثارًا تزيّن مختلف المحافظات والمدن العراقيّة وصارت محجًّا هامًّا ليس للعراقيّين فحسب بل لكلّ من رغب في الاطّلاع على التّاريخ القديم لشعوب تلك المنطقة. ومع إشراقة الإيمان المسيحيّ وصلت رسالة الإنجيل إلى مدنه وقراه في القرن الأوّل فآمن الكثيرون من شعبه بالرّبّ يسوع المسيح. توسّعت المسيحيّة حتّى وصلت إلى معظم العراق وخاصّة في المناطق التي قطنها السّريان والآراميّون والكلدانيّون والأشوريّون. طبعًا ما من شكّ أن ضرب العراق لم يكن يومًا بسبب الأسلحة الكيماويّة أو غيرها، إنّما طمعًا في ثرواته النّفطيّة وثرواته الإنسانيّة، ولست هنا لأدافع عن نظام صدّام وما حمله من ديكتاتوريّات في حقّ شعبه إنّما البديل كان التّهجير والتّنكيل والقتل والدّمار وتغيير ديموغرافيّة البلد وتحديدًا المسيحيّين الذين هربوا من بلادٍ كانوا في أساس تكوينها ونهضتها وعراقتها وتطوّرها. من الملاحظ أنّ المسيحيّين يدفعون الثّمن الغالي في هذا الشّرق الإنطاكيّ الحزين من سوريا إلى لبنان وصولًا إلى العراق، والسّبب بسيط ناتجٌ عن الخوف المتعدّد الأسباب، ولذلك طلب الهجرة ازداد لدى المسيحيّين بشكلٍ كبير ولولا جائحة الكورونا لكان معظمهم بات خارج الدّيار قاصدين الدّول الكبرى التي تدّعي الدّيمقراطيّة وهم براء من هذه الصّفة، وقد لمسنا نتائج هذه الدّيمقراطيّة المزيّفة.
زيارة بابا روما للعراق صرخة في وجه الباطل، رسالة للعالم في أحقّيّة العيش بسلام بدون دكتاتوريّة من هنا أو ديمقراطيّة من هناك. شعب هذه المنطقة ضاق ذرعًا بالويلات والمصائب نتيجة المؤامرات التي تحاك ضدّه. شعب منطقتنا طيّب ومحبّ ومعطاء ومتواضع وأصيل في جذوره وعاداته وتقاليده وقيمه، شعب هذه المنطقة خلّاق وناجح وما أصاب المسيحيّين في هذا الشّرق أصاب أخوة لهم من المسلمين والموحّدين الحياديّين والمعتدلين الرّافضين للتّطرّف والإرهاب، شأنهم شأن إخوتهم في المواطنة وهم العالمون بأنّ المسيحيّين في هذا الشّرق ملحُ هذه الأرض وتجذّرهم فيه منذ ألفي عام هو رمزٌ للتّعايش والتّنوّع وحاملٌ لتراث عظيم أغنى هذا الشّرق بالمحبّة والتّسامح والعلم والثّقافة والمعرفة. هذا التّنوّع قيمة مضافة للجميع ولبنان الحقيقيّ بشعبه ونهجه رسالة للعالم أجمع. أنا لا أجد بلدًا فيه تواصل وتفاعل يوميّ وصداقات ومودّات بين المواطنين من كافّة الطّوائف نظير وطننا الحبيب لبنان، لذا على المسؤولين والقيّمين على شؤون وشجون هذا البلد ترك المواطنين يعيشون هذا الغنى بدون تسييس أو انحراف لحقيقة وجودنا.
المسيحيّون في هذا الشّرق متأصّلون وزيارة البابا فرنسيس إلى العراق تصبّ في هذه الخانة لأنّ الفاتيكان يعرف أنّ الشّرق منبع المسيحيّة وانتشار رسالتها في العالم انطلقت من هذه الأرض وبقاءهم له رمزٌ كبير ليس فقط لقدسيّة الأرض إنّما لما انتجوه من فكر لاهوتيّ وعقائديّ أغنى العالم المسيحيّ منذ القرون الأولى، وقد لعبت الكنيسة في الشّرق دور التّقارب بين المسيحيّين في العالم عند نشوء الأزمات، وساهمت الكنيسة الشّرقيّة في تقريب وجهات النّظر عند حدوث الانشقاقات.
من هنا على كلّ مواطن صالح مد اليد للآخر لأجل أن نحافظ سويًا على هذا التّاريخ العريق ولا نكتفي بالمجاملات واللّياقات، إنّما هو فعلُ إيمان نعيشه كلّ يوم في حياتنا.
هذه قناعة أسجّلها للتّاريخ وقد اختبرت هذا التّفاعل من خلال عملي الرّعائيّ في مدينة الشّويفات التي برهنت الأزمات أنّ الإنسانيّة تجمعنا، ونترجمه بالتّواصل والتّفاعل اليوميّ في كافّة الأمور وعلى كافّة الصّعد والمستويات.
زيارة قداسة البابا فرنسيس للعراق رسالة رجاء أيضًا للّبنانيّين لأجل أن يكونوا مثالًا للعالم أجمع في الوحدة والتّنوع وعدم تخوين بعضهم البعض، وأن يسعوا إلى ضرب أيّ مؤامرة تستقصد وحدتهم من أيّ جهّة أتت، والعمل على وأد الفتن الطّائفيّة المتنقّلة والتي تغذّيها جهات ودول متعدّدة. لبنان آمانة في أعناقنا فلنعمل على تحصينه من خلال الثّقة المتبادلة المبنيّة على الاحترام وقبول الآخر بدون التّبعيّة لأحد، مصلحة لبنان واللّبنانيّين قوامها التّفاهمات الدّاخليّة لا الاستقواء بالخارج، حان لنا أن نعي أنّ خلاصنا لا يكون إلّا بالدّولة القويّة العادلة المبنيّة على أسس مدنيّة واضحة وبجيشٍ قويّ رادع وعدم تسييس المواطنين واستغلالهم لغايات ومصالح خاصّة، فالهيكل إذا تهدّم سيأتي على رؤوس الجميع، الفرصة لم تزل مؤاتية للإصلاح رغم كل الإنهيارات فلبنان غنيّ ليس بموارده إنّما بشعبه المميّز والإستثنائي الذي استطاع أن يحلّق ويتجلّى في العالم أجمع. يا حكّام بلدي أقفلوا خطوط الاتّصال بالخارج، إصحوا وعودوا إلى ضميركم حتّى لا يتقيّأكم التّاريخ من صفحاته."