البابا فرنسيس: يسوع موجود بالقرب من الفقراء وينتظرنا هناك، فيهم
"إنَّ الصُّوَرُ الّتي استخدمها يسوع، في الجزء الأوّل من إنجيل اليوم، تثير فينا الذّعر: تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات. ولكن بعدها، يفتحنا الرّبّ على الرّجاء: لأنّه في لحظة الظّلام الحالك تلك سيأتي ابن الإنسان. وفي الوقت الحاضر يمكننا أن نتأمّل علامات مجيئه، كما هو الحال عندما نرى شجرة التّين قد لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، لأنّ الصَّيفَ قد أصبح قَريبًا.
يساعدنا هذا الإنجيل على قراءة التّاريخ، من ناحيتين: ألم الحاضر ورجاء الغد. من ناحية، نجد تذكيرًا بجميع التّناقضات الأليمة الّتي يغرق فيها الواقع البشريّ في كلِّ زمن، ومن ناحية أخرى، نجد مستقبل الخلاص الّذي ينتظر هذا الواقع، أيّ اللّقاء مع الرّبّ الّذي سيأتي ليحرّرنا من كلّ شر. لننظر إلى هذين الجانبين بنظرة يسوع.
الجانب الأوّل: ألم الحاضر. نحن داخل تاريخ مطبوع بالمحن والعنف والآلام والظّلم، وننتظر تحريرًا يبدو أنّه لن يأتي أبدًا. لاسيّما وأنَّ الذين يُجرحون ويُظلمون وأحيانًا أيضًا يُسحقون هم الفقراء، الحلقات الأضعف في السّلسلة. إنَّ اليوم العالميّ للفقراء، الّذي نحتفل به، يطلب منّا ألّا نلتفتَ إلى الجهة الأخرى، وألّا نخاف من أن ننظر عن كثب إلى ألم الأشخاص الأشدَّ ضعفًا، الّذين يُعتبر إنجيل اليوم آنيًّا جدًّا بالنّسبة لهم: إذ غالبًا ما تُظلم شمس حياتهم بالوَحدة، وينطفئ قمر انتظاراتهم، وتسقط نجوم أحلامهم في الاستسلام، وتنقلب حياتهم رأسًا على عقب. هذا كلّه بسبب الفقر الّذي غالبًا ما يُجبر عليه، ضحايا الظّلم وعدم المساواة في مجتمع الإقصاء، الّذي يركض بسرعة بدون أن يراهم ويتركهم لمصيرهم، دون اكتراث.
ولكن من ناحية أخرى، هناك الوجه الثّاني: رجاء الغد. إنَّ يسوع يريد أن يفتحنا على الرّجاء، وأن ينتزعنا من القلق والخوف إزاء ألم العالم. لهذا يؤكّد أنّه يقترب، بينما تظلم الشّمس ويبدو أنّ كلّ شيء ينهار. في أنين تاريخنا الأليم، هناك مستقبل خلاص بدأت تتكوَّن براعمه. إنَّ رجاء الغد يزهر في ألم الحاضر. نعم، إنَّ خلاص الله ليس مجرّد وعد لما بعد الموت، ولكنّه ينمو منذ الآن في تاريخنا الجريح، ويشقّ طريقه عبر اضطهادات وظلم العالم. وفي وسط بكاء الفقراء بالذّات، يتفتح ملكوت الله مثل أوراق الشّجر اللّيّنة ويقود التّاريخ إلى هدفه، إلى اللّقاء الأخير مع الرّبّ يسوع، ملك الكون الّذي سيحرّرنا بشكل نهائيّ.
