أميركا
19 كانون الثاني 2018, 11:01

البابا فرنسيس يختتم زيارته إلى تشيلي بقدّاس إلهيّ

في ختام زيارته إلى تشيلي، ترأّس البابا فرنسيس صباح الخميس قدّاسًا احتفاليًّا في ساحة لوبيتو بمدينة إكيكي، في عيد الطّوباويّة مريم العذراء سيّدة جبل الكرمل، تحدّث خلاله عن أولى آيات يسوع في قانا الجليل فقال نقلاً عن "إذاعة الفاتيكان":

 

"هكذا يُختتم الإنجيل الّذي سمعناه، والّذي يحدّثنا عن أوّل ظهور علنيّ ليسوع: والّذي حصل خلال احتفال. وكان أمرًا لا مفرّ منه بما أنّ الإنجيل يشكّل دعوة متواصلةً للفرح. منذ البدء قال الملاك لمريم "افرحي" (لوقا ۱، ۲۸). كما قال "افرحوا" للرّعاة ولإليصابات، هذه المرأة المسنّة والعاقر؛ وقال يسوع للصّ، "افرح" لأنّك ستكون معي اليوم في الفردوس (راجع لوقا ۲۳، ٤۳).

رسالة الإنجيل هي مصدر فرح: "قلتُ لكم هذه الأشياء ليكون بكم فرحي، فيكون فرحُكم تامًّا" (يوحنا ١٥، ١١). فرح ينتقل من جيل إلى جيل، ونحن قد ورثناه.

كم تعلمون هذا جيّدًا أيّها الأخوة الأعزّاء في شمال التّشيلي! كم تعرفون كيف تعيشون الفرح والحياة في جوّ من الاحتفال! جئتُ كحاجّ لأحتفل معكم بهذه الطّريقة الجميلة لعيش الإيمان. إنّ أعياد شفعائكم، ورقصاتِكم الدّينيّةـ الّتي تستمرّ طيلة أسبوعـ وموسيقاكم وأزياءَكم تجعل من هذه المنطقة مزارًا للتّقوى الشّعبيّة. لأنّ العيد لا يبقى منغلقًا داخل المعبد، بل يتمكّن من إضفاء أجواء العيد على القرية كلّها. إنّكم تعرفون كيف تحتفلون من خلال غناء ورقص "الأبوّة، والعناية، والحضور المُحبّ والمتواصل، وهذا يولّد مواقف داخليّة تصعب رؤيتها بالزّخم ذاته في أيّ مكان آخر. صبر ومعنى الصّليب في الحياة اليوميّة، التّقشّف والانفتاح على الآخرين والتّعبّد". هكذا تتحقّق كلمات النّبيّ أشعيا "فتصير البرّيّةُ بستانًا ويُحسب البستان وعرًا" (أشعيا ۳۲، ١٥). هذه الأرض حيث توجد أهمّ برّيّة قاحلة في العالم تعرف كيف تلبس العيد.

في أجواء العيد هذه، يقدّم لنا الإنجيل عمل مريم كي ينتصر الفرح. إنّها متنبهة لكلّ ما يحصل من حولها، وكأمّ صالحة لم يهدأ لها بالٌ، فاستشعرت أنّه خلال هذا الاحتفال، وفي خضمّ الفرح المتقاسَم، بدأ يحصل أمر ما: ثمّة شيء يمكن أن يخفّف من بهجة العيد. فاقتربت من ابنها، والكلمات الوحيدة الّتي سمعناها تقولها هي التّالية: "ليس عندهم خمر" (يوحنا ۲، ۳).

هكذا تطوف مريم في قرانا، في شوارعنا وساحاتنا وبيوتنا ومستشفياتنا. مريم هي عذراء "تيرانا"، عذراء "أيكينا" في كالاما؛ عذراء "لاس بيناس" في أريكا، تشاهد كلّ مشاكلنا العائليّة الّتي يبدو أنّها تخنق القلب، لتقترب من أذن يسوع وتقول له "ليس عندهم خمر".

وهي لا تقف صامتة، إذ تقترب من خدّام العرس لتقول لهم "ما يقوله لكم افعلوا" (يوحنّا ۲، ٥). إنّ مريم، المرأة الّتي تتفوه بكلمات قليلة لكنّها هامّة، تقترب أيضًا من كلّ واحد منّا لتقول لنا "ما يقوله لكم افعلوا". وبهذه الطّريقة تُمهَّد الطّريق أمام أوّل معجزة ليسوع: أن يشعر أصدقاؤه بأنّهم هم أيضًا يشاركون في المعجزة. لأنّ المسيح "جاء إلى هذا العالم لا ليُتمّ ما فعله لوحده، لكن معنا جميعًا، ليصير رأسَ جسد كبير، نحنُ خلاياه الحيّة، الحرّة والنّاشطة".

