الفاتيكان
29 كانون الثاني 2021, 12:50

البابا فرنسيس للمرسَلين: يسوع يحتاج اليوم إلى قلوب قادرة على أن تعيش الدّعوة كقصّة حبّ حقيقيّة

تيلي لوميار/ نورسات
صدرت ظهرًا رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم الإرساليّ العالميّ، تحت عنوان "أمّا نحن فلا نستطيع السّكوت عن ذكر ما رأينا وما سمعنا"، أكّد في سطورها على حاجة يسوع اليوم "إلى قلوب قادرة على أن تعيش الدّعوة كقصّة حبّ حقيقيّة، تجعلهم يذهبون إلى ضواحي العالم ليصبحوا رسلاً وأدوات رحمة... فعيش الرّسالة يعني أن نغامر في تنمية مشاعر المسيح يسوع عينها".

أمّا في تفاصيل الرّسالة، فكتب الأب الأقدس بحسب "فاتيكان نيوز":

"عندما نختبر قوّة محبّة الله، وعندما ندرك حضوره كأب في حياتنا الشّخصيّة والجماعيّة، لا يسعنا إلّا أن نعلن ونشارك ما رأيناه وسمعناه. إنَّ علاقة يسوع مع تلاميذه، وإنسانيّته الّتي تنكشف لنا في سرّ تجسّده وفي الإنجيل وفي سرّ موته وقيامته، تظهر لنا إلى أيّ مدى أحبّ الله إنسانيّتنا وشاركنا أفراحنا وآلامنا، ورغباتنا ومخاوفنا. كلّ شيء في المسيح يذكِّرنا أنّ العالم الّذي نعيش فيه وحاجته إلى الفداء ليسا غريبين عنه، ويدعونا أيضًا إلى أن نعتبر أنفسنا جزءًا نشطًا في هذه الرّسالة: "اذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا [...] كُلَّ مَن تَجِدونَه". لا أحد غريب، ولا أحد يمكن أن يشعر أنّه غريب أو بعيد أمام هذا الحبّ الرّحيم.

يبدأ تاريخ البشارة ببحث شغوف عن الرّبّ يسوع الّذي يدعو ويريد إقامة حوار صداقة مع كلّ إنسان أينما كان. كان الرّسل أوّل من أخبرنا بذلك، وكانوا يتذكّرون حتّى اليوم والساعة: "وكانَتِ السَّاعَةُ نَحوَ الرَّابِعَةِ بَعدَ الظُّهْر". إنَّ الصّداقة مع الرّبّ يسوع، ورؤيته يشفي المرضى، ويأكل مع الخطأة، ويطعم الجياع، ويقترب من المهمّشين، ويلمس النّجسين، ويتماهى مع المحتاجين، ويدعو إلى التّطويبات، ويعلّم بطريقة جديدة وبسلطان، تترك بصمة لا تمحى، قادرة على أن تثير دهشة وفرحًا ينتشر مجّانًا، ولا يمكن احتواؤه. وكما قال النّبيّ إرميا، فإنّ هذه الخبرة هي النّار المشتعلة لحضوره الفعّال في قلوبنا والّتي تدفعنا إلى حمل الرّسالة، حتّى وإن كانت تتضمّن في بعض الأحيان تضحيات وعدم فهم. إنّ المحبّة هي في حركة على الدّوام، وتدفعنا للتّحرّك لكي نشارك في الإعلان الأجمل وينبوع الرّجاء وهو: "وَجَدْنا المَشيح".

