العالم
14 أيلول 2022, 08:45

البابا فرنسيس: لقد حان وقت الاستيقاظ من الأصوليّة الّتي تلوِّث كلّ عقيدة وتفسدها

تيلي لوميار/ نورسات
إلى المؤتمر السّابع لقادة الدّيانات العالميّة والتّقليديّة الّذي يُعقد في "قصر الاستقلال" في نور سلطان- كازاخستان، توجّه البابا فرنسيس صباحًا ورفع "بصمت" الصّلاة مع القادة المشاركين من مختلف الدّيانات قبل افتتاح المؤتمر.

وخلال الجلسة العامّة ألقى البابا خطابًا تحدّث فيه عن أربعة تحدّيات يواجهها العالم اليوم، فقال بحسب "فاتيكان نيوز": "أمام سِرّ اللّامتناهي الّذي يهيمن علينا ويجذبنا، تذكِّرُنا الأديان أنّنا خلائق: لا نقدر على كلّ شيء، لكنّا نساءٌ ورجالٌ في طريقنا إلى نفس الهدف السّماويّ. نشترك في كونِنَا خلائق، وهذا يجعل بيننا طابعًا مشتركًا، وأخُوّة حقيقيّة. ويذكِّرُنا أنّ معنى الحياة لا يمكن اختزاله في اهتماماتنا الشّخصيّة، بل هو منقوش في الأخُوّة الّتي تميِّزنا. نحن ننمو فقط مع الآخرين وبفضل الآخرين.

العالم ينتظر منّا مثالَ نفوسٍ يقظة وأذهانٍ صافية، وينتظر تديُّنًا حقيقيًّا. لقد حان وقت الاستيقاظ من الأصوليّة الّتي تلوِّث كلّ عقيدة وتفسدها. حان الوقت لجعل القلب صافيًا ورحيمًا. نحن بحاجة إلى الدّين للاستجابة لعطش العالم إلى السّلام، وللعطش إلى اللّامحدود الّذي يسكن قلب كلّ إنسان.

إنّ الحرّيّة الدّينيّة هي الشّرط الأساسيّ لتنميةٍ إنسانيّة حقيقيّة ومتكاملة. نحن خلائق حرّة. الحرّيّة الدّينيّة هي حقّ أساسيّ وأوّليّ، وغير قابل للتّصرّف، ويجب تعزيزه في كلّ مكان، ولا يمكن حصره في حرّيّة العبادة وحدها. في الواقع، من حقّ كلّ إنسان أن يشهد علنًا لعقيدته، من دون أن يفرضها، أبدًا. كما أنّ عزل أهمّ عقيدة في الحياة إلى المجال الخاصّ من شأنه أن يحرم المجتمع من ثروة هائلة.

تمثّل الجائحة، بين الضّعف والعلاج، التّحدّي الأوّل من أربعة تحدّيات عالميّة، أودّ تحديدها، وهي تدعو الجميع- وخاصّة الأديان- إلى مزيد من الوَحدة في مقاصدنا. لقد وضعَنا "كوفيد 19" جميعًا على قدم المساواة. شعرنا جميعًا بالهشاشة، وكلّنا بحاجة إلى المساعدة، لا أحد مستقلّ استقلالًا كاملًا، ولا أحد مكتفٍ بذاته بصورة كاملة. ولذلك، لا يمكننا الآن تبديد هذه الحاجة إلى التّضامن الّتي شعرنا بها، فنتابع تقدُّمَنا وكأنّ شيئًا لم يحدث، دون أن نسمح لأنفسنا بأن نستجيب لكلّ المتطلّبات الّتي تنادينا لمواجهة الظّروف الملّحة الّتي تهمّ الجميع معًا. وهنا، لا يجوز أن تكون الأديان لا مبالية: فهي مدعُوّة إلى أن تكون في الطّليعة، لتعزِّز الوَحدة أمام المحن الّتي تهدِّد الأسرة البشريّة بمزيد من التّقسيم.

إنّ المؤمنين في مرحلة ما بعد الجائحة مدعُوُّون إلى الاهتمام بالإنسانيّة بكلّ أبعادها، وإلى أن يصبحوا صانعي شركة ووَحدة، وشهودًا لتعاون يتغلَّب على أسوار انتماءاتهم الجماعيّة، والعرقيّة، والقوميّة، والدّينيّة. لنصبِحْ ضمائر نبويّة وشجاعة، ولْنَكُنْ قريبين من الجميع ولاسيّما المنسيّين العديدين اليوم، والمهمّشين، وأضعف وأفقر شرائح المجتمع، والّذين يعانون في الخفاء وفي صمت، بعيدًا عن الأضواء.