تبدأ المعجزة عندما يقترب الخدّام من أجران المياه الّتي كانت مخصّصة لما تقتضيه الطّهارة عند اليهود. هكذا يستطيع كلّ واحد منّا أن يبدأ المعجزة، بل كلّ واحد منّا مدعوّ للمشاركة في المعجزة من أجل الآخرين.

أيّها الأخوة، إنّ إيكيكه هي أرض الأحلام (وهذا ما يعنيه اسمها بلغة "أيمارا")؛ أرض عرفت كي تستقبل أناسًا ينتمون إلى شعوب وثقافات مختلفة، أُجبروا على ترك أحبّائهم والرّحيل. هذا الرّحيل المرتكز دومًا إلى الأمل في الحصول على حياة أفضل، لكن نعلم أنّه غالبًا ما ترافقه أعباء من الخوف وغياب الثّقة حيال ما سيحصل. إيكيكه هي منطقة مهاجرين، تذكّرنا بعظمة رجال ونساء، وبعائلات برمّتها، لا يستسلمون أمام الصّعاب بل يسيرون قدمًا بحثًا عن الحياة. هؤلاء الأشخاص- خصوصًا المرغمين على ترك أرضهم لعدم توفّر مقوّمات الحياة بحدّها الأدنى- هم أيقونة العائلة المقدّسة، الّتي عبرت الصّحارى كي تبقى على قيد الحياة.

هذه الأرض هي أرض الأحلام، لكن دعونا نجعلها دومًا أرض الضّيافة. الضّيافة في أجواء العيد، لأنّنا نعلم جيّدًا أنّه لا يوجد فرح مسيحيّ حيث توصد الأبواب. لا يوجد فرح مسيحيّ عندما نُشعِر الآخرين بأنّهم عبء أو بأنّه لا يوجد مكان لهم في وسطنا (راجع لوقا ١٦، ۳١).

شأن مريم في قانا لنتعلّم كيف نكون متنبّهين في ساحاتنا وقرانا، ونتعرّف على من فقدوا الفرح في حياتهم أو من سُلبت منهم دوافع الاحتفال. ودعونا لا نخاف من رفع الصّوت لنقول "ليس عندهم خمر". صرخة شعب الله، صرخة الفقير، الّتي تكتسي شكل الصّلاة وتُفرح القلب وتعلّمنا كيف نكون متنبّهين. لنكن متنبّهين لكلّ أوضاع الظّلم وللأشكال الجديدة للاستغلال الّتي تُعرّض العديد من الأخوّة لفقدان فرح العيد. لنكن متنبّهين أمام محاولات جعل العمل مؤقتًا ما يدمّر حياة الأشخاص والعائلات. لنكن متنبّهين حيال من يستفيدون من الأوضاع غير الانتظاميّة للعديد من المهاجرين، لأنّهم لا يجيدون اللّغة ولا يملكون أوراقًا ثبوتيّة. لنكن متنبّهين تجاه العائلات الّتي تفتقر إلى البيت أو الأرض أو العمل. ولنقل بإيمان- على غرار مريم- "ليس عندهم خمر".

لنحمل ما لدينا مثل الخدّام في العرس، حتّى إذا بدا ذلك قليلا. دعونا لا نخاف من تقديم المساعدة على غرار هؤلاء. وليكن تضامننا والتزامنا لصالح العدالة جزءاً من الرّقص والغناء اللّذين نقدّمهما أمام الرّبّ. لنستفد من هذا الأمر كي نتعلّم ونستقي من قيم وصبر وإيمان المهاجرين. بدون الانغلاق على ذواتنا أمام هذه الأجران المليئة بالصّبر والتّاريخ اللّذين يأتي بهما الوافدون إلى هذه الأراضي. دعونا لا نحرم أنفسنا من كلّ الخيور الّتي يمكن أن يقدّموها لنا.

لنسمح ليسوع أن يُتمّم هذه المعجزة، محوّلاً جماعاتنا وقلوبنا إلى علامة حيّة لحضوره الفرِح والبهيج لأنّنا اختبرنا أنّ الله معنا، لأنّنا تعلمنا أن نستقبله في وسطنا. فرح وعيد معدٍ يدفعنا إلى عدم استثناء أحد من إعلان البشرى السّارّة.

ولتستمرّ مريم، الّتي يتمّ التّضرّع إليها بألقاب عدّة في هذه الأرض الشّماليّة المباركة، في همس كلمات "ليس عندهم خمر" في أذن ابنها يسوع، ولتتحقّق بداخلنا كلماتها القائلة "كلّ ما يقوله لكم افعلوه".