البابا فرنسيس: نحن بحاجة إلى اقتصاد جديد يصغي إلى صرخة الفقراء وصرخة الأرض
وبعد الإصغاء إلى شهادات حياة وخبرات ثمانية أشخاص من جماعة "اقتصاد فرنسيس" وجّه البابا فرنسيس كلمة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":
"لقد انتظرت هذه اللّحظة لأكثر من ثلاث سنوات، منذ أن، وفي الأوّل من أيّار مايو ٢٠١٩، كتبت لكم الرّسالة الّتي دعتكم ثمّ أحضرتكم إلى هنا إلى أسيزي. بالنّسبة للكثيرين منكم- وقد سمعنا ذلك للتّوّ- أيقظ اللّقاء مع اقتصاد فرنسيس شيئًا كنتم تحملونه في داخلكم. لقد كنتم ملتزمين في خلق اقتصاد جديد، وهذه الرّسالة جمعتكم معًا، وأعطتكم أفقًا أوسع، وجعلتكم تشعرون بأنّكم جزء من جماعة عالميّة من الشّباب الّذين لديهم دعوتكم عينها. وعندما يرى شابّ ما دعوته عينها في شابّ آخر، ومن ثمّ تتكرّر هذه الخبرة مع مئات الآلاف من الشّباب الآخرين، عندها تصبح الأشياء العظيمة ممكنة، حتّى الرّجاء في تغيير نظام ضخم ومعقّد مثل الاقتصاد العالميّ. أنتم أيّها الشّباب، بعون الله، تعرفون كيف تفعلون ذلك، ويمكنكم القيام به؛ لقد نجح الشّباب بذلك في مرّات عديدة عبر التّاريخ.
أنتم تعيشون شبابكم في مرحلة عصيبة: فالأزمة البيئيّة، ومن ثمّ الوباء والآن الحرب في أوكرانيا والحروب الأخرى الّتي تستمرُّ منذ سنوات في مختلف البلدان، جميع هذه الأمور تطبع حياتكم. لقد أورثكم جيلنا الكثير من الثّروات، لكنّنا لم نعرف كيف نحافظ على الكوكب ولم نحافظ على السّلام. أنتم قد دُعيتم لكي تصبحوا صانعي وبناة البيت المشترك، بيت مشترك "يسير نحو الدّمار". إنّ الاقتصاد الجديد، المستوحى من القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، يمكنه ويجب أن يكون اليوم اقتصادًا صديقًا للأرض واقتصادًا يسوده السّلام. إنّها مسألة تحويل اقتصاد يقتل إلى اقتصاد حياة، بكلّ أبعاده. لقد قدّرتُ اختياركم لنموذج لقاء أسيزي هذا حول النّبوءة. فقد كانت حياة فرنسيس الأسيزيّ، بعد ارتداده، نبوءة تستمرُّ حتّى في عصرنا. إنَّ النّبوءة في الكتاب المقدّس ترتبط بشكل كبير بالشّباب. لمّا دُعي صموئيل كان طفلاً، وكذلك إرميا وحزقيال كانا في عمر الشّباب. كان دانييل صبيًّا عندما تنبّأ ببراءة سوزانا وأنقذها من الموت؛ وأعلن النّبيّ يوئيل للشّعب أنّ الله سوف يسكب روحه و"سيتنبّأ بنوكم وبناتكم". بحسب الكتاب المقدّس، يحمل الشّباب روح العلم والذّكاء، والشّابّ داود هو الّذي أذلّ غطرسة العملاق جوليات. في الواقع، عندما يفتقر المجتمع المدنيّ والشّركات إلى مهارات الشّباب، يذبل المجتمع بأسره، وتنطفئ حياة الجميع. فيغيب الإبداع ويغيب التّفاؤل ويغيب الحماس. إنّ مجتمعًا واقتصادًا بدون الشّباب هما حزينين ومتشائمين وساخرين. لكن نشكر الله أنّكم موجودون: لن تكونوا في المستقبل وحسب ولكنّكم في الحاضر أيضًا، أنتم لستم فقط "ما سيأتي"، وإنّما أنتم أيضًا "ما قد تمّ"، أنتم الحاضر.
