البابا فرنسيس يحتفل بقدّاس إلهيّ في قاعدة لاس بالماس مختتمًا زيارته الرّسوليّة إلى بيرو
وفي عظته، قال الأب الأقدس نقلاً عن "إذاعة الفاتيكان": "قُمِ ٱنطَلِق إِلى نينَوى ٱلمَدينَةِ ٱلعَظيمَة، وَنادِ عَلَيها ٱلمُناداةَ ٱلَّتي أَنا مُكَلِّمُكَ بِها" (يونان 3، 2). بهذه الكلمات يتوجّه الرّبّ إلى يونان ويدفعه للتّحرّك نحو تلك المدينة العظيمة الّتي كانت موشِكة على أن تُدمَّر بسبب شرورها الكثيرة. وفي الإنجيل، نرى يسوع يسير نحو الجليل ليعلن البشارة.
تُظهر لنا القراءتان الله في مسيرة أمام مدن الأمس واليوم. إنّ الرّبّ يسير: يذهب إلى نينوى وإلى الجليل... إلى ليما وتروخيللو وبويرتو مالدونادو... الرّبّ يأتي إلى هنا. ينطلق ليدخل إلى تاريخنا الشّخصيّ الملموس. لقد احتفلنا به مؤخَّرًا: إنّه العمانوئيل، الله الّذي يريد أن يقيم معنا على الدّوام. نعم هنا في ليما أو أينما تعيش، في حياة العمل اليوميّة الّتي لا تشهد تغيّرات، في تربية الأبناء المليئة بالرّجاء، بين تطلّعاتك والتزاماتك؛ في حميميّة المنزل وضجيج طرقاتنا الصّاخب. هناك وسط دروب التّاريخ المليئة بالغبار، حيث يأتي الرّبّ للقائك.
أحيانًا قد يحدث معنا ما حصل مع يونان. مع أوضاع الألم والظّلم الّتي تتكرّر يوميًّا، يمكن لمدننا أن تولِّد فينا تجربة الهرب والاختباء. والأسباب قائمة بالنّسبة ليونان ولنا. بالنّظر إلى المدينة يمكننا أن نبدأ بملاحظة أن هناك مواطنون ينالون الأدوات الملائمة لتنمية حياتهم الشّخصيّة والعائليّة، ولكن كثيرون هم "غير مواطنين" و"أنصاف مواطنين" و"رواسب مدنيّة" يقيمون على أطراف طرقاتنا ويعيشون على هامش مدننا تنقصهم الظّروف الضّروريّة لعيش حياة كريمة، ويؤلمنا أن نلاحظ أنَّنا غالبًا ما نجد بين هذه "الرّواسب البشريّة" وجوه أطفال ومراهقين، نجد وجه المستقبل.
وبرؤيتنا لهذه الأمور في مدننا وأحيائنا– الّتي بإمكانها أن تكون أماكن لقاء وتضامن وفرح– يستيقظ فينا ما يمكننا تسميته بـ"تناذر يونان": فسحة هرب وغياب ثقة. فسحة للامبالاة تحوِّلنا إلى مجهولين وأصمّاء إزاء الآخرين؛ تجعلنا مجرّدين من الشّعور الشّخصيّ ومن ذوي القلوب العقيمة، وبهذا الموقف نؤذي روح الشّعب كما يلحظ بندكتس السّادس عشر: "إنَّ مقياس الإنسانيّة يتحدَّدُ قبل كلّ شيء في ارتباطهِ بالألم والمتألِّم. هذا صحيح بالنّسبة للفرد والمجتمع. فالمجمتع الّذي لا ينجحُ في قبول المتألّمين ولا يُساهمُ بشفقته في تقاسم آلامهم ومشاركتهم بها في أعماقِ قلبه، هو مجتمع قاسٍ وغير إنسانيّ" (الرّسالة العامّة "بالرّجاء مخلّصون، عدد ۳۸).
