البابا فرنسيس: يسوع أهدانا صلاته كبذرة للثّالوث
"في مسيرة تعليمنا حول الصّلاة، بعد أن عبرنا العهد القديم نصل الآن إلى يسوع. إنّ بداية رسالته العلنيّة قد تمّت بالمعموديّة في نهر الأردنّ. ويتّفق الإنجيليّون في إعطاء أهمّيّة اساسيّة لهذا الحدث، فيخبرون كيف أنَّ الشّعب كان يصلّي ويحدّدون أنّ هذا الاحتشاد يحمل طابع توبة واضح.
وبالتّالي فإنّ أوّل عمل عَلَنيّ ليسوع هو المشاركة في صلاة الشّعب الجماعيّة، صلاة توبة حيث يعترف الجميع بأنّهم خطأة. لذلك مانعه المعمدان قائلاً: "أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟". لكنَّ يسوع أصرَّ وعمله هذا هو فعل طاعة لمشيئة الآب، فعل تضامن مع حالتنا البشريّة. فهو يصلّي مع الخطأة من شعب الله. ولم يبقَ على الضّفّة الأخرى من النّهر لكي يسلّط الضّوء على اختلافه ويبقى على مسافة من الشّعب غير الطّائع بل غاص برجليه في مياه التّطهير عينها.
يسوع ليس إلهًا بعيدًا ولا يمكنه أن يكون كذلك أبدًا. والتّجسّد قد أظهر ذلك بشكل تامّ ولا يتصورّه إنسان. هكذا وإذ يبدأ رسالته يضع يسوع نفسه في مقدّمة شعب من التّائبين، كمن يأخذ على عاتقه بأن يفتح فجوة علينا جميعًا أن نتحلّى بالشّجاعة لعبورها من بعده. يشرح التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة أنّ هذه هي حداثة ملء الأزمنة، ويقول: "إنّ الصّلاة البنويّة الّتي ينتظرها الآب من أبنائه، سيعيشها في النّهاية الابن الوحيد في بشريّته مع البشر ومن أجلهم" (عدد 2599).
في ذلك اليوم، على ضفاف نهر الأردنّ كانت البشريّة بأسرها حاضرة بشوقها الخفيّ للصّلاة. كان هناك بشكل خاصّ شعب الخطأة: أولئك الّذين كانوا يعتقدون بأنّ الله لا يحبّهم والّذين ما كانوا يجرؤون على الذّهاب أبعد من عتبة الهيكل والّذين ما كانوا يصلّون لأنّهم ما كانوا يشعرون بأنّهم أهلٌ للصلاة. لقد جاء يسوع من أجل الجميع ومن أجل هؤلاء أيضًا وهو يبدأ بالاتّحاد معهم.
إنَّ إنجيل لوقا بشكل خاصّ يسلّط الضّوء على جوّ الصّلاة الّذي تمَّت فيه معموديّة يسوع: "ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضًا وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء". وبصلاته فتح يسوع باب السّماء ومن تلك الفتحة نزل الرّوح القدس وأعلن صوت من العلى الحقيقة الرّائعة: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت". هذه الجملة البسيطة تحمل في داخلها كنزًا كبيرًا: تجعلنا نفهم شيئًا من سرِّ يسوع وقلبه الموجّه على الدّوام نحو الآب. في دوّامة الحياة والعالم الّذي سيأتي ليدينه، حتّى في التّجارب الأكثر صعوبة وحزنًا الّتي وُجب عليه أن يحتملها، حتّى عندما اختبر أنّه ليس لديه مكان ليلقي رأسه، وحتّى عندما ثار حوله الحقد والاضطهاد لم يبقَ يسوع بدون ملجأ لأنّه يعيش في الآب للأبد. هذه هي عظمة صلاة يسوع الفريدة: ينزل عليه الرّوح القدس وصوت الآب يشهد أنّه هو المحبوب، الابن الّذي ينعكس فيه بشكل كامل.
إنّ صلاة يسوع هذه، والّتي كانت صلاة شخصيّة عند ضفاف الأردنّ– وهكذا ستبقى أيضًا خلال حياته الأرضيّة كلّها– ستصبح في العنصرة بفضل النّعمة صلاة جميع المعمّدين في المسيح. هو الّذي نال لنا هذه العطيّة ويدعونا لنصلّي مثله.
لذلك إن شعرنا في إحدى أمسيات الصّلاة بأنّنا تعبين وفارغين وبدا لنا أنّ الحياة كانت بلا فائدة علينا في تلك اللّحظة بالذّات أن نطلب بأن تصبح صلاة يسوع صلاتنا أيضًا؛ وسنسمع عنده صوتًا من السّماء أقوى من ذلك الصّوت الّذي يرتفع من أعماق ذواتنا يهمس لنا بحنان: "أنت محبوب الله، أنت ابن، أنت فرح الآب السّماويّ". لنا نحن بالتّحديد ولكلّ فرد منّا يتردّد صدى كلمات الآب هذه حتّى لو رفَضَنا الجميع كأسوأ أنواع الخطأة. إنّ يسوع لم ينزل في مياه الأردنِّ من أجل نفسه وإنّما من أجلنا جميعًا، لقد فتح السّماوات مثلما شقَّ موسى مياه البحر الأحمر لكي نتمكّن جميعًا من العبور خلفه. إنّ يسوع قد أهدانا صلاته الّتي هي حوار محبّة مع الآب، لقد أعطانا إيّاها كبذرة للثّالوث الّذي يريد أن يتجذّر في قلوبنا، فلنقبله!".