إنَّ الاقتصاد الّذي يسمح للبعد النّبويّ أن يلهمه يتمُّ التّعبير عنه اليوم في رؤية جديدة للبيئة والأرض. هناك العديد من الأشخاص والشّركات والمؤسّسات الّتي تقوم بارتداد إيكولوجيّ. علينا أن نواصل السّير على هذا الطّريق، وأن نفعل المزيد. هذا "المزيد" أنتم تقومون به وتطلبونه من الجميع. لا يكفي أن نجمّل وإنّما علينا أن نضع نموذج التّنمية موضع تساؤل. إنّ الوضع لا يسمح لنا بأن ننتظر القمّة الدّوليّة المقبلة: إنَّ الأرض تحترق اليوم، وعلينا اليوم أن نتغيّر، على جميع المستويات. خلال هذا العام الماضي عملتم على اقتصاديّات النّباتات، وهو موضوع مُبتَكر. لقد رأيتم أنّ النّموذج النّباتيّ يحتوي على نهج مختلف للأرض والبيئة. إنَّ النّباتات تعرف كيف تتعاون مع البيئة الّتي تحيط بها، وحتّى عندما تتنافس، هي في الواقع تتعاون من أجل مصلحة النّظام البيئيّ. لنتعلّم من وداعة النّباتات: يمكن لتواضعها وصمتها أن يوفّرا لنا أسلوبًا مختلفًا نحن بحاجة إليه بشكل ملحّ. لأنّه إذا تحدّثنا عن الانتقال الإيكولوجيّ ولكنّنا بقينا ضمن النّموذج الاقتصاديّ للقرن العشرين، الّذي نهب الموارد الطّبيعيّة والأرض، فإنّ العمليّات الّتي سنتبنّاها ستكون دائمًا غير كافية. إنَّ الكتاب المقدّس مليء بالأشجار والنّباتات، من شجرة الحياة إلى حبّة الخردل. ويساعدنا القدّيس فرنسيس في أخوته الكونيّة مع جميع الكائنات الحيّة. لقد نمَونا نحن البشر في هذين القرنين الماضيين على حساب الأرض. فنهبناها في كثير من الأحيان لكي نزيد رفاهيّتنا، ولا حتّى رفاهيّة الجميع. هذا هو الوقت المناسب لشجاعة جديدة في التّخلّي عن مصادر الطّاقة الأحفوريّة، وتسريع تطوير مصادر التّأثير الصّفريّ أو الإيجابيّ. ومن ثمّ علينا أن نقبل المبدأ الأخلاقيّ العالميّ- الّذي لا يعجبنا- والّذي ينصّ على أنّه ينبغي إصلاح الضّرر: إذا نشأنا ونحن نسيء استخدام الكوكب والغلاف الجوّيّ، يجب علينا اليوم أن نتعلّم أيضًا أن نضحّي في أنماط الحياة الّتي لا تزال غير مستدامة. وإلّا فإنّ أبناءنا وأحفادنا سيدفعون الثّمن، ثمن سيكون باهظًا وغيرَ عادل. هناك حاجة إلى تغيير سريع وحاسم. أنا أعتمد عليكم! لا تتركونا على راحتنا، وكونوا لنا المثال!
الإستدامة إذن هي حقيقة متعدّدة الأبعاد. وبالإضافة إلى البعد البيئيّ، هناك أيضًا الأبعاد الاجتماعيّة والعلائقيّة والرّوحيّة. لقد بدنا نتعرّف ببطء على البعد الاجتماعيّ: نحن ندرك أنّ صرخة الفقراء وصرخة الأرض هما الصّرخة عينها. لذلك، عندما نعمل من أجل التّحوّل الإيكولوجيّ، علينا أن نضع نصب أعيننا النّتائج الّتي تسبّبها بعض الخيارات البيئيّة على الفقر. إنّ الحلول البيئيّة لا تملك التّأثيرات عينها على الأشخاص الأشدّ فقرًا، وبالتّالي علينا أن نفضّل الحلول الّتي تقلّل من البؤس وعدم المساواة. وفيما نسعى لإنقاذ الكوكب، لا يمكننا إهمال الرّجال والنّساء الّذين يعانون. إنّ التّلوّث الّذي يقتل ليس فقط تلوّث ثاني أكسيد الكربون، ولكنَّ عدم المساواة يلوّث كوكبنا بشكل مميت أيضًا. لا يمكننا أن نسمح للكوارث البيئيّة الجديدة أن تمحو من الرّأي العامّ المصائب القديمة والحاضرة للظّلم الاجتماعيّ. من ثمَّ هناك عدم استدامة علاقاتنا: في العديد من البلدان، بدأت علاقات الأشخاص تفتقر. ولاسيّما في الغرب، أصبحت الجماعات أكثر هشاشة ومشتّتة. وفي بعض مناطق العالم تعاني العائلة من أزمة خطيرة ومعها قبول الحياة وحمايتها. وتسعى النّزعة الاستهلاكيّة الحاليّة إلى ملء فراغ العلاقات الإنسانيّة بسلع أكثر تعقيدًا من أيّ وقت مضى- الوحدة هي اتِّجارٌ كبير في عصرنا!- ولكنّها تولد هكذا مجاعة سعادة.