عندما أُلقيَ القبض على يوحنّا [المعمدان] ذهب يسوع إلى الجليل ليبشّر بإنجيل الله. على عكس يونان، أمام حدث أليم وظالم كاعتقال يوحنّا، يدخل يسوع المدينة ويدخل إلى الجليل ويبدأ انطلاقًا من هذا الشّعب الصّغير بزرع ما شكّل بداية الرّجاء الأكبر: ملكوت الله قريب والله في وسطنا. ويُظهر لنا الإنجيل الفرح والتّبعات النّاتجة عنه: بدأ مع سمعان وأندراوس ومن ثمّ مع يعقوب ويوحنّا (راج مر ١، ١٤- ٢٠) ومنذ ذلك الحين مرورًا بالقدّيسة روزا دي ليما والقدّيس توريبيو والقدّيس مارتن دي بورِّس والقدّيس جوفاني ماسياس والقدّيس فرانشسكو سولانو بلغ إلينا يُعلنه جوق من الشّهود الّذين آمنوا به. وصل إلينا لكي نلتزم مجدّدًا كترياق متجدِّد ضدّ عولمة اللّامبالاة لأنّنا إزاء هذه المحبّة لا يمكننا أن نبقى غير مبالين.
لقد دعا يسوع تلاميذه كي يعيشوا في الحاضر ما يحمل طعم الأبديّة: المحبّة لله والقريب، ويقوم بذلك من خلال الأسلوب الوحيد الّذي يمكنه القيام به، الأسلوب الإلهيّ: مولدًا الحنان والمحبّة الرّحيمة ؛ مولّدًا الشّفقة فاتحًا أعينهم لكي يتعلّموا أن ينظروا إلى الواقع بشكل إلهيّ، ويدعوهم لخلق علاقات جديدة وعهود جديدة تحمل الأبديّة. يسير يسوع في المدينة مع تلاميذه ويبدأ برؤية والإصغاء والتّنبّه للّذين استسلموا للامبالاة ترجمهم خطيئة الفساد الخطيرة. يبدأ بكشف العديد من الأوضاع الّتي كانت تخنق رجاء شعبه مولّدة رجاء جديدًا. يدعو تلاميذه ويطلب منهم أن يذهبوا معه؛ يدعوهم ليسيروا في المدينة، لكنه يغيّر وتيرتهم ويعلّمهم أن ينظروا إلى ما كانوا حتّى الآن يغضّون النّظر عنه، ويدلّهم على حاجات جديدة. توبوا - يقول لهم - ملكوت الله هو اللّقاء بيسوع- الله الّذي يمزج حياته بحياة شعبه ويلتزم ويُلزم الآخرين لكي لا يخافوا من جعل هذا التّاريخ، تاريخ خلاص.
إنَّ يسوع لا زال يسير على دروبنا وكالأمس لا زال يقرع على الأبواب، يقرع على قلوبنا ليشعل مجدّدًا الرّجاء والأشواق: لتتغلّب الأخوّة على الانحلال؛ والتّضامن على الظّلم ولتُطفئ أسلحة السّلام نار العنف. إنّ يسوع لا زال يدعو ويريد أن يمسحنا بروحه القدّوس لكي نذهب نحن أيضًا لنمسح بتلك المسحة القادرة على شفاء الرّجاء المجروح وتجديد نظرتنا. إنَّ يسوع لا زال يسير ويوقِظ الرّجاء الّذي يحرّرنا من علاقات فارغة وتحاليل غير شخصيّة ويدعو لنلتزم كالخميرة حيث نحن وحيث أُعطي لنا أن نعيش، في زاوية كلِّ يوم. يقول لنا إنَّ ملكوت السّماء في وسطكم، إنّه هناك حيث نعرف أن نتصرّف بحنان وشفقة وحيث لا نخاف من خلق فسحات لكي يبصر العميان ويمشي العرج ويبرأ البرص ويسمع الصّمّ (راجع لوقا ۷، ۲۲)، وهكذا جميع الّذين كنّا نعتبرهم ضائعين يتنعمّون بالقيامة. إنّ الله لا يتعب ولن يتعب أبدًا من السّير ليبلغ أبناءه. كيف يمكننا أن نشعل الرّجاء إن كان ينقصنا الأنبياء؟ كيف يمكننا أن نواجه المستقبل إن كانت تنقصنا الوحدة؟ كيف يمكن ليسوع أن يصل إلى أماكن عديدة إن كان ينقصه شهود شجعان وحقيقيّين؟".
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول: "إنَّ الرّبّ يدعوك لتسير معه في المدينة، في مدينتك. يدعوك لتكون تلميذه المرسل فتصبح هكذا شريكًا في ذلك الهمس الكبير الّذي يريد أن يتردّد صداه في جميع زوايا حياتنا: إفرح الرّبّ معك!