مع يسوع رأينا وسمعنا ولمسنا أنّ الأشياء يمكن أن تكون مختلفة. لقد دشَّن، اليوم، الأزمنة المستقبليّة، وذكَّرنا بميزة أساسيّة لإنسانيّتنا، غالبًا ما ننساها: "أنّنا خُلِقنا بُغيَةَ الملء الّذي لا نتوصّل إليه إلّا بالمحبّة". أزمنة جديدة تولِّد إيمانًا قادرًا على أن يعطي دفعة للمبادرات ولخلق جماعات، من رجال ونساء، يتعلّمون أن يتحمّلوا مسؤوليّة ضعفهم وضعف الآخرين، ويعزّزوا الأخوّة والصّداقة الاجتماعيّة. تُظهر الجماعة الكنسيّة جمالها في كلّ مرّة تتذكّر بامتنان أنّ الرّبّ يسوع هو الّذي أحبّنا أوّلاً. "محبّة الرّبّ يسوع تفاجئنا، والاندهاش لطبيعتها لا يمكن أن نمتلكه أو نفرضه على أحد. فقط هكذا يمكنها أن تزهر معجزة المجانيّة، العطيّة المجانيّة لبذل. حتّى الاندفاع الإرساليّ لا يمكن أن يتكوَّن فينا نتيجة تفكير أو حسابات. إنّ وضع ذواتنا "في حالة الرّسالة" هو انعكاس لحالة من الامتنان. ومع ذلك، لم تكن الأوقات سهلة. بدأ المسيحيّون الأوائل حياة الإيمان في بيئة معاديّة وصعبة. قصص تهميش وسجن كانت تتشابك مع مقاومات داخليّة وخارجيّة بدت وكأنّها تتناقض لا بل تنكر ما رأوه وسمعوه، لكن بدلاً من أن يكون هذا الأمر عقبة أو صعوبة كان من الممكن أن يدفعهم إلى الانسحاب أو الانغلاق على أنفسهم، دفعهم إلى تحويل كلّ إزعاج وممانعة وصعوبة إلى فرصة للرّسالة. أصبحت الحدود والعوائق أيضًا مكانًا متميّزًا لمسح كلّ شيء وكلّ شخص بروح الرّبّ يسوع. لا شيء ولا أحد يمكنه أن يبقى غريبًا عن إعلان البشرى المحرِّرة.