أخيرًا، هناك عدم الاستدامة الرّوحيّة لرأسماليّتنا. إنّ الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، قبل أن يكون باحثًا عن الخيور، هو باحث عن المعنى. هذا هو السّبب في أنّ رأس المال الأساسيّ لكلّ مجتمع هو رأس المال الرّوحيّ، لأنّه هو الّذي يعطينا الدّوافع لكي نستيقظ كلّ يوم ونذهب إلى العمل، ويولد فرح العيش الضّروريّ أيضًا للاقتصاد. إنّ عالمنا يستهلك بسرعة هذا الشّكل الأساسيّ من رأس المال الّذي تراكم عبر القرون بسبب الأديان، والتّقاليد الحكميّة، والتّقوى الشّعبيّة. وهكذا وبشكل خاصّ، يعاني الشّباب من هذا النّقص في المعنى: فيجدون أنفسهم غالبًا إزاء آلام وشكوك الحياة مع روح تفتقر للموارد الرّوحيّة لكي تواجه المعاناة والإحباط وخيبة الأمل والحزن. إنَّ هشاشة العديد من الشّباب تنبع من الافتقار إلى رأس المال الرّوحيّ الثّمين: رأس مال غير مرئيّ ولكنّه حقيقيّ أكثر من رأس المال الماليّ أو التّكنولوجيّ. وبالتّالي هناك حاجة ملحّة لإعادة بناء هذا الإرث الرّوحيّ الجوهري. يمكن للتّقنيّة أن تفعل الكثير: فهي تعلّمنا "ماذا علينا أن نفعل" و"كيف علينا فعل ذلك": لكنّها لا تقول لنا السّبب؛ وهكذا تصبح أفعالنا عقيمة ولا تملأ الحياة ولا حتّى الحياة الاقتصاديّة.
إذ أتواجد في مدينة القدّيس فرنسيس، لا يسعني إلّا أن أتوقّف عند الفقر. إنّ القيام باقتصاد مستوحى منه يعني الالتزام بوضع الفقراء في المحور. فننظر إلى الاقتصاد انطلاقًا منهم، وننظر إلى العالم انطلاقًا منهم. بدون التّقدير والرّعاية والمحبّة للفقراء، لكلّ شخص فقير، لكلّ شخص هشٍّ وضعيف، من الّذي حُبل به في الرّحم إلى المريض والمعوَّق، والمسنّ الّذي يعيش في صعوبة، لا يوجد "اقتصاد فرنسيس". لا بل أقول أكثر: لا يمكن لاقتصاد فرنسيس أن يقتصر على العمل لصالح الفقراء أو معهم. وطالما أنّ نظامنا يسبّب التّهميش ونحن نعمل وفقًا لهذا النّظام، فسنكون متواطئين في اقتصاد يقتل. لنسأل أنفسنا إذًا: هل نفعل ما يكفي لتغيير هذا الاقتصاد، أم أنّنا نكتفي بطلاء حائط وتغيير لونه، بدون أن نغيِّر هيكليّة المنزل؟ ربّما لا تكمن الإجابة في ما يمكننا القيام به، وإنّما في نجاحنا بفتح مسارات جديدة لكي يصبح الفقراء أنفسهم روّاد التّغيير. إنَّ القدّيس فرنسيس لم يحبّ الفقراء فحسب، بل أحبّ الفقر أيضًا. لم يكن فرنسيس يذهب إلى البرص لكي يساعدهم بل كان يذهب لأنّه كان يريد أن يصبح فقيرًا مثلهم. وباتّباعه ليسوع المسيح، تجرّدَ من كلّ شيء ليكون فقيرًا مع الفقراء. وبالتّالي فإنَّ أوّل اقتصاد للسّوق قد ولد في القرن الثّالث عشر في أوروبا على اتّصال يوميّ بالرّهبان الفرنسيسكان، الّذين كانوا أصدقاء هؤلاء التّجّار الأوائل. لقد كان هذا الاقتصاد يخلق الغنى بالتّأكيد، لكنّه لم يكن يحتقر الفقر. أمّا رأسماليّتنا فتريد مساعدة الفقراء لكنّها لا تحترمهم، ولا تفهم الطّوبى المتناقضة: "طوبى للفقراء". لا يجب أن نحبّ البؤس، بل على العكس علينا أن نحاربه، أوّلاً وقبل كلّ شيء من خلال خلق عمل، عمل كريم. لكن الإنجيل يقول لنا إنّه بدون تقدير الفقراء، لن تتمّ محاربة البؤس. وبالتّالي علينا أن ننطلق من هنا، وكذلك أنتم يا روّاد الأعمال والاقتصاديّون: من خلال الإقامة في هذه المفارقات الإنجيليّة للقدّيس فرنسيس.
