أوروبا
06 كانون الأول 2021, 07:30

البابا فرنسيس من أثينا: يكفي أن نترك للرّبّ بابنا مفتوحًا لكي يدخل ويصنع العظائم

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا فرنسيس عصر الأحد القدّاس الإلهيّ في قاعة ميغارون في أثينا، في الأحد الثّاني من زمن المجيء، حيث ألقى عظة انطلقت من صورة القدّيس يوحنّا المعمدان مركّزًا فيها على البرّيّة والتّوبة في حياته.

وإنطلاقًا من هذين الجانبين قال البابا بحسب "فاتيكان نيوز": "في هذا الأحد الثّاني من زمن المجيء، تقدّم لنا كلمة الله صورة القدّيس يوحنّا المعمدان. ويسلّط الإنجيل الضّوء على جانبين من شخصيّته: المكان الّذي كان فيه، البرّيّة، ومحتوى رسالته، وهو التّوبة. البرّيّة والتّوبة: على هذين الأمرين يُصرُّ إنجيل اليوم، وهذا الإلحاح يجعلنا نفهم أنّ هاتين الكلمتين موجّهتان إلينا بشكل مباشر. لنقبلهما معًا.

البرّيّة. يقدّم لوقا الإنجيليّ هذا المكان بطريقة خاصّة. ويتكلّم في الواقع عن ظروف وشخصيّات كبيرة في ذلك الوقت: يذكر السّنة الخامسة عشرة للقيصر طيباريوس، ثمّ الوالي الرّومانيّ بنطيوس بيلاطس، فالملك هيرودس وغيرهم من "القادة السّياسيّين" في ذلك الوقت، ثمّ يذكّرَ الشّخصيّات الدّينيّة، حنّان وقيافا، اللّذين كانا قرب هيكل أورشليم. وعند هذه النّقطة يُعلن: "كانت كَلِمَةُ اللهِ إِلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة". ولكن كيف؟ كنّا نتوقّع أن تتوجّه كلمة الله إلى أحد الكبار الّذين تمَّ ذكرُهم. ولكن لا. وتظهر بين سطور الإنجيل سخرية رقيقة: من المراكز العليا حيث يقيم أصحاب السّلطة يتمّ الانتقال فجأة إلى البرّيّة، إلى رجل مجهول متوحّد. الله يفاجئ وخياراته مفاجئة: لا تندرج في إطار التّوقّعات البشريّة، ولا تتبع القوّة والعَظمة اللّتان ينسبهما الإنسان إليه عادة. إنّ الرّبّ يفضِّل الصّغر والتّواضع. إنَّ الفداء لم يبدأ في أورشليم أو أثينا أو روما، وإنّما في البرّيّة. هذه الاستراتيجيّة المتناقضة تعطينا رسالة جميلة جدًّا: أن نكون أصحاب سلطة، أو مثقفين ومشهورين ليس ضمانة لكي نرضي الله، لا بل قد يمكن لهذا الأمر أن يقودنا إلى التّكبُّر ورفض الله. فيما نحن بحاجة لأن نكون فقراء في الدّاخل، كما هي البرّيّة فقيرة.

نتوقّف عند تناقض البرّيّة. لقد هيّأ يوحنّا السّابق مجيء المسيح في هذا المكان الوعر والمُوحِش، والمليء بالمخاطر. والآن، إن أراد أحدٌ ما أن يقوم بإعلان مهمّ، يذهب عادةً إلى أماكن جميلة، حيث يوجد أناس كثيرون، وحيث يمكن للنّاس أن يروه. أمّا يوحنّا فقد وعظ في البرّيّة. هناك بالتّحديد، في المكان القاحل، وفي تلك الفسحة الفارغة والشّاسعة، وحيث لا توجد حياة تقريبًا، هناك ظهر مجد الرّبّ، الّذي وكما يتنبّأ الكتاب المقدّس حوّل القفر أجمّة ماء، والأرض اليابسة مفاجر مياه. إنّها رسالة أخرى مشجّعة: إنَّ الله، اليوم كما فيما مضى، يوجّه نظره إلى حيث يسيطر الحزن والوَحدة. ويمكننا أن نختبر ذلك في حياتنا: فهو غالبًا ما لا يتمكّن من الوصول إلينا عندما نكون وسط التّصفيق ونفكّر فقط في أنفسنا، هو يبلغنا بشكل خاصّ في المحن. ويزورنا في الأوضاع الصّعبة، وفي فراغاتنا الّتي تترك له مكانًا، وفي صحارينا الوجوديّة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في حياة شخص ما أو شعب ما لا تغيب أبدًا تلك اللّحظات الّتي تعطينا الانطباع بأنّنا موجودون في بريّة. وهنا بالضّبط يحضر الله، الّذي غالبًا ما لا يقبله الّذين يشعرون بأن كلَّ شيء على ما يرام، وإنّما الّذين يشعرون بأنّهم مُرهقون وغير قادرين على المضيّ قدمًا. ويأتي بكلمات القرب والرّحمة والحنان قائلاً: "لا تَخَفْ فإِنِّي معَكَ ولا تَتَلَفَّتْ فَأَنا إِلهُكَ. قد قَوَّيتُك ونَصَرتُكَ". بوعظه في البرّيّة، يؤكِّد لنا يوحنّا أنّ الرّبّ يأتي لكي يحرّرنا ويعيد إلينا الحياة لاسيّما في الحالات الّتي تبدو غير قابلة للإصلاح، وبدون مخرج. لذلك لا يوجد مكانٌ، لا يريد الله أن يزوره. واليوم لا يسعنا إلّا أن نفرح إذ نراه يختار البرّيّة، ليصل إلى صغرنا الّذي يحبّه وحالة الجفاف الّتي نعيشها، لأنّه يريد أن يرويها! لذلك، أيّها الأعزّاء، لا تخافوا من الصّغر، لأنّ المسألة ليست في أن نكون صغارًا وقليلين في العدد، وإنّما في الانفتاح على الله وعلى الآخرين. ولا تخافوا أيضًا من حالات الجفاف، لأنّ الله لا يخاف منها، وإنّما هناك يأتي لزيارتنا!