لدينا شهادة حيّة لهذا كلّه في سفر أعمال الرّسل، وهو سفر يحتفظ به التّلاميذ المرسلون دائمًا في متناول أيديهم. إنّه سفر يروي كيف انتشر عطر الإنجيل أينما مرّ، وولّد الفرح الّذي وحده الرّوح القدس قادر على أن يمنحنا إيّاه. يعلّمنا سفر أعمال الرّسل أن نعيش الشّدائد متمسّكين بالمسيح، لكي ينضج الاقتناع بأنّ الله قادرٌ على أن يعمل في كلّ الظّروف، حتّى وسط الفشل الظّاهر واليقين بأنّ "من يبذل ذاته ويستسلم لله محبّةً به، سيكون خصبًا بالتّأكيد. وهكذا نحن أيضًا: حتّى اللّحظة التّاريخيّة الحاليّة ليست سهلة. لقد سلّطت حالة الوباء الضّوء وضخّمت الألم والوَحدة والفقر والظّلم جميع هذه الأمور الّتي كان الكثيرون من قبل يعانون منها، وأزالت القناع عن شعورنا الزّائف بالأمان، وعن الانقسامات والاستقطابات الّتي تمزّقنا بصمت. وقد اختبر الأكثر هشاشةً وضعفًا، بقدرٍ أكبر، ضعفَهم وهشاشتَهم. لقد عشنا الإحباط وخيبة الأمل والتّعب. وحتّى مرارة التّشبّه بالجميع، الّتي تسلب الرّجاء، استطاعت أن تسيطر علينا. ولكنّنا "لسْنا نَدْعو إِلى أَنْفُسِنا، بل إِلى يسوعَ المسيحِ الرَّبّ. وما نَحنُ إِلّا خَدَمٌ لَكم مِن أَجْلِ يسوع". لهذا نسمع صدى كلمة الحياة في جماعاتنا وفي عائلاتنا يدوّي في قلوبنا ويقول لنا: "إِنَّه لَيسَ ههُنا، بل قام". إنّها كلمة الرّجاء الّتي تحطّم كلّ حتميّة، وتعطي لمن سمحوا لها بأن تلمسهم، الحرّيّة والجرأة اللّازمتين للوقوف والبحث بشكل خلّاق عن جميع الطّرق الممكنة لعيش الشّفقة الأسراريّة لقرب الله منّا، والّذي لا يترك أحدًا على قارعة الطّريق. في زمن الجائحة هذا، وأمام تجربة وضع الأقنعة على اللّامبالاة وغياب الرّحمة باسم التّباعد الاجتماعيّ الصّحّيّ، تصبح ملحّة رسالة رحمة، قادرة على أن تجعل المسافات المطلوبة مكانًا للّقاء والرّعايّة والتّقدّم معًا. إن "ما رَأَينا وما سَمِعْنا"، الرّحمة الّتي أعطيت لنا، تتحوّل إلى نقطة مرجعيّة ومصداقيّة تتيح لنا استعادة الحماس المشترك لخلق "جماعة انتماء وتضامن، نخصّص لها الوقت والجهد والخيور". إنَّ كلمته هي الّتي تفدينا كلّ يوم وتخلّصنا من الأعذار الّتي تقودنا إلى الانغلاق في أسوأ مواقف الشّكّ، فنقول: "إنَّ الأمور باقية على ما هي عليه، لا شيء يتغيّر". وأمام السّؤال: "لأيّ هدف يجب أن أحرم نفسي من الأمان والرّاحة والملذّات إذا لم يكن بإمكاني أن أرى أيّ نتيجة مهمّة؟"، يبقى الجواب نفسه على الدّوام: "يسوع المسيح قد انتصر على الخطيئة والموت وهو كلّيّ القدرة. يسوع المسيح حيٌّ حقًّا" ويريدنا أيضًا أن نكون أحياء وإخوة وقادرين على قبول هذا الرّجاء ومشاركته. في السّياق الحاليّ، هناك حاجة ماسّة إلى مرسلي رجاء، يكونوا قادرين، إذ مسحهم الرّبّ، على أن يُذكِّرونا بشكل نبويٍّ بأنّ لا أحد يخلص بمفرده.

على مثال الرّسل والمسيحيّين الأوائل، نقول نحن أيضًا بكلّ قوتنا: "لا نَستَطيعُ السُّكوتَ عن ذِكْر ما رَأَينا وما سَمِعْنا". كلّ ما حصلنا عليه، كلّ ما منحنا إيّاه الرّبّ يسوع يومًا بعد يوم، أعطانا إيّاه لكي نستثمره ونعطيه مجانًا للآخرين. وعلى مثال الرّسل الّذين رأوا وسمعوا ولمسوا خلاص يسوع، هكذا نحن أيضًا يمكننا اليوم أن نلمس جسد المسيح المتألّم والممجّد في تاريخ كلّ يوم وأن نجد الشّجاعة، للمشاركة مع الجميع، مصير رجاءٍ لا يقبل الشّكّ، يولد من معرفتنا أنّ الرّبّ يسوع يرافقنا. لا يمكننا كمسيحيّين أن نحتفظ بالرّبّ يسوع لأنفسنا: إنّ رسالة البشارة في الكنيسة تعبّر عن قيمتها الكاملة والعامّة في تغيير العالم والعناية بالخليقة.