يقودنا هذا إلى التّحدّي الثّاني: تحدّي السّلام. وقد اهتمّ الحوار بين قادة الأديان بشكل أساسيّ بهذا الموضوع، في العقود الأخيرة. ومع ذلك، فإنّنا نرى أيّامنا هذه ما زالت تتَّسِم بآفة الحرب، وبمناخ مواجهات مستعرة، وبعدم القدرة على التّراجع ومدِّ اليد إلى الطّرف الآخر. ولنُوحِّدْ الجهود حتّى لا يصبح الله القدير مرّة أخرى رهينة إرادة القوّة البشريّة. الله سلام ويقود دائمًا إلى السّلام، لا إلى الحرب، أبدًا. لذلك دعونا نزداد التزامًا بتعزيز وتقوية الحاجة إلى حلّ النّزاعات، لا بتعليلات القوّة الّتي لا تؤدّي إلى نتيجة، ولا بالأسلحة والتّهديدات، لكن بالوسائل الوحيدة الّتي باركتها السّماء والجديرة بالإنسان: اللّقاء والحوار، والمفاوضات الصّابرة، الّتي تُجرَى مع التّفكير بشكل خاصّ في الأطفال والأجيال الشّابّة. إنّها تجسّد الأمل في أنّ السّلام لن يكون نتيجة هشّة لمفاوضات مملّة، بل ثمرة التزام تربويّ دائم، يعزِّز أحلامهم في التّنمية وفي المستقبل.

التّحدّي الثّالث هو التّرحيب الأخويّ. إنّ قبول الإنسان يقتضي جَهدًا كبيرًا. كلّ يوم، يتمّ التّخلّص من الّذين لم يولدوا بعد، ومن الأطفال والمهاجرين وكبار السّنّ. هناك نزوح جماعيّ كبير اليوم: من المناطق الأكثر حرمانًا يحاولون الوصول إلى المناطق الأكثر ثراءً. هذا ليس خبرًا من الأخبار، هذه حقيقة تاريخيّة تتطلّب حلولًا مشتركة وبعيدة النّظر. بالطّبع، إنّه أمر غريزيّ أن يدافع الإنسان عن مكتسباته في الأمن، فيغلق الأبواب خوفًا من الغير. ومن الأسهل الشّكّ في الغريب واتّهامه وإدانته بدل معرفته وفهمه. إنّه واجبنا أن نتذكّر أنّ الخالق، الّذي يسهر على خطوات كلّ مخلوق، يحُثُّنا على أن ننظر إلى المخلوقات نظرة شبيهة بنظرته، نظرة تتعرّف على وجه الأخ.

التّحدّي العالميّ الأخير الّذي يواجهنا هو حماية بيتنا المشترك. في مواجهة الاضطرابات المناخيّة، يجب حمايته، حتّى لا يُخضَعَ لمنطق الكسب، بل يُحفَظ للأجيال القادمة، ولتسبيح لخالق. أعدَّ العلِيُّ لنا بحُبٍّ بيتًا مشتركًا للحياة. ونحن، الّذين نعترف بأنّه بيتنا، كيف يمكننا السّماح بتلويثه والإساءة إليه وتدميره؟ لنوحِّد الجهود أيضًا في هذا التّحدّي. لنفكّر على سبيل المثال في إبادة الغابات، والاتجار غير المشروع بالحيوانات الحيّة، وتربية الحيوانات المكثّفة. إنّها عقليّة الاستغلال الّتي تدمّر البيت الّذي نعيش فيه. ليس هذا فقط: بل يؤدِّي كلّ هذا إلى تجاوز الرّؤية الدّينيّة الّتي تحترم العالم الّذي يريده الخالق. لذلك من الضّروريّ دعم وتعزيز حماية الحياة بجميع أشكالها.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنَسِرْ معًا، حتّى تزداد مسيرة الأديان دائمًا مودّة وصداقة. ليحرِّرْنا العليُّ من ظلال الشّكّ والباطل.. لا نبحَثْ عن مواقفَ توفيقيّة وهميّة، لكن لنحافِظْ على هويّاتنا، منفتحةً على شجاعة قبول الآخر، واللّقاء الأخويّ. بهذه الطّريقة فقط، في الأوقات المظلمة الّتي نعيشها، نتمكّن من أن نُشِعَّ نور الخالق."