البابا فرنسيس: كلمات الوصايا العشر الأخيرة تربّي الجميع على الاعتراف بأنّهم متسوِّلون
"تقودنا لقاءاتنا حول الوصايا العشر اليوم نحو الوصيّة الأخيرة. لقد سمعناها في الافتتاح. هذه ليست آخر كلمات في النّصّ وحسب بل هي أكثر من ذلك: إنّها تمام الرّحلة عبر الوصايا العشر وتلمس جوهر كلِّ ما أُعطي لنا من خلالها. في الواقع إن نظرنا جيّدًا، هذه الكلمات لا تضيف محتوى جديدًا: فالتّعليمات "لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ" هي موجودة في الوصايا حول الزّنى والسّرقة؛ فما هو إذًا دور هذه الكلمات؟ هل هي مُلخّص؟ أم هي أكثر من ذلك؟
لا يغيبنَّ عن ذهننا أنَّ جميع الوصايا تمتلك مهمّة الإشارة إلى حدود الحياة، حدود إن تمَّ تخطّيها يدمّر الإنسان نفسه وقريبه، ويخرِّب علاقته بالله. إن ذهبتَ أبعد ستدمِّر نفسك وتخرِّب العلاقة مع الله ومع الآخرين. هذا ما تشير إليه الوصايا. من خلال هذه الكلمة الأخيرة يتمُّ تسليط الضّوء على واقع أنَّ جميع المخالفات تولد من جذر داخليّ: الرّغبات الشّريرة. جميع الخطايا تولد من الرّغبات الشّرّيرة. جميعها! وهناك يبدأ القلب بالتّحرّك ويدخل الإنسان في تلك الموجة وينتهي به الأمر في المخالفة: ولكنّها ليست مخالفة قانونيّة بل هي مخالفة تجرحه وتجرح الآخرين.
يقول الرّبّ يسوع بوضوح في الإنجيل: "لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه" (مرقس ٧، ٢١-٢۳). نفهم إذًا أنَّ المسيرة بأسرها الّتي قامت بها الوصايا العشر لن يكون لها أيّة فائدة ما لم تلمس هذا المستوى، قلب الإنسان. من أين تولد جميع هذه الأمور السّيّئة؟ إنّ الوصايا العشر تظهر واضحة وعميقة من هذا الجانب: إنَّ نقطة الوصول لهذه الرّحلة- أيّ الوصيّة الأخيرة- هي القلب، وإن لم يتحرّر هذا القلب، فالباقي لا يأتي بفائدة تُذكر. هذا هو التّحدّي: تحرير القلب من جميع هذه الأمور الشّرّيرة والسّيّئة. يمكن لوصايا الله أن تتحوّل إلى مجرّد واجهة جميلة لحياة تبقى بأيّة حال حياة عبيد ولا أبناء. غالبًا ما يختبئ خلف القناع الفرّيسيّ للاستقامة الخانقة شيء سيّء ومُبهم.
ينبغي علينا أن نسمح لهذه الوصايا حول الرّغبة بأن تُزيل القناع عنّا لكي تُظهر لنا فقرنا وتقودنا نحو الخزي المقدّس. يمكن لكلٍّ منا أن يسأل نفسه: ما هي الرّغبات السّيئة الّتي تجتاحني غالبًا؟ الحسد، الجشع، الثّرثرة؟ جميع هذه الأمور تأتي من داخلنا ليسأل إذًا كلٌّ منّا نفسه وهذا الأمر سيفيده. يحتاج الإنسان لهذا الخزيّ المبارك: ذلك الّذي يكتشف بواسطته أنّه لا يمكنه أن يتحرّر بنفسه ولذلك يصرخ إلى الله لكي يخلِّصه. يشرح القدّيس بولس هذا الأمر بشكل لا مثيل له بالإشارة إلى الوصيّة لا تشتهِ (راجع روما ٧، ٧-٢٤).
إنّه لأمر باطل أن نفكرّ أنّه بإمكاننا أن نصلح أنفسنا بدون عطيّة الرّوح القدس. إنّه لباطل أن نفكّر بأن نُطهِّر قلوبنا بواسطة الجهود الجبّارة لمشيئتنا وحسب. إنّه أمر مستحيل! علينا أن ننفتح على العلاقة مع الله في الحقيقة والحرّيّة: هكذا فقط يمكن لتعبنا أن يُثمر، لأنَّ الرّوح القدس هو الّذي يحملنا في المسيرة قدمًا. إنَّ مهمّة الشّريعة البيبليّة ليست أن توهم الإنسان بأنّ الطّاعة الحرفيّة ستحمله نحو خلاص مدبّر ولا يمكن بلوغه. مهمّة الشّريعة هي أن تحمل الإنسان إلى حقيقته، لا بل إلى فقره الّذي يصبح انفتاحًا حقيقيًّا وشخصيًّا على رحمة الله الّتي تحوِّلنا وتجدّدنا. الله وحده قادر على تجديد قلوبنا، شرط أن نفتحها له: هذا هو الشّرط الوحيد وهو سيقوم بالباقي! علينا فقط أن نفتح له قلوبنا.
إنَّ كلمات الوصايا العشر الأخيرة تربّي الجميع على الاعتراف بأنّهم متسوِّلون؛ وتساعدنا لكي نضع أنفسنا أمام فوضى قلوبنا لكي نتوقّف عن العيش بشكل أنانيّ ونصبح فقراء بالرّوح وصادقين أمام الآب ونسمح للإبن أن يفتدينا وللرّوح القدس أن يعلّمنا. الرّوح القدس هو المعلِّم الّذي يقودنا: لنسمح له أن يساعدنا. نحن متسوِّلون ونطلب هذه النّعمة.
"طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات" (متّى ٥، ۳). نعم طوبى للّذين يتوقّفون عن خداع أنفسهم معتقدين أنّه بإمكانهم أن يخلصوا من ضعفهم بدون رحمة الله التي وحدها بإمكانها أن تشفي القلب. طوبى للّذين يعترفون برغباتهم الشّريرة بقلب تائب ومُهان ولا يقفون أمام الله والبشر كأبرار وإنّما كخطأة. جميل ما يقوله بطرس للرّبّ: "تباعد عنّي يا ربّ، لأنّني رجل خاطئ". جميلة هذه الصّلاة: "تباعد عنّي يا ربّ، لأنّني رجل خاطئ". هؤلاء هم الّذين يعرفون كيف يُشفقون على الآخرين ويرحمونهم لأنّهم قد اختبروا الشّفقة والرّحمة بأنفسهم".