وفي ضوء هذا التّأمّل، أريد أن أترك لكم ثلاث إرشادات لكي تتبعوها. الأوّل النّظر إلى العالم بعيون الأشخاص الأشدّ فقرًا. لقد عرفت الحركة الفرنسيسكانيّة كيف تبتكر أولى النّظريّات الاقتصاديّة في العصور الوسطى وكذلك بنوك التّضامن الأولى ("Monti di Pietà")، لأنّها كانت تنظر إلى العالم بعيون الأشخاص الأشدّ فقرًا. أنتم أيضًا ستقومون بتحسين الاقتصاد إذا نظرتم إلى الأمور من منظور الضّحايا والمهمّشين. ولكن لكي تكون لكم عيون الفقراء والضّحايا، عليكم أن تعرفوهم وأن تكونوا أصدقاءهم. وصدّقوني إذا أصبحتم أصدقاء الفقراء، وإذا شاركتموهم حياتهم، فستشاركونهم أيضًا شيئًا من ملكوت الله، لأنّ يسوع قد قال إنّ لهم ملكوت السّماوات. وأكرّر ذلك: لا يجب على خياراتكم اليوميّة أن تهمّش الآخرين. الثّاني: أنتم بشكل خاصّ طلّاب وعلماء ورجال أعمال، لكن لا يجب أن تنسوا العمل والعمّال. إنَّ العمل هو تحدّي عصرنا، وسيصبح تحدّيًا أكبر في المستقبل. بدون عمل كريم وبأجر كافٍ، لن يصبح الشّباب بالغين حقًّا، وستزداد التّفاوتات. أحيانًا يمكننا أن نبقى على قيد الحياة من دون عمل، ولكنّنا لن نعيش بشكل جيّد. لذلك عندما تخلقون خيورًا وخدمات، لا يجب أن تنسوا أن تخلقوا فرص عمل، عمل الجيّد، وعمل للجميع. أمّا الإرشاد الثّالث فهو: التّجسّد. في اللّحظات الحاسمة من التّاريخ، إنَّ الّذين تمكّنوا من أن يتركوا بصمة جيّدة قد فعلوا ذلك لأنّهم ترجموا المثل والرّغبات والقيم إلى أعمال ملموسة. وبالإضافة إلى الكتابة وعقد المؤتمرات، أنشأ هؤلاء الرّجال والنّساء المدارس والجامعات والبنوك والنّقابات العمّاليّة والتّعاونيّات والمؤسّسات. وأنتم ستغيّرون عالم الاقتصاد إذا استخدمتم أياديكم مع قلوبكم ورؤوسكم. إنّ الأفكار ضروريّة، وتجذبنا كثيرًا لاسيّما في عمر الشّباب، ولكن يمكنها أن تتحوّل إلى فخاخ إذا لم تتجسّد، أيّ إذا لم تصبح التزامًا يوميًّا ملموسًا. لطالما رفضت الكنيسة التّجربة الغنوصيّة، الّتي تعتقد أنّها لا تستطيع تغيير العالم إلّا من خلال معرفة مختلفة، دون تعب الجسد. إنّ الأعمال هي أقلّ "إشراقًا" من الأفكار العظيمة، لأنّها ملموسة، مميّزة ومحدودة، وتحمل أنوارًا وظلالاً معًا، لكنّها تخصِّب الأرض يومًا بعد يوم: إنّ الواقع هو أسمى من الفكرة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء أشكركم على التزامكم. سيروا قدمًا بإلهام وشفاعة القدّيس فرنسيس. وأريد أن أختتم بصلاة: أيّها الآب نطلب منك المغفرة لأنّنا جرحنا الأرض بشكل خطير، ولأنّنا لم نحترم ثقافات الشّعوب الأصليّة ولأنّنا لم نقدِّر الأشدّ فقرًا ولم نحبّهم، ولأنّنا خلقنا الغنى بدون شركة. أيّها الإله الحيّ يا من ألهمتَ بروحك قلوب وأذرع وأذهان هؤلاء الشّباب وجعلتهم ينطلقون نحو أرض الميعاد، أنظر بعطف إلى سخائهم ومحبّتهم ورغبتهم في بذل ذواتهم من أجل مثال سامي. باركهم في مشاريعهم وفي دراستهم وفي أحلامهم؛ رافقهم في الصّعوبات والآلام، وساعدهم لكي يحوِّلوها إلى فضيلة وحكمة. أعضد رغباتهم للخير والحياة، وادعمهم في خيباتهم إزاء الأمثلة السّيّئة، ولا تدعهم يفقدون عزيمتهم واجعلهم يواصلون مسيرتهم. أنت، الّذي جعل ابنه الوحيد من نفسه نجّارًا، امنحهم فرح أن يحوِّلوا العالم بالحبّ والذّكاء والأيادي. آمين".