إنّ موضوع اليوم الإرساليّ العالميّ لهذه السّنة، "أَمَّا نَحنُ فلا نَستَطيعُ السُّكوتَ عن ذِكْر ما رَأَينا وما سَمِعْنا"، هو دعوة لكلّ واحدٍ منّا "لكي نحمل المسؤوليّة" ونعرِّفَ الآخرين بما نحمله في قلوبنا. هذه الرّسالة كانت ولا تزال هويّة الكنيسة الّتي وُجدت من أجل البشارة. تضعف حياة الإيمان وتفقد النّبوءة والقدرة على الدّهشة والامتنان في عزل أنفسنا أو في انغلاقنا في مجموعات صغيرة. إنَّ حياة الإيمان بحكم ديناميكيّتها تتطلّب انفتاحًا متزايدًا قادرًا على أن يبلغ الجميع ويعانقهم. لم يقع المسيحيّون الأوائل في تجربة الانغلاق في نخبة، بل جذبهم الرّبّ والحياة الجديدة الّتي قدّمها لهم لكي يذهبوا بين الشّعوب ويشهدوا لما رأوا وسمعوا، وهو: إنّ ملكوت الله قريب. لقد قاموا بذلك بسخاء وامتنان ونبلِ مَن كان يزرع ويعرف أنّ الآخرين سيأكلون ثمار التزامهم وتضحيتهم. لذلك يسّرني أن أفكّر في أنّه حتّى الأشدَّ ضعفًا، ومحدوديّة وأكثرُهم جراحًا، يمكنهم أن يكونوا [مرسلين] على طريقتهم الخاصّة، لأنّه علينا أن نسمح دائمًا للخير بأن ينتشر، حتّى ولو ترافق مع الكثير من الضّعف. وفي اليوم الإرساليّ العالميّ، الّذي يُحتفل به كلّ سنة في الأحد الثّالث من شهر أكتوبر، نتذكّر بامتنان جميع الأشخاص الّذين يساعدوننا، من خلال شهادة حياتهم، لكي نجدّد التزام معموديّتنا بأن نكون رسلاً أسخياء وفرحين للإنجيل. نتذكّر بشكلٍ خاصّ الّذين تمكّنوا من أن ينطلقوا في المسيرة وتركوا أرضهم وعائلتهم لكي يصل الإنجيل، بدون تأخير وخوف، إلى كلّ الشّعوب والمدن حيث هناك العديد من النّفوس العطشى للبركة.

إنّ التّأمل في شهادتهم الإرساليّة، يحثّنا على أن نكون شجعانًا ونصلّي بإلحاح رَبَّ الحَصَاد لكي يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه. في الواقع، نحن ندرك أنّ الدّعوة إلى الرّسالة ليست شيئًا من الماضي أو ذكرى رومنسيّة تعود لأزمنة مضت. إنَّ يسوع يحتاج اليوم إلى قلوب قادرة على أن تعيش الدّعوة كقصّة حبّ حقيقيّة، تجعلهم يذهبون إلى ضواحي العالم ليصبحوا رسلاً وأدوات رحمة. وهي دعوة يوجّهها يسوع إلى الجميع، حتّى وإن لم يكن بالطّريقة عينها. لنتذكّر أنّ هناك ضواحي قريبة منّا، في وسط المدينة، أو في عائلتنا. هناك أيضًا جانب من جوانب الانفتاح العالميّ للحبّ، وهو ليس جغرافيًّا وإنّما وجوديّ. من المهمّ دائمًا، وإنّما في أوقات الجائحة هذه بشكل خاصّ، أن نزيد القدرة اليوميّة على توسيع دائرتنا، وأن نَصِلَ إلى الّذين لا نشعر تلقائيًّا بأنّهم جزء من "عالم اهتماماتنا"، على الرّغم من قربهم منّا.

إنّ عيش الرّسالة يعني أن نغامر في تنمية مشاعر المسيح يسوع عينها، وأن نؤمن معه بأنّ من يعيش بجانبي هو أيضًا أخي وأختي. ليوقظ حبّه الرّحيم قلوبنا ويجعلنا جميعًا تلاميذ مرسلين؛ ولتُنمّي العذراء مريم، التّلميذة المرسلة الأولى، الرّغبة في جميع المعمدّين في أن يكونوا ملحًا ونورًا في أراضينا."