لننتقل الآن إلى الجانب الثّاني وهو التّوبة. لقد وعظ بها المعمدان بلا توقُّف وبنبرة شديدة. وهذا أيضًا موضوع "مُزعج". كما أنّ الصّحراء ليست أوّل مكان نريد أن نذهب إليه، كذلك فإنّ الدّعوة إلى التّوبة ليست بالتّأكيد أوّل اقتراح نريد أن نسمعه. يمكن للحديث عن التّوبة أن يولِّد الحزن؛ ويبدو لنا من الصّعب أن نوفِّقه مع إنجيل الفرح. ولكنَّ هذا الأمر يحدث عندما نحصر مفهوم التّوبة في جهودنا في المجال الأخلاقيّ، كما لو كانت التوبة فقط ثمرة لالتزامنا. هنا تكمن المشكلة بالتّحديد، عندما نضع قوانا أساسًا لكلِّ شيء. هنا يُعشّش الحزن الرّوحيّ والإحباط أيضًا: نريد أن نتوب، ونكون أفضل، ونتغلّب على عيوبنا، ونتغيّر، لكنّنا نشعر أنّنا غير قادرين بشكل كامل، وعلى الرّغم من حسن النّيّة، فإنّنا نعود دائمًا إلى السّقوط. نحن نعيش خِبرة القدّيس بولس عينها، الّذي كتب من هذه الأراضي بالتّحديد: "الرَّغبَةُ في الخَيرِ هي بِاستِطاعَتي، وأَمَّا فِعلُه فلا. لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل". وبالتّالي إن كنّا غير قادرين وحدنا على نعمل الخير الّذي نريده، فما معنى إذًا أنّه علينا أن نتوب؟

يمكن للغتكم الجميلة، اليونانيّة، أن تساعدنا في فهم أصل الفعل الإنجيليّ "تاب"  (metanoéin)وهو يتألّف من حرف الجرّ metá الّذي يعني هنا "ما هو أبعد"، والفعل noéin الّذي يعني "فكَّر". وبالتّالي فالفعل "تاب" يعني إذن التفّكير في "ما هو أبعد"، أيّ أن نذهب أبعد من أسلوبنا المعتاد في التّفكير، وأن نذهب أبعد من مخطّطاتنا الذّهنيّة المعتادة. أفكّر بالتّحديد في المخطّطات الّتي تحصر كلّ شيء في الأنا، وفي ادّعائنا بالاكتفاء الذّاتيّ. أو أفكّر في الّذين يغلقهم التزمّت والخوف اللّذين يشلّان، وتجربة الـ"لقد فعلنا هكذا دائمًا"، أو فكرة أنّ صحاري الحياة هي أماكن موت وليست أماكن حضور الله.

إذ يحثّنا على التّوبة، يدعونا يوحنّا لكي نذهب إلى ما هو أبعد، وعدم التّوقّف هنا. لكي نذهب إلى ما هو أبعد ممّا تقوله لنا غرائزنا، أو ما تُصوِّره لنا أفكارنا، لأنّ الواقع أكبر. إنّ الحقيقة هي أنّ الله أكبر. وبالتّالي فالتّوبة تعني إذًا ألّا نصغي إلى ما يطمرُ الرّجاء، وإلى الّذين يكرّرون أنّه لن يتغيّر أبدًا شيء في الحياة. التّوبة هي أن نرفض الاعتقاد بأنّ مصيرنا هو الغرق في الرّمال المتحرّكة للأوضاع البائسة. التّوبة هي ألّا ننقاد للأشباح الدّاخليّة، الّتي تظهر خاصّة في لحظات المحن لكي تحبطنا وتقول لنا إنّنا لن ننجح، وإنّ كلّ شيء يسير بطريقة سيّئة، وأنّ القداسة ليست لنا. لا، ليس الأمر هكذا. لأنّ الله موجود. وعلينا أن نثق به، ولأنّه هو ذلك الّذي يجعلنا نذهب أبعد، إنّه قوّتنا. كلّ شيء يتغيّر إذا تركنا له المكان الأوّل. هذه هي التّوبة: يكفي أن نترك للرّبّ بابنا مفتوحًا لكي يدخل ويصنع العظائم، تمامًا كما كانت البرّيّة وكلمات يوحنّا كافيتين له لكي يأتي إلى العالم.

لنطلب نعمة أن نؤمن بأنّ الأمور تتغيّر مع الله، وأنّه يُبرِئ مخاوفنا، ويشفي جراحنا، ويحوّل الأماكن القاحلة إلى ينابيع مياه. ولنطلب نعمة الرّجاء. لأنّ الرّجاء هو الّذي ينعش الايمان ويوقد المحبّة. لأنّ صحاري العالم اليوم هي عطشى للرّجاء. وفيما يجدّدنا لقاؤنا هذا في الرّجاء وفي فرح يسوع، أنا أفرح بوجودي معكم، لنطلب من أمّنا مريم العذراء، الكلّيّة القداسة، أن تساعدنا لكي نكون، على مثالها، شهود رجاء، وزارعي فرح من حولنا. ليس عندما نكون سعداء ومعًا وحسب، وإنّما كلّ يوم، وفي الصّحاري الّتي نقيم فيها. لأنّ هناك، بنعمة الله، تُدعى حياتنا إلى التّوبة والازدهار."