لنسأل أنفسنا إذًا: ماذا يُطلب منّا نحن المسيحيّين؟ يُطلب منّا أن نغذيّ رجاء الغد من خلال شفاء ألم الحاضر. إنّ الرّجاء الّذي يولد من الإنجيل، في الواقع، لا يقوم على الانتظار الخامل لغد ستكون فيه الأمور أفضل، وإنّما في جعل وعد الله بالخلاص ملموسًا في الحاضر. اليوم، وكلّ يوم. إنَّ الرّجاء المسيحيّ ليس التّفاؤل السّعيد لمن يأمل في أن تتغيّر الأمور، فيما يستمرّ بمواصلة حياته، وإنّما هو أن نبني يوميًّا وبتصرّفات ملموسة ملكوت المحبّة والعدالة والأخوّة الّذي دشّنه يسوع. ولذلك يُطلب منّا أن نكون بين أنقاض العالم اليوميّ، بُناة رجاء لا يكلّون، ونورًا بينما تظلم الشّمس، وشهود شفقة بينما يسود حولنا عدم الاهتمام، وحضورًا متنبهًّا وسط اللّامبالاة المنتشرة.
لقد عاد إلى ذهني مؤخّرًا ما كان يكرّره أحد الأساقفة القريب من الفقراء، الأب تونينو بيلو: "لا يمكننا أن نتوقّف عند الرّجاء، بل يجب أن ننظّمه". أيّ إن لم يُتَرجَم رجاؤنا إلى خيارات ومواقف ملموسة من الاهتمام والعدالة والتّضامن والعناية بالبيت المشترك، لن نتمكّن من تخفيف آلام الفقراء، ولن نتمكّن من تغيير اقتصاد الإقصاء الّذي يجبرهم على العيش على الهامش، ولن تُزهر انتظاراتهم. وبالتّالي علينا نحن المسيحيّين بشكل خاصّ أن ننظّم الرّجاء ونترجمه إلى حياة يوميّة ملموسة، في العلاقات البشريّة، وفي الالتزام الاجتماعيّ والسّياسيّ.
هناك صورة رجاء يقدّمها لنا يسوع اليوم. إنّها بسيطة ومُعبِّرة في الوقت عينه: إنّها صورة أوراق شجرة التّين، الّتي تنبت بصمت، وتشير إلى اقتراب الصّيف. ويؤكّد يسوع أنّ هذه الأوراق تظهر عندما يصبح الغصن ليِّنًا. أيّها الإخوة والأخوات، هذه هي الكلمة الّتي تجعل الرّجاء ينبت في العالم وتخفّف ألم الفقراء: الحنان. وبالتّالي يتعلّق الأمر بنا لكي نتغلّب على الانغلاق، والتّشدّد الدّاخليّ، وتجربة الانشغال فقط بمشاكلنا، لكي نلين إزاء مآسي العالم، ونتعاطف مع الألم. مثل أوراق الشّجرة اللّيّنة، نحن مدعوّون لكي نمتصَّ التّلوّث الّذي يحيط بنا ونحوّله إلى خير: لا ينفعنا أن نتكلّم عن المشاكل، ونتجادل، ونتشكّك، إنّها أمور يقوم بها الجميع، وإنّما ما ينفعنا هو أن نتشبّه بالأوراق الّتي تحوّل يوميًّا الهواء الملوّث إلى هواء نظيف بدون أن تلفتَ الأنظار. يريدنا يسوع أن نكون "محوِّلين إلى الخير": أشخاص منغمسون في الهواء الثّقيل الّذي يتنفّسه الجميع، ولكنّهم يجيبون على الشّرّ بالخير. أشخاص يتصرّفون: يكسرون الخبز مع الجياع، ويعملون من أجل العدالة، ويرفعون الفقراء ويعيدون إليهم كرامتهم.
تكون الكنيسة جميلة، وإنجيليّة، وشابّة حين تخرج من ذاتها وتعلن على مثال يسوع البشرى السّارّة للفقراء. هذه كنيسة نبويّة تقول بحضورها لتائهي القلوب والّذين همّشهم العالم: "تشجّعوا، إنَّ الرّبّ قريب. لكم أيضًا هناك صيف يطلع في قلب الشّتاء. ومن ألمكم أيضًا، يمكن أن يبزغ فجر الرّجاء". لنحمل نظرة الرّجاء هذه إلى العالم. لنحملها بحنان للفقراء، من دون أن نحكم عليهم. لأنّ يسوع موجود هناك، بالقرب منهم. ولأنّ يسوع ينتظرنا هناك